وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ الله. (غلاطية 6: 14–16)
ربُّ الخليقة وإله الأمم لديه ناس آخرون غيرنا. فنحن المسيحيين لسنا تمامًا أهمَّ وأفضل ناسٍ في العالم عند الله! فنحن مجرد مجموعة واحدة، ولكن هناك أفرادٌ آخرون أيضًا. لقد قال يسوع المسيح:
وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. (يوحنا 10: 16)
وحين يشتملنا الرب الإلَه مع بقية الرعيَّة، فإنما هو لطفٌ بالغٌ منه. وينبغي أن نضع هذا الموضوع في بالنا باستمرار، لا بل ينبغي أن نشعر به أيضًا، لكي تتوسع آفاقنا. فنحن بحاجة إلى استرداد رؤية واقعية لوضعنا الروحي، لا لأجلنا بل لأجل الله الآب وأهدافه. ولهذا السبب لا يمكنني أن أتسامح في تركيز الناس على المفهوم الزائف لموضوع الخلاص. فأنا غاضب للغاية على كنيستنا، لأن شغلها الشاغل صار مجرد توجيه الناس إلى كيفية الحصول على الخلاص، والتشديد على الخلاص الشخصي فقط، ولا نسأل الله الآب عن مشيئته للعالم كله؛ ومما لا شك فيه أن نيل الخلاص الشخصي جزء مهم من الحياة المسيحية، غير أنه غير منفصل عن السعي لتحقيق قصد الله الآب وأهدافه. إذ إنَّ الخلاص الحقيقي يعمل دائمًا لأجل تحقيق ملكوت الله.[1] فيجب أن نتوق أولاً إلى أن يغيِّرنا الله، ويصحِّح مواقفنا الروحية. فالتشديد على المصلحة الذاتية في الحياة المسيحية أمرٌ باطلٌ.
فكما أن خصلتي الخساسة والانتفاع موجودتان لدى الابن العاصي — الذي يخالف كلام والديه — ويشترط مطالبه على الآخرين ليجعلوه سعيدًا، فهكذا يوجد مسيحيون يبدون أنهم يريدون دائمًا أن يكونوا الأوائل، والأهم من بقية الناس. فيسخرون من الملائكة. وهم أكثر الناس المنتفخين في العالم، ولا يفكرون في مدى نجاسة الشركة التي سوف يشكلونها في السماء بوجودهم فيها. فيجب أن يزداد تفكيرنا في هذا الأمر. فإذا كُنَّا أولاد الله، فسيصبح خلاصنا الشخصي في الأساس أمرًا ثانويًّا. فالهدف الرئيسي هو أن نعمل بمضاعفة الجهود، أيْ أن نسعى لإتمام خلاصنا عمليًّا:
إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ. (فيلبي 2: 12–13)
فينبغي أن تهدف كل أفكارنا ورغباتنا إلى رؤية الله مُمَجَّدًا عند كل البشر، وليس إلى رؤية أنفسنا مُمَجَّدة. فإنها ليست مسألة تطلُّعنا إلى الموت والذهاب إلى السماء. لا، أبدًا! فإذا كنتُ أنا من أولاد الله، فأول شيء يجب أن أتعلَّمه هو نسيان نفسي، ونكران ذاتي، والسعي للحصول على خليقة إنسانية جديدة. فهذه النقطة قد أُسيء فهمها كثيرًا.
إذا كُنَّا نطلب خلاصنا الشخصي أولاً، ومن ثم ملكوت الله ثانيًا، فلن يكون هناك أيُّ نورٍ إلَهِيٍّ على الأرض أبدًا. فسيزداد البؤس، ولن تتراجع الظلمة. وربما هناك الكثيرون الذين يبتهجون بنعيم السماء، أمَّا على الأرض، فسيزداد البؤس، والضيقات، والمأساة، بمرور كل عام. ولهذا أعطانا الرب الإلَه دافعًا جديدًا، ومؤثِّرًا في قلوبنا لنصرخ: «لا، لن نفكر أولاً في خلاصنا. ولن نسعى لمصلحتنا الذاتية أولاً! فإننا نريد أن نكون خُدَّامًا! ونريد أن نسعى للخلاص الذي ينعم به الله بمعناه الصحيح، ونريد أن نسعى لمجد الله، ولملكوت الله!»
