لقد فقدت لُتَّى بيرجر كايدرلينج والدتها في الهولوكوست — واستمرت في حياتها وتزوجت وأنجبت ثلاثة عشر طفلاً «لتخيِّب أمل هتلر.»
قبل أيام قليلة من وفاة صديقتي لُتَّى كايدرلينج في أغسطس من عام 2020م، استلمتُ منها بطاقة بريدية مُزيَّنة بصورة مرفقة، ومكتوبة بخط يدها — وكانت هذه البطاقة هي الرسالة الأخيرة من بين العديد من الرسائل التي أرسلتها من منزلها في أحد مجتمعات برودرهوف الواقع في شمال ولاية نيويورك إلى عنواني في المناطق الريفية الأسترالية. فقد كنا أصدقاء منذ أوائل العشرينيات من عمري، عندما ساهمتُ في رعاية ابنتها سونيا، التي احتاجت إلى رعاية بدوام كامل لأنها كانت مُعاقة. وبقينا على تواصل منذ ذلك الحين — بفضل موهبة الصداقة التي تتسم بها لُتَّى؛ وكانت لا تزال تتراسل مع العشرات من أفراد «الأسرة» الكبيرة من أمثالي المنتشرين في جميع أنحاء العالم، رغم أنها كانت في سن التاسعة والثمانين. وفي الواقع، قد أصبحنا أقارب فعلا مؤخرًا عندما تزوج أحد أبناء أختي من حفيدتها؛ وفي أثناء كتابتي لهذه المقالة، فأنا أحمل على ذراعي التي لا أكتب بها طفلتهما الرضيعة، ايفا Ava، التي هي ابنة حفيدة لُتَّى.
ولكني لم أفهم إلاَّ في عام 2018م لماذا كانت أسرة لُتَّى عزيزة وغالية جدًا على قلبها، سواء كانت أسرتها الأصلية أو الأسرة التي قامت بتبنيها وهي طفلة، وذلك عندما قامت برحلة العودة إلى فيينا. لقد كانت دائمًا تصف المدينة التي تربت فيها بعبارات حيوية، مثل: بلد العجائب المليئة بالمتنزهات التي تصطف على جانبي ممراتها أشجار كستناء الجبل حيث كانت هي ووالدها تجمع الكستناء؛ وبلد الموسيقيين على مستوى عالمي؛ وبلد موسيقى الفالس للموسيقار شتراوس؛ وبلد كيكة التورتة اللذيذة. وكانت تتحدث عن الإجازات التي كانوا يقضونها في جبال الألب، وعن الآيس كريم على نهر الدانوب، وعن محبة والديها الحنونين التي تغمر قلب أي طفل. وعندما بلغت لُتَّى سن الرشد، كانت لا تزال بإمكانها أن تغني أغنية شعبية نمساوية علَّمها إياها والدها: «Nun ade, du mein lieb’ Heimatland» (وداعا يا وطني الغالي).
وقد تذكرتْ قبل كل شيء دولاب الهواء الدوَّار العجيب، أو كما يسمونه «ريزنراد Riesenrad،» إذ كان كل طفل في فيينا يحلم آنذاك بركوب أعلى دولاب هواء في العالم. وكانت تتحدث عن المشي جنبًا إلى جنب مع والدها في أيام الآحاد في فترة ما بعد الظهر على طول مدينة الملاهي Wiener Prater، في منطقة ريزنرادبلاتز Riesenradplatz في فيينا. وكانت لُتَّى تتوسل هناك بوالدها لتركب معه دولاب الهواء قائلة:
«رجاءً، بابا، رجاءً؟»
لكن الجواب كان دائمًا نفسه: «يا لُتَّتي الحبيبة، سآخذك عندما تكبرين. وليس الآن.»
كانت هذه الذكريات الثمينة عبارة عن طفولة كاملة، مكثفة في بضع سنوات قصيرة. وانتهت فجأة، عندما اسْتَقَلَّتْ قطارًا بدون والديها؛ ولم تَعُد إلاَّ بعد ثمانية عقود.