إننا لا نريد بالدرجة الأولى تخليص أنفسنا، ومن ثم الاكتفاء بهذا. بل نريد أن نأخذ على محمل الجد أنين كل الخليقة، وحزن وصراخ عدد لا يحصى من البشر، الذين لم يساعدهم خلاصنا بشيء بالتأكيد، إلاَّ أن السبيل الوحيد لمساعدتهم هو أن نصرخ إلى الله الآب ونُصلِّي: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ!» فلن ينالوا المساعدة إلاَّ بعد أن نشهدُ نحن أنفسنا تَدخُّل الله في حياتنا، ذلك التدخُّل المصحوب بمعارك حامية، وصراعات روحية شديدة، والمصحوب أيضًا بالتخلِّي عن رفاهيتنا، وحتى عن خلاصنا «الشخصي.»
فهذا ما قد دُعيت إليه الكنيسة، ولهذا أنا أصرخ وأنادي: «انسَوا ما هو لكم! وانكُروا ذواتكم، وسيروا مع يسوع إلى الصليب إكرامًا لمجد الله، واترُكوا أمر خلاصكم لخالق الكون. فلا تفكِّروا في نفوسكم؛ بل فكِّروا في الحزن الذي يملأ قلب أبيكم السماوي، الذي يتوق إلى أن يُخيِّم سلامه على كل مخلوق.» وقد قال الرب يسوع المسيح:
وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهَذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهَذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ. حَقًّا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ.» (لوقا 9: 23–27)
ولكن مَنْ تراه مُستعِدًّا لمساعدة الله، ومُستعِدًّا لأن يكون رهن إشارته؟ ومَنْ سيضحي بنفسه ويحمل الصليب؟ ومَنْ سيتخلَّى عن مساعيه الشخصية مهما كانت جيدة، ليخدم الآب السماوي؟ ومَنْ مِنَّا، خاصة نحن المسيحيين، سيتخلَّى عن سعادة هذا العالم؟ ومَنْ سيسمح لقضاء الله بأن يأتيه، ليدين خطاياه، ويتوب، ويغيِّر أسلوب حياته؟ ومَنْ سيطلب من يد الله تحقيق العدل على هذه الأرض؟
أمَّا المسيحيون الأوائل، فيخبرنا الكتاب المُقدَّس عنهم وعن شِدَّة الجهاد الذي وجدوا أنفسهم فيه، وعن الأوقات العصيبة جدًا التي مرُّوا بها. غير أننا نادرًا ما نجد اليوم مسيحيًّا واحدًا من بين كل ألف مسيحي مَنْ هو قادر على تحمُّل صراع كهذا. فقد كان الجميع ينظرون إلى المسيحيين الأوائل على أنهم منبوذون، تمامًا كما يُنظر إلى الغجر في يومنا هذا. فكان يُنظر إليهم على أنهم لا ينتمون إلى الطبقة المثقفة، لأنه لم يكُن لديهم سوى «شخص مصلوب» الذي يعتبرونه إلَهًا لهم. فكان الناس يقولون عن المسيحيين: «يا لها من حماقة أن يكون للمرء إلَهًا كهذا!»
فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ. لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ. لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ. بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ، وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ.» (1 كورنثوس 1: 26–31)
أمَّا في زماننا الحاضر، فليس لدينا أيُّ فكرة عمَّا يعنيه هذا حقَّا. فمِن السهل اليوم أن يؤمن المرء بالمصلوب وأن يكون مسيحيًّا [على الأقل في بعض الدول]، ولكن في تلك الأيام، كان يُعتقد أن مَنْ يؤمن بالمصلوب يكُن شخصًا أحمق جدًا. فلذلك، أخذ الرسل يستخدمون الكثير من التعبيرات السامية فيما يتعلق بخلاصنا، من أجل تقوية إيمان المسيحيين الأوائل، لأن الكنيسة وجدت نفسها في وسط سعير المعركة، إذ كانت تخوض معارك روحية حامية واضطهاد فعلي عسير، فأراد الرسل تقوية إيمان المسيحيين، لكيلا ينهكوا في الجهاد الروحي والتكريس وتقديم التضحيات، بل أن يُبْقوا نصب أعينهم — رغم كل المصاعب — على الجائزة والجوهرة الثمينة، ألا وهي: نعمة الخلاص. فكان هذا هو الهدف الرئيسي للرسول بولس في الحديث عن الخلاص.
أمَّا اليوم، فنحن نصرخ إلى الله ونطلب منه: «آه، خَلِّصْنا يا رب!» ولكن الله يقول لنا: «لا أحتاجكم في السماء؛ لأنني لا أريد ناس ‹مُخَلَّصين› هنا. فإنَّ ما أحتاجه هو عَمَلَة، ناس نشيطون ومجتهدون ينجزون مشيئتي على الأرض. فاخدُموني هناك أولاً.»
وأتمنى من كل كياني أن يموت كل ذلك الدفء والراحة الدينييَن، اللذين يجعلان المسيحيين يتطلعون دائمًا إلى السماء بدلاً من التطلُّع إلى الحياة القويمة على هذه الأرض. إذ إنَّ مسيحيي اليوم مخدوعون جدًا بمشاعرهم الدافئة عن الخلاص. فيا لهذا الأمر من هراء! فإذا كنتم لا ترغبون في أن تصبحوا ترابًا لأجل الله، وإذا كنتم تفكرون في اسمكم بدلاً من اسمه، فلن تلقوا عندئذ أيَّ تعاطف مني حينما تتعذَّب نفوسكم — أنا قسيس وراعي كنيستكم. فكل ما نفعله يكون بلا جدوى ما لم يكُن إكرامًا لله. فإذا لم تؤمنوا بيسوع المسيح إلاَّ بمفهوم الانتفاع منه، فلن تغلبوا العالم أبدًا.
إنَّ ما يُراد من خلاصنا ليس سوى هدف واحد، وهو: إكرام الآب السماوي. وعندما نكرم الآب السماوي، فإنِّنا نكرمه بالطريقة التي يُظهِر بها نفسه على الأرض. أمَّا مجدنا البشري فنطرحه عَنَّا، حتى لو كان ذلك يتناقض مع مشاعرنا وطريقة تفكيرنا. فليغرُب عَنَّا كل تمجيد بشري! فإننا ننشد الحقَّ الإلهي والعدل الإلهي في المُخَلِّص يسوع المسيح. فكل ما علينا فعله هو أن نسأله في كل أمور حياتنا: «أهذا حقٌّ، أم باطلٌ؟» إذ يعتمد كل شيء على معرفتنا بالحقِّ والعدل، ويعتمد أيضًا على البِرِّ المنظور والمُتجسِّد على أرض الواقع. وبمقدور كل إنسان الانضمام إلى هذا الطريق، في مكانه أو بيئته. فإنه لا يعتمد على نظام طويل وعريض من المعتقدات. فإذا كان الفرد صادِقًا ويريد يسوع المسيح في الحقِّ والعدل، فسيلاقي عندئذ الترحيب منه.
إنَّ ما يريده يسوع أن يُنجز على هذه الأرض، يجب علينا أن نأخذه مأخذ الجد! فإذا لم يكُن هناك ناس يمكن أن يحيا المسيح فيهم، وإذا عاش المُتَدَيِّنون حياتهم بلا وعي وبلا مبالاة، وإذا سمحنا نحن المسيحيين لجميع الآيات الكتابية والصلوات بأن ترددها ألسنتنا بلا تفكير مثلما يردد الببغاء الكلمات، وإذا جعلنا نحن المسيحيين أيضًا هذه الصلوات والآيات الكتابية لا تدور إلاَّ حول نفوسنا الصغيرة العزيزة علينا، بدون التوقف لبرهة من أجل التفكير في أوضاع حياتنا، وأوضاع العالم المادِّيَّة والروحيَّة، والتساؤل: «أهذه الأوضاع جيِّدة أم سيئة؟» كان الذنب عندئذ ذنبنا عندما لا يقتحم حياتنا أيُّ شيء سماوي جديد. لأن ما يسري على هذه الأرض هو المبدأ التالي: إذا كنتَ لا تريد الخضوع التام أو تسليم ذاتك لله تسليمًا كاملاً، فسيبحث الله عندئذ عن شخص آخر.