عندما كانت لُتَّى في سن السابعة، وبعد أحداث العملية العسكرية النازية السلمية بضم النمسا إلى ألمانيا، المعروفة باسم آنشلوس Anschluss عام 1938م، شاهدت لُتَّى هتلر وهو يصرخ من شرفة مزخرفة بالصليب المعقوف إلى الحشود الهائمة في حب هتلر وهي تهتف بالتحية النازية: «يحيا هتلر!» ولم يمضِ طويلا حتى أخذ الأولاد في الشوارع يطاردونها وهم يصيحون: «يهودية! يهودية!» وتمت مصادرة مخبز والديها؛ وكانت تتذكر كيف رفض والدها مطالب فرق النازيين المتجولين بتنظيف الحانة المقابلة لمنزلهم في الليل.
في يونيو من عام 1939م، وبعد أن شعر والداها جوزيف وفاليري بيرجر بأن فاجعة مميتة وشيكة جدًا، وضعا ابنتهما المحبوبة لُتَّى والغالية جدًا على قلبيهما، التي كان عمرها سبع سنوات، في قطار نقل الأطفال المعروف باسم Kindertransport إنقاذًا لحياتها مع حقيبة صغيرة، وبطانية، وأطعمتها المفضلة. وقالا لها إنها ذاهبة إلى مكان فيه خيول. (تخيلت لُتَّى سلالة خيول ليبيزان في مدرسة الفروسية الإسبانية في فيينا). ووعداها بأنهما سيتبعانها قريبًا.
اسْتَقَلَّتْ لُتَّى القطار مع مئات الأطفال الآخرين الذين كانوا يبكون، وبعد فترة وجيزة من إعادة الاتصال بأقاربها في لندن، تم الترحيب بها في مجتمع كوتسوولد برودرهوف Cotswold Bruderhof، الذي قدَّم عرضًا تطوعيًّا باستقبال أربعة أطفال من الذين فروا من الاضطهاد النازي.
وعند وصول لُتَّى إلى مجتمع كوتسوولد، أخذت تحدِّق من حواليها وقالت في نفسها: «كل هؤلاء النساء يرتدين إيشاربات وفساتين طويلة. واعتقدتُ أنني هبطت على كوكب مختلف.» ومع ذلك، سرعان ما شعرت لُتَّى وكأنها في بيتها، فيما وصفته بـ «جو من المحبة.»
ورغم ذلك، كانت لُتَّى تبكي في الليالي كلما فكرت في والديها إلى أن يغلبها النعاس فتنام. وكان ذلك يحصل لعدة ليالٍ. ولم يكن تهديد النازية بعيدًا عنها على الإطلاق؛ وكانت تتذكر كيف كانت تلعب فيما بعد في المروج الإنجليزية وترى الصليب الأسود النازي المعهود على طائرات ألمانيَّة حربيَّة وهي تُحلِّق على ارتفاع منخفض.
في عام 1941م، عندما أصدرت الحكومة البريطانية أوامر لمجتمعات برودرهوف في إنجلترا بالهجرة إلى أمريكا الجنوبية وإلاَّ ستواجه الاعتقال، أُعيد الأطفال الثلاثة الآخرون في مجتمع كوتسوولد برودرهوف الذين جاؤوا بواسطة قطار نقل الأطفال إلى أقاربهم. ولكن عندما سُئِل جوزيف وفاليري عما إذا كانا يوافقان بأن تغادر لُتَّى إنجلترا متوجهة إلى باراغواي مع مجتمع برودرهوف، كتبا رسالة على الفور: «خذوها بعيدا عن هتلر على أكبر قدر ممكن.»
وعندما كانت جماعة برودرهوف تكافح من أجل بناء مجتمع جديد في أدغال باراغواي، تمتعت لُتَّى بما وصفته بطفولة سعيدة، حيث كانت عائلات عديدة تحتضنها. ومع ذلك، كانت تتوق إلى لمسة والدتها. وذات مرة، لاحظت والدة إحدى صديقاتها أنها حزينة وأخذتها في حجرها لتهدئتها، وكانت لحظة اعتزت بها لُتَّى لبقية حياتها
خلال السنة الأولى في باراغواي، تلقت لُتَّى رسائل بشكل متواصل من والديها اللذين كانا لا يزالان في فيينا. ثم توقفت الرسائل. ومرت فترة، وأصبحت ذكرى والديها تتباعد عندها تدريجيا. ولكن في يوليو 1945م، وصلت رسالة من والدها، مختومة بختم بريد معسكر الاعتقال النازي بيرغن بيلسن Bergen-Belsen، يقول فيها:
عزيزتي طفلتي الغالية،
أنت ستفرحين بالتأكيد باستلام رسالة من بابا. وأتمنى أن تكوني بخير، كما أنا بخير. لم أسمع لحد الآن عن مكان وجود عزيزتك ماماتكِ، لأنه كان على الجميع السفر إلى جهات مختلفة بسبب هذه الحرب. وآمل أن أراكِ قريبًا؛ وأريد إما أن أزورك أنا وإما أن يزورك عمك أدولف. وأرجوك أن تردي على هذه الرسالة فورا.