أتريدون «ديانة» لكي تتجنبوا تحمُّل المسؤولية عن كل شيء، وأن تتملصوا من كل تعب واجتهاد أرضيين؟ فأنتم تقولون: «إنَّ الله يقوم بكل شيء لأجلنا! وكم نتطلَّع إلى السماء؛ وما أروع الحياة التي ستكون هناك.» ولكن، أهذا ما تريدونه؟ فإذا كان هذا ما تريدونه، فستتفاجؤون آنذاك عندما تسمعون يُقال لكم: «ماذا تفعلون أنتم وتديُّنكم الشكلي هنا في السماء؟ فكان يجب عليكم أن تكونوا أمناء على الأرض. وكان يجب عليكم أن تتخلَّوا عن كل شيء ليحيا يسوع هنا بيننا على الأرض.» فالسؤال هو: أين يجب إعلان الله وتجسيد إرادته؟! أمَّا الجواب فهو: هنا على الأرض، لا في السماء. فهو لا يحتاجكم هناك حيث توجد سلفًا جموعٌ من الملائكة لإكرامه. فإنَّ مكانكم هو على الأرض! فهذا النوع من الخلاص الذي يشتاق الملائكة إلى رؤيته:
الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا. الَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ الآنَ، بِوَاسِطَةِ الَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُرْسَلِ مِنَ السَّمَاءِ. الَّتِي تَشْتَهِي الْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا. (1 بطرس 1: 10–12)
فخُذوها إذن على محمل الجد. إذ إنَّ المكان الصحيح لأعمالنا وحياتنا وخلاصنا هو هذه الأرض. لقد عَلَّمَنا يسوع المسيح أن نُصَلِّي ونطلب هكذا:
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. (متى 6: 10)
فإنَّ هذه الأرض هي ليست المكان الميؤوس منه كما يظن الناس. فهناك ميدان واسع للكثير من العمل والخدمات التي يمكن تقديمها على هذه الأرض. فما يهم هو الخليقة الجديدة. فمستقبل المسيح يتوافق مع الخليقة الجديدة! لأنه يمكن تقديم الكثير من الأعمال والخدمات لله هنا على هذه الأرض بقدرٍ أكبر بكثير مما يقدِّمه موت مئة ألف من الناس «المُخَلَّصين.» ولكن مَنْ يستطيع أن يفهم هذا؟ فلا يفهمه إلاَّ أولئك الذين يسمحون ليسوع بأن يتمجَّد هو من خلال حياتهم — أولئك الذين يُسلِّمون أنفسهم للموت لكيما يحيا يسوع.
أمَّا إذا كُنَّا نحن المسيحيين لا نتوب ولا ندين أنفسنا بما نقترفه في حياتنا من خطايا وفتور روحي، فسيبقى العالم كما هو عليه، مهما كانت إنجازاتنا المادِّيَّة، أو بناؤنا للسكك الحديدية أو نشرنا لخطوط الهواتف عبر أرجاء أفريقيا، أو إرسالنا لآلاف المبشرين في يوم واحد إلى الضَّالِّين. فربما نُغيِّر فعلاً بعض الأفكار بهذه الأعمال أو نجري بعض التحسينات المادِّيَّة أو الدنيوية، ولكن الوضع الروحي سيبقى كما هو عليه. لأنه ليس بمقدورنا نحن البشر تحقيق أيِّ إنجازات روحيَّة لدى الناس بمجهوداتنا البشرية. فربما نوجِّه انتباهنا لهذا، ونهتم بذاك، ولكن، في الحقيقة، يجب أن لا نتطلَّع إلاَّ إلى ما يفعله يسوع المسيح الآن، وإلى ما سيفعله لاحقًا أيضًا. فينبغي أن يكون شغلنا الشاغل هو أنَّ يحيا ذاك الآتي في النفوس؛ وأن يحيا فينا ذاك الغالب وسيد ملوك الأرض. عندئذ، يمكن لله أن يستعملنا بفضله. وسيكون لخلاصنا عندئذ قيمة بفضله.