آلاف القبلات من باباكِ.
تحياتي إلى لين شولز [الوَصِيَّةُ على لُتَّى]، وإلى زملائك في المدرسة، وإلى السيد ترومبي [معلمها].
بعد وقت قصير من وصول هذه الرسالة الموجزة، أخذتها معلمتها لتتمشَّى معها وأخبرتها بأن والدتها توفيت. وقد جاء الخبر من الطبيب الذي عالج والدها عند خروجه من معسكر الاعتقال النازي بيرغن بيلسن — وقال الطبيب إنَّ وزن والدها وصل إلى 45 كيلوغرام فقط. فبكت لُتَّى بكاءً مُرًا.
بدأت لُتَّى تتراسل مع والدها. وفي مايو 1948م كتب والدها رسالة لها من بلدة صغيرة في ولاية بافاريا الألمانية:
عزيزتي لُتَّى!
لقد استلمتُ رسالتكِ العزيزة المؤرخة في 16 أبريل، وفرحتُ بها كثيرًا جدًا. فأنا أطمئن عندما تكتبين لي رسالة بانتظام. وأتمنى لو كان بمقدوري إرسال ساعة اليد التي وعدتكِ بها بالبريد.
وبما أنكِ لا تتذكرين هاري راب، فها أنا أرسل لكِ صورة له اليوم، حيث تظهرين فيها أنتِ وعزيزتكِ ماماتكِ أيضًا. وكنا في ذلك الوقت نقوم بزيارتكِ في دار استراحة الأطفال في منتجع أنابيرج عندما ذهبتِ إليه مع تلاميذ صف مدرستكِ في رحلة للتزلج. وأرجوكِ أن تحتفظي بهذه الصورة؛ فهي عزيزة علينا. لقد حصلتُ عليها من خالتكِ كارلا.
أما زلتِ تتذكرين وقتما علَّمتكِ ركوب دراجة هوائية صغيرة؟ فمن الجيد أن يمارس المرء شيئا من الرياضة. وأنا أيضًا أركب دراجتي الهوائية في بعض الأحيان. وهل تتذكرين عندما ذهبنا للتزلج على الجليد؟ وربما يأتي الوقت الذي يمكننا فيه القيام بذلك معًا مرة أخرى. أمَّا الجو هنا فحار جدًا الآن؛ وعندما أرى الأطفال يأكلون الآيس كريم، أفكر فيكِ دائمًا، لأنني أعرف مدى حبكِ له أنتِ أيضًا.
والآن، يا طفلتي العزيزة، ستحتفلين قريبًا بعيد ميلادكِ السابع عشر، وأود أن أعبِّر عن تمنياتي لكِ بكل الخير والتوفيق لهذا اليوم. ولتتحقق كل أمنياتكِ، ولعلكِ تكونين بصحة جيدة وفرح دائمًا. وأسأل الله أن ينعم عليَّ أيضًا بفرحة معانقتكِ مرة أخرى، بعد سنوات عديدة من الانفصال.
وأرجوكِ أن تفكري في هذا اليوم في باباكِ البعيد جدًا عنكِ.
لم تتحقق رغبة والدها جوزيف مطلقًا. وقد هاجر في النهاية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استقر في منطقة شلالات نياجارا، في ولاية نيويورك. وكان كلاهما يحلمان بجمع الشمل، غير أن تكاليف السفر بين باراغواي والولايات المتحدة شكَّلت عقبة اقتصادية هائلة، وقبل أن يتمكنا من أن يلتقيا مرة أخرى، توفي الوالد.