إذا رأينا الأمور بهذه الطريقة، فسنُعرَف بأننا ناس يمكن لله استعمالهم. ولكن يجب أن نُستعمَل بشروط الله، لا بشروطنا. وهناك الكثير من الناس الذين يريدون أن ينشروا الإيمان المسيحي والثقافة المسيحية بين غير المؤمنين، غير أن السؤال الجاد والحقيقي هو كالآتي: أيقدر الضَّالُّون على أن يروا مجد الله عندما يقابلوننا؟ ويقول الإنجيليون: «بمجرد أن يُخَلَّص الجميع، يتمجَّد اسم الله.» أمَّا الكنسيون فيقولون: «بمجرد أن يذهب الجميع إلى الكنيسة، يتمجَّد عندئذ اسم الرب.» ولكنني لا أؤمن بكل هذا! فلن يتمجَّد الله هكذا. إذ إنَّ مثل تلك الطرق لا تُمجِّد الله ما لم تدخل قوة إلَهِيَّة في حياة الناس، وتُغيِّر حياتهم الروحية ومواقفهم العملية من مسائل الحياة.
يمكننا أن نعظ بقدر ما نشاء، ولكن الناس يواصلون الذهاب إلى الكنيسة لأجل مصلحتهم الذاتية — لا لأجل الله. فيمكنكم اختبار الأمر ببساطة لمعرفة ردود الناس: فإذا وعظتم بشيء لا يحبونه، فإنهم يتذمرون. أمَّا إذا كان شيئًا يعجبهم، فإنهم يمتدحونه. فإذا لم يكسبوا شيئًا منه لهم شخصيًّا، فإنهم يعتقدون أنه باطل، أو يذهبون إلى مكان آخر. ويرتاد الكنيسة اليوم عدد كبير جدًا من الناس، غير أن الذين تتغيَّر حياتهم فعلاً إنما هم قِلَّة قليلة. نعم قِلَّة فقط، ولكن في حالات كثيرة جدًا، نرى كيف يَصِرُّ مرتادو الكنائس على مواصلة أساليبهم الأثيمة والدنيوية. فلا شيء عندهم يتغيَّر تغيُّرًا حقيقيًّا.
أمَّا بالنسبة إلينا نحن المؤمنين، فيجب علينا أن لا نقبل بأن نكون عديمي الفائدة في المُهِمَّة التي وُضِعنا لأجلها على هذه الأرض، ويجب علينا أن لا نطيق احتمال وضع فاتر كهذا. فقد قال بولس الرسول في الإنجيل:
فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. (أفسس 4: 1)
لقد وُضِعنا في وسط الخليقة، ولكننا للأسف فقدنا الشعور بأننا هنا لأجل هدفٍ سامٍ، لا لأجل أنفسنا، بل لأجل شيء أعظم بكثير من نفوسنا — وهذا الهدف هو أن نكون خُدَّامًا لذاك الحيِّ. لذلك، فإنَّ فقداننا لهذا الشعور هو ما يجعلنا نشعر بالحزن الشديد، والهزيمة المُرَّة. فغالبًا ما لا يفكر الناس إلاَّ بأنفسهم حينما يجلسون في الكنيسة. فيتحسر كل واحد منهم على نصيبه، ويبحث عن شيء صالح في داخل نفسه ولمصلحة نفسه، دون أن يعلم على وجه التأكيد ما هو قصد الله من الأرض. وأتمنى لو كان بإمكاني الصراخ لهم كلهم مناديًا إياهم: «أيها الطيبون! انسوا أنفسكم! وفكِّروا في قضية الله! وابدأوا بالعمل لأجلها! أو تأسفوا على الأقل، لا على مجرى الأمور السيء معكم، بل على أنكم ليس لديكم شيءٌ أفضل سوى الانشغال بشؤونكم التافهة.»
إنَّ أفظع أمر يصيبنا هو عندما لا يمكن لله أن يستعملنا فعلاً. فلا عجب أننا نتدهور روحيًّا رغم تقدُّمنا العلمي والمعماري. فإنَّ كل واحد مِنَّا سيتدهور، حتى في الأمور الدنيوية، ما لم نكُن نشطاء كجزء من كيان أعظم له أهداف أسمى. أمَّا الذي يعمل بالمحبة والفرح لأجل شيء أعظم من نفسه، فيزدهر وينمو ويثمر، حتى في أسوأ الظروف الدنيوية. لأن كل قيم الحياة — المادِّيَّة والروحية على حدٍّ سواء — ستنهار، ما لم يكُن لدينا نحن البشر عملٌ سامٍ نقوم به لأجل الحياة على الأرض، ولأجل الخليقة، ولأجل الله.
أيها الأصدقاء الأعزاء، أتمنى لو كان بإمكاني أن أنقش هذه الكلمات في قلوبكم. فيمكن للمزيد من الإنعامات الإلهية أن تأتينا، إذا نسينا أنفسنا وفكَّرنا في تلك القضية الأسمى والأهم التي وُجِدنا لأجلها هنا على الأرض. وسيُعينُنا يسوع المسيح في هذا. فهو إشراقة وبهاء الله على هذه الأرض:
الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي. (عبرانيين 1: 3)
ويستمر الله إشراقه في شخص يسوع المسيح، لأن المسيح موجود لأجل قصد الله، لا قصدنا. فتلك هي أهميته، ولهذا السبب لديه الحياة الأبدية، حتى لو سُمِّر على الصليب. فهو موجود لأجل قصدٍ — إنه قصد الله. ولكن، ما الأمر بشأننا، نحن البشر؟ يبدو كما لو أن أيَّ حشرة يمكنها أن تُدَمِّرنا، لأننا نعيش على غير هدى مع عدم وجود أيِّ هدف خارج نطاق أنفسنا. أمَّا مع يسوع، فالأمر مختلف. إذ يشرق بهاء الله الآب، إلَه الخليقة كلها، من خلال يسوع المسيح. ولَمَّا كان يسوع يعرف معنى الخدمة، فإنَّ الخليقة سيتملكها إحساس برجاء مُتَجَدِّد في أن كل شيء سيرجع مرة أخرى إلى نظامه السليم، وفي أن الأرض المُدمَّرة، التي أصبحت بَرِّيَّة مُوحِشة، ستُستَرَدُّ مرة أخرى لله.
فلأجل هذه الغاية جاء المُخَلِّص يسوع المسيح. ولهذا السبب سيأتي ثانية. ومما لا شك فيه أن يسوع المسيح يهتم اهتمامًا بالِغًا بكل شخص، ولكننا إذا لم نرغب في مساعدته على ان نصبح أداة له ليستعملنا، وإذا لم نرغب في إعداد الطريق له، فلابد عندئذ أن يُنَحِّيَنا جانبًا. وينبغي أن لا تنسوا أن المُخَلِّص يسوع المسيح موجود لأجل الله أولاً، وبعد ذلك لأجلكم. لقد قال يسوع:
طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. (يوحنا 4: 34)
أمَّا نحن المسيحيين من ذوي الأفكار المغلوطة، فقد قلبنا هذا الأمر رأسًا على عقب، وشوَّهناه تشويهًا كاملاً، معتقدين أن يسوع لم يأتِ إلاَّ لأجلنا. فإننا نَغتَرُّ بأنفسنا بهذه الطريقة متوهمين بأن يسوع مُلْكٌ لنا فقط. أمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ الرب يسوع لن يهتم بنا إذا لم نكُن راغبين في مساعدته على ان نصبح أداة له ليستعملنا. فهو بإمكانه أن يُنَحِّيَنا كلنا جانبًا، لأنه يعمل لأجل الله [ومشيئته المُقدَّسة] لا لأجلنا [وأفكارنا الباطلة]. فلذلك، لا تَغتَرُّوا بأنفسكم من بعد الآن. فقد بدأ الرب سَلَفًا بالتوقُّف عن الاعتماد علينا، ومَنْ يدري كيف سينتهي الأمر برمته؟
لم يفكِّر الناس على مدار قرون من الزمان إلاَّ في كيفية تحقيق أقصى مكسب من المُخَلِّص، يسوع المسيح. ولكن قريبًا لن يبقى أيُّ مكسب لدينا، ما لم يعقد كل واحد مِنَّا النِّيَّة على الأمر التالي: أريد أن أخدم الآن! وآن لي أن أكون شيئًا نافِعًا لله، أو أداة له! فلن أهتم بنفسي من بعد الآن؛ على مثال يسوع المسيح:
لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ. (مرقس 10: 45)
لهذا، فإنَّ الإحساس بالسلام والنعمة يفوت الكثير من المسيحيين. وإذا كُنَّا غير مدركين لحقيقة مُهِمَّتنا بأننا نحيا لأجل الله، فسرعان ما تنتهي بركة النعمة وقدرتها، إذا كُنَّا نعيش بلا هدف هنا على هذه الأرض. فما لم نفهم بعمقٍ علاقتنا بهذه الأرض بأنها البيئة التي نحن مدعوون للعمل فيها لأجل الله وملكوته، فإنَّ حياتنا ستتبدد كُليًّا عندما نعيش بلا هدف.