في غضون ذلك، كانت لُتَّى قد بلغت سن الرشد، وفي عام 1950م، وفي سن التاسعة عشرة، وقعت في حب رولاند. وأصبحت هذه القصة عندها قصة لا تَمَلُّ ولا تكلُّ من روايتها، فكانت تقول: «كان رولاند ألمانيًّا، ولكنه لم يقلق أو يغتمَّ لكوني يهودية. لقد أحبني بصدق، وأنا أحببته أيضًا. وتزوجنا عام 1952م، ومن ثم — هل بإمكانكم أن تحزروا ماذا حصل؟! — لقد أنجبنا ثلاثة عشر طفلاً. لذلك أقول: ‹خَيَّبْتُ أمل هتلر.›»
بدأ حب لُتَّى لرولاند وحبه لها يشفيان جراح الخسارة التي رافقتها طوال طفولتها. وبعد سنوات من زواجها، كتبت عن أول يوم لهما في فترة بعد الظهر عند رجوعهما من شهر العسل، عندما استقرا في أول شقة صغيرة لهما تتكون من غرفة واحدة. فكتبت تقول: «جلسنا على طاولتنا، أمَّا أنا فأجهشتُ بالبكاء، لأنه أصبح لدينا الآن بيت عائلي خاص بنا. فمنذ أن تركتُ والديَّ عندما كنت طفلة صغيرة، لم يكن لديَّ في الحقيقة أي بيت خاص بي — إذ عادة ما كانت عائلات أخرى تهتم بي دائمًا. فقد كان الحصول على بيتنا الصغير يعني الكثير بالنسبة إليَّ، واحتفظتُ به كعلبة مجوهرات صغيرة، ووضعتُ فيه زهورًا نضرةً دائمًا وجعلته جميلاً جدًا.»
وأخذ الأطفال يأتون متتابعين الواحد بعد الآخر. وولدت لُتَّى طفلتهما الثالثة سونيا، في عام 1957م، وهي بصحة جيدة، وبُنِّيَّة العينين، وقوية، وكان وزنها نحو خمسة كيلوغرامات. وكانوا لا يزالون يعيشون آنذاك في باراغواي. وعندما أصبح عمرها خمسة أشهر، تحولت الحالة المرضية عندها التي كانت تبدو مجرد التهاب في الأذن إلى مرض التهاب سحائي حاد. وعلى الرغم من نقل سونيا إلى العاصمة أسونسيون لتلقي العلاج، إلاَّ أنها كادت تموت، بسبب معاناتها من تلف شديد في الدماغ. ولم تكن قادرة مطلقًا على التحدث، أو المشي، أو الاعتناء بنفسها. غير أن لُتَّى، ولاحقًا أولادها الآخرين أيضًا، كرَّسوا أنفسهم معًا لخدمة سونيا للأربعين عامًا التالية، حتى وفاتها في عام 1998م.
وبحلول هذا الوقت، كبر ابن لُتَّى وبقية بناتها الإحدى عشرة، وتزوج العديد منهم وأصبح لهم عائلات. أمَّا اليوم فيعيش أحفادها الثمانية عشر وستة من أولاد أحفادها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وهنا في أستراليا (في حالة أسرة الطفلة ايفا).
في عام 1994م، زار رولاند ولُتَّى، اللذين كانا مستقرين في نيويورك لفترة طويلة، متحف الهولوكوست التذكاري في العاصمة واشنطن، لتسجيل اسم والدتها، على أمل أن يساعد ذلك في الكشف عن مزيد من المعلومات حول سجنها ووفاتها. ولم يمضِ وقت طويل بعد ذلك، حتى استلمت لُتَّى رسالة، سُلِّمَت لها باليد من الصليب الأحمر الأمريكي، التي أعطتها أخيرًا بعض المعلومات القليلة. فقد علمتْ أن والدتها فاليري بيرجر تم ترحيلها من فيينا إلى حي لودز اليهودي Litzmannstadt (Łódź) Ghetto، في بولندا، بتاريخ 19 أكتوبر 1941م؛ ومن بعد حوالي ستة أشهر من مكوثها هناك توفيت والدتها، بتاريخ 7 مايو 1942م. وكانت لُتَّى ممتنة للغاية لمعرفة تاريخ وفاة والدتها، ولكن المعلومات الضئيلة التي حصلت عليها خلَّفت في مخيلتها الكثير من التصورات المُقلِقة، وغالبًا ما كانت لُتَّى تجد نفسها تأمُلُ في أعماق كيانها في أن وفاة والدتها لعلها كانت طبيعية وحصلت بكرامة.