إنَّ حياة المسيحيين اليوم تشبه حياة العالم كُليًّا. فلا يوجد جوهريًّا أيُّ فرق في أسلوب الحياة. لأن موقف المسيحيين مما يستحق العيش لأجله لا يختلف قيد شعرة عن موقف غير المؤمنين منه. ورغم أننا نعرف أكثر من الآخرين عن الله وعن يسوع المسيح، إلاَّ أننا جشعون واحتفظنا بكل شيء لأنفسنا، لا الأمور الروحية فحسب بل المادِّيَّة أيضًا، وأكثر بكثير من كل غير المؤمنين. لذلك، فإننا برغم كل معرفتنا بالمسيح، إلاَّ أننا في آخِر الأمر أسوأ من غير المسيحيين الذين يجهلون كل الحقائق عن المسيح. ألا يمكنكم رؤية هذا؟
واليوم هو الزمن الذي يلقي الله فيه بنظره إلى الأرض ليرى مَنْ ذا الذي يمكنه تسخيره. أيْ بمعنى تسخيره بدون أيِّ تفرقة بين البشر. فلا يهم السماء شكل الملابس التي ترتدونها على الأرض. فالأمر لا يَتعلَّق بمَنْ أنتم تكونون أو بانتماءاتكم، أو بأيِّ مفاهيم قد استوعبتموها، أو بأيِّ عقيدة تتمسكون بها. فالسؤال هو: «أمفتوحة قلوبكم على إشراق ومجد الله الآتيين إلى الأرض؟» عندئذ لا يهم مَنْ أنتم أو ماذا تكونون عليه. فأنا أعتقد أن الله ينظر اليوم إلى كل من المسلمين واليهود بالقدر نفسه كما ينظر إلى شتى أنواع المسيحيين — الذين تعددت طوائفهم بشكل محرج — ليرى إن كانت لديهم حياة يسعها الوقوف أمامه غير مرتعدة عند مجيئه. فإذا كانت هذه هي الحالة، فإنَّ وقت دعوتهم للتلمذة للمسيح يمكن أن يأتي سريعًا. وربما هم لا يعلمون الكثير حاليًّا عن الأمور السماوية، لكن إذا كانت قلوبهم في اتجاهها الصحيح، فإنَّ الرب الإلَه يمكنه مع ذلك استعمالهم:
ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ. (مزمور 51: 17)
وهكذا، يقترب زمان الإنسانية الحقيقية، نعم زمان مليء بالإنسانية حينما يتمجَّد الله في شعبه، عندما ينجز الناس قضية الله الآب على الأرض. أمَّا إذا كنتم تعتقدون أن زمان المسيحية آتٍ، أيْ بمعنى تلك المسيحية الاسمية التي نراها حولنا اليوم، فأنتم مُخطِئون. فزمان الإنسانية قادم، لأن يسوع المسيح هو مجد البشرية في السماء، ولأن الله لا يميِّز بين البشر. فكل مَنْ يخاف الله، ويفعل الحقَّ كما جاء في العهد الجديد، فإنه يرضي الله. أمَّا الفروقات الخارجية فلا تلعب أي دور.
أيوقع كلامي هذا الكآبة في نفوسكم؟ أتشعرون بالحزن؟ أيقول كل واحد منكم في نفسه: «لكنني كنتُ مؤمنًا لمدة طويلة، والآن من المفترض أن يكون غير المسيحيين على قدم المساواة معي!» أهذا ما تقولونه؟ لماذا؟ لأنكم لا ترون في المُخَلِّص يسوع المسيح سوى فائدة لكم! عندئذ سيكون حالكم كحال يونان.
ولكن صدقوني يا أيها اليهود، والكاثوليك، والإنجيليون، والمسلمون، صدقوني — كلكم. فليس لله سوى اهتمام واحد ليومنا هذا، وهو كما يلي: أتريدون أن تكونوا ذا فائدة لله؟ أتريدونه أن يتمجَّد فيكم أم لا؟ فلا تقولوا لله سوى: «نعم.» فلا يوجد أيُّ شخص وثني خارج دائرة دعوة الله له لكي يتبع المسيح. فقولوا فقط: «نعم،» وسيوهب لكم كل شيء آخر أيضًا. فينبغي أن يكون مثل هذا اليوم العظيم الآن في يومنا الحاضر حين يرهن فيه آلاف مؤلفة من الناس نفوسهم لله الآب وحده قائلين: «نريد أن نكون شعبك مرة أخرى. ونريد أن نصير لك على الأرض مرة أخرى. فيا للعار الذي لحق بالخليقة! ويا لخزي الشعوب لإهانتها لاسمك! ويا لخزينا على طريقة تعاملنا مع كل شيء على الأرض، تابعين شهواتنا وأطماع قلوبنا! إلاَّ أن عيوننا تتفتَّح وتُبصِر الآن. فحياة العالم قد فسدت على أيدينا. وسندمرها كُليًّا إن لم نتمم مقاصدك لها. لذلك، نعاهدك، يا إلهنا الكليُّ القدرة، على أننا نعتزم على تكريس حياتنا هنا على الأرض لك فقط، من كل قلوبنا ونفوسنا. فتصميمنا هو التضحية بنفوسنا وحياتنا، وبكل شيء، مهما يحدث لنا، لكيما يُعطى لنا مرة أخرى أن نكون شعبًا، يقوم أفراده كلهم بإعداد الطريق لك من كل قلوبهم.»
أمَّا الذين لا ينسون أنفسهم لأجل الله، ولا يُسلِّمون حياتهم لله، ولا يصبحون أداة في سبيله على هذه الأرض، فلن يكون لهم نصيب في المُخَلِّص يسوع المسيح. ومهما بدوا أتقياءً ظاهريًّا، فكل ذلك بغير جدوى. فأشدُّ أزمنة الله آتية إلى الأرض، لأن أنين الخليقة قد صعد إليه. فإذا واصلنا الوقوف في طريق الله واعتراضه، فلن نكون فيما بعد شيئًا في نظره. لذلك أطلب منكم — باشِروا العمل! وسرعان ما يحذو الآخرون حذوكم. فانذُروا نذرًا لأبيكم السماوي أنكم تريدون خدمته، مهما كنتم فقراء أو غير مُهِمين في نظر المجتمع. وانسوا أنفسكم! واشفقوا على مَلِكَكُم لأننا جعلناه حزينًا بأفعالنا الباطلة. وترأفوا بإلَهكم الذي قُمنا نحن البشر الفاني بغِشِّهِ غِشًّا فظيعًا.
وحتى لو لم يكُن بمقدوركم ترجمة هذا الكلام على الفور إلى أعمال صالحة منظورة، فإنَّ حزنكم الروحي وصراخكم إلى الله الآب مُستغيثين به، يَكفُلان تحريك أحشائكم، والتأثير في قلوبكم، رغم كل شيء. فيجب أن نتواضع ونتذلل أمام أبينا السماوي، ونشعر بالحزن العميق على قِلَّة خدمتنا لإلهنا على هذه الأرض. عندئذ يأتينا المُخَلِّص يسوع المسيح، فيتغيَّر شيء ما في داخلنا، ويُجدِّد إنساننا الداخلي بأكمله، ويجعلنا مؤهلين لتمجيد الله الآب في حياة جديدة لأجل ملكوته.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «في انتظاره فعل»
[1] فهذا هو مفهوم نعمة الخلاص الذي نراه يلعب دورًا مُهِمًّا في سفر أعمال الرسل ورسائل الرسل. فنعمة الخلاص هي عمل الله فينا، لتخليصنا من قيود الشَّرِّ، وهي أيضًا عمل الله من خلالنا من أجل خير الآخرين. فتساعدنا النعمة على عدم التركيز على الذات، وعلى التفكير في العالم كله. والرب هو الذي يقوينا على فعل وتحقيق ما يرضيه.