في عام 2018م، صممت لُتَّى العودة إلى فيينا للقيام بزيارة للمدينة. فأرادت أن ترى مدينة طفولتها، إلاَّ أن عمرها في ذلك العام كان سبعة وثمانين عامًا وكانت أرملة (لأن زوجها رولاند توفي عام 2000م). وأخيرًا، انعكست أغنية الوداع الشعبية (وداعا يا وطني الغالي) التي علَّمها إياها والدها.
عندما كانت هي وابنتاها اللتان سافرتا معها يسرن في شوارع مدينة فيينا، مدينة مسقط رأسها الحبيبة، وشربن قهوة مغطاة بالكريمة، ووقفن خارج مخبز والديها ومنزل أسرتها الأصلي، شعرت لُتَّى برابطة تربطها بوطنها وشعبها. وإنَّ بعض الناس الغرباء الذين سمعوا قصتها دفعوا أجرة التاكسي لها. في حين رفض آخرون أن تدفع لهم ثمن وجبة الطعام أو الصور في الأستوديو أو الهدايا التذكارية. ودعاها مدير مدرسة ثانوية محلية للتحدُّث إلى طلابه.
جاءت لحظة معينة من مشاعر استعادة الذكريات عندما كانت تتمشَّى في طريقها المفضل المليء بأشجار كستناء الجبل في متنزه فيينا العام. وهنا استعادت كل حبة كستناء ساقطة على الأرض طفولتها الضائعة بطريقة ما، وابتهجت وبكت. وأخذت تتأمَّل تأمُّلاً كاملاً في آلام ومعاناة والديها، وفي آلامها ومعاناتها الشخصية كذلك، وكأنها كانت المرة الأولى التي تصادفها.
وطبعا، ركبت لُتَّى دولاب الهواء ريزنراد؛ وقد حصل سؤالها البالغ من العمر ثمانين عامًا: «بابا، متى سأركب؟» على جواب في آخر الأمر. وأخبرتني إحدى ابنتيها فيما بعد بأنها كانت لحظة عجائبية طاهرة وخالية من الهموم. وعندما حمل دولاب الهواء لُتَّى عاليًا فوق المدينة التي أحبت لُتَّى من جهة وخانتها من جهة أخرى، أصبح الدولاب الهائل رمزًا للختام؛ لقد دارت الحياة دورة كاملة في اتحادٍ من الاكتمال والسلام. وربما كان والدها معها في مقصورة الجندول.
لكن الزيارة إلى فيينا كانت استمرارًا لقصة لُتَّى وليس نهايتها. ومن بين النمساويين الذين قابلتهم امرأتان، أوتا لانغ وماري لويز فايسنبوك، الملتزمتان بالعمل من أجل المصالحة فيما يتعلق بالفظائع المرتكبة في حق يهود النمسا. وبعد أن عادت لُتَّى إلى بيتها في الولايات المتحدة الأمريكية، رتبوا الأمر مع بعض الباحثين للتحقيق في مَنْ كان جوزيف وفاليري بيرجر، وماذا حدث لهما.
بعد مرور عام على الرحلة، علمت لُتَّى أن والديها قد تم ترحيلهما معًا إلى بولندا. وكانت هذه أخبارًا سارة لها — فقد كانت دائمًا تظن أنهما فُصِلا أحدهما عن الآخر منذ البداية، بسبب رسالة والدها من بيرغن بيلسن، لذلك شعرت لُتَّى بشيء من الراحة لمعرفة أنهما قضيا الأشهر الستة الأخيرة لوالدتها معًا.
تبع ذلك مزيد من التفاصيل. فقد تبيَّن أن والديها لم يكونا خبازين، كما افترضت لُتَّى دائمًا؛ فقد كانت والدتها تمتلك مخبزًا، بينما كان والدها يعمل في مجال الشؤون المالية. ووجد باحثون آخرون معلومات بعد أن بحثوا طويلا في عنوان أسرة بيرجر في حي لودز اليهودي في بولندا، وقد سهَّلت تلك المعلومات عليهم تخمين الكيفية التي ماتت فيها فاليري. فقد جزموا بأنها كانت من بين الآلاف من السكان غير الملائمين جسديًا في الحي اليهودي، الذين تم اعتقالهم في أوائل مايو 1942م «لتخفيف الاكتظاظ السكاني.» فقد سُمِّمُوا جميعهم بالغاز في الشاحنات المتنقلة للإبادة بالغاز.
عندما اتصلت كرستين، ابنة لُتَّى، هاتفيًّا بوالدتها لتخبرها بالكيفية التي ماتت فيها فاليري، بكت لُتَّى وقالت: «لقد قتلوا أمي الحبيبة!» ومع ذلك، قالت لُتَّى لأسرتها رغم أنها في هذا الحزن الجديد، إنها تحمد الله وتشكره على أنها عرفت الحقيقة أخيرًا. وكان ردها كالآتي:
لقد تعلمتُ كيف يمكن للكراهية والأنانية أن تسيِّر شخصا مثل هتلر وتدمِّر حياة الملايين من الناس تدميرًا كاملاً. ولكني تعلمتُ أيضًا مدى أهمية الكشف عن القصص الرائعة التي يمكن أن يرويها الناس عن الأحداث الخيِّرة المذهلة، التي تُعتبَر أسس التاريخ نفسه.
ولنَعُدْ إلى فيينا، حيث كانت أوتا لانغ تعمل جاهدة لضمان الحفاظ على ذكرى أسرة لُتَّى. ففي العقود الأخيرة، نُصِبَتْ عشرات الآلاف من أحجار شتولبرشتاينة Stolperstein النحاسية المتميزة في مظهرها (وتعني الكلمة: حجر عثرة)، وهذه الأحجار محفورة عليها أسماء ضحايا الاضطهاد النازي — ويجري نصبها في الأرصفة أو الشوارع بجانب آخر منزل أو مكان عمل لليهود وغيرهم من ضحايا الهولوكوست الذي كانوا يسكنون أو يعملون فيه قبيل اضطهادهم. وفي الفكرة رمز معنوي: فهي بمثابة حجر عثرة رمزي للمارة، وتدعو إلى التفكير وإحياء الذكريات. وقد تم تكليف اللجنة بصنع حجر شتولبرشتاينة لأسرة لُتَّى، ليجري نصبه خارج منزل طفولتها. وقد تم تأجيل موعد التكريس، الذي حُدِدَ مبدئيًّا في مايو 2020، إلى يوم 27 سبتمبر 2020م، بسبب وباء كوفيد–19.
وكانت لُتَّى تطلَّع إلى يوم تكريس شتولبرشتاينة بشغف كبير، وكتبت عليها هذا البيان:
أريد أن أعبِّر عن امتناني العميق لوالديَّ العزيزين، والدي جوزيف بيرجر، ووالدتي فاليري بيرجر، اللذين تَحَلَّيَا بالشجاعة لإرسال ابنتهما الوحيدة إلى برِّ الأمان في إنجلترا، في يونيو من عام 1939م، في أوقات خطيرة للغاية من الاضطهاد النازي، ليس اضطهادهما شخصيًّا فحسب، بل اضطهاد جميع اليهود، بما في ذلك الأطفال.
قبل شهر من مراسيم الاحتفال بهذا التكريس، توفيت لُتَّى. ورسمت الأسرة لوحة لدولاب الهواء ريزنراد على غطاء تابوتها المصنوع من خشب الصنوبر.
أمَّا ابنتها كرستين فقد حضرت حفل تكريس حجر شتولبرشتاينة نيابة عن والدتها، مع حوالي خمسة وعشرين شخصا من الأقارب والأصدقاء الآخرين. وبناءً على طلب لُتَّى، رنَّم معًا أولئك الحاضرين، كلمات النبيين إشعيا وميخا، مُنغَّمة بلحن يهودي قديم جدًا:
يطبعون سيوفهم محاريث،
ولن تتدرب الشعوب على الحرب من بعد.
وسيقيم كل واحد تحت كرمته وتحت تينته،
وسيعيش في سلام ولن يكون هناك من يُرعِبه.
أخبرتني كرستين: «لقد شعرتُ بوجود أمي معنا في تلك اللحظات. فهي تنعم الآن بالسلام التام، وكانت معنا عندما كنا نُرنِّم.»