على الرغم من أن ايبرهارد آرنولد (ولادة 1883 – وفاة 1935م) لا يُعرف عنه إلاَّ القليل اليوم، غير أن الناس كانوا يقصدونه خلال أيام حياته، لأنه كان خطيبًا ومحاضِرًا وناشر كتب في بلده ألمانيا. وقد كان نشِطًا في الحركة التجديدية الطلابية (المسيحية) أثناء دراسته الجامعية، وبعدها في مدينة بريسلاو Breslau، وهالة Halle، وايرلانجن Erlangen، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في عام 1909م. وقد برز ايبرهارد في هذه المدن من خلال سفراته إليها، وتقديم الخطابات فيها، وأصبح سكرتيرًا للاتحاد الطلابي المسيحي الألماني. وقد شغل في عام 1916م منصب المدير «لدار فورجة للنشر Furche Publishing House» في العاصمة برلين، ومُحررًا لمجلتها الشهرية.
وفي عام 1920م، كان ايبرهارد وزوجته ايمي Emmy قد خاب أملهما، مثل الآلاف من الشباب الألمانيين، من المؤسسات – ولاسيَّما الكنائس – عندما فشلت في تقديم حلول للمشاكل في مجتمعات البلاد، خلال السنوات المضطربة في الفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي بحثهما عن الحقيقة، تأثرا هو وزوجته بحركة الشبيبة الألمانية، حيث كان ايبرهارد مشاركًا فيها ومعروفًا على الصعيد القومي، وتأثرا أيضًا بالقسيس الألماني يوهان كريستوف بلومهارت Johann Christoph Blumhardt وبابنه كريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt، كما تأثرا بالحركة الشعبية المسيحية الجادة المعروفة باسم أنابابتسم Anabaptism التي انبثقت في زمن الإصلاح الديني في أوروبا في القرن الميلادي السادس عشر، وقد تأثرا أيضًا بأهم شيء ألا وهو إيمان وحياة المسيحيين الأوائل ولاسيَّما حياة الكنيسة الرسولية. ووصف ايبرهارد ذلك الوقت المضطرب الذي اتسم بالبحث المكثف كما يلي:
أود أن أخبركم عن بحثي الشخصي. فقد اعتاد أن يتجمَّع حولي مجموعة من الشباب، وكنتُ أحاول أن أهدي الناس إلى يسوع المسيح بواسطة الوعظ بالكتاب المقدس والخطابات. ولكنني لم أحسَّ بعد فترة بأن هذا العمل كان كافيًا. فقد وجدتُ نفسي في وضع صعب جدًا، ولم أكُن سعيدًا في أعماقي. وبدأتُ أدرك معاناة وحاجات الناس إدراكًا عميقًا: حاجات أجسادهم وأرواحهم، وحاجاتهم المادية والاجتماعية، والذُل الذي كانوا يعيشون فيه، إضافة إلى الاستغلال والاستعباد. وقد أدركتُ مدى هيمنة المال، والماديات، والشقاق، والكراهية، والعنف، على النفوس. ورأيتُ أقدام الظالمين القاسية تدوس على رقاب المظلومين. ولو لم يَعِشْ الشخص هذه الأشياء لقال إنَّ هذا الكلام مُبالغ فيه – غير أنه يُمثِّل الحقائق.
بعدئذ، من عام 1913 لغاية عام 1917م، أخذتُ أبحث بحثًا مُضنيًا عن التفهم العميق للحقِّ. وصرتُ أفهم أكثر فأكثر أن أسلوب الإيمان المُتَّبَع عند الناس في الاقتصار على التكريس الروحي لم يكُن كل ما قد طلبه يسوع المسيح – ولا يمثل كيان الله تمثيلاً كاملاً. فكنتُ أشعر بأنني لم أكُن أُكمِّل مشيئة الله بتبشير الناس بديانة مسيحية شخصية بحتة، وببذل جهودي على الأفراد فقط لَعَلَّهم يهتدون إلى هذه المسيحية الشخصية، مثلي. وقد خضتُ صراعًا روحيًّا عصيبًا خلال تلك السنين الأربع. فلم أكتفِ بالتفتيش في الكتابات القديمة، وفي موعظة يسوع المسيح على الجبل، وفي غيرها من الأسفار، بل أردتُ أيضًا أن أتعرَّف على حياة الطبقات العاملة – تلك الشريحة من البشرية المظلومة التي تذهب ضحية النظام الاجتماعي الراهن المجحف – وأردتُ أيضًا أن أُقاسم حياتهم وآلامهم. وكان شغفي بأن أجد طريقًا يتطابق مع طريق يسوع المسيح، وطريق فرنسيس الأسيزي، وطريق الأنبياء.
وقُبَيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كتبتُ رسالة إلى أحد الأصدقاء قائلاً فيها إنني لا أستطيع الاستمرار على هذا المنوال. فلم تكُن نفسي مهتمة إلاَّ بالأفراد، والتبشير بالإنجيل، والجهاد بهذا الأسلوب الضيِّق لاتباع يسوع المسيح. ولكن كان عليَّ في الحقيقة أن أجد وسيلة لخدمة البشرية؛ فكنت أريد تكريسًا من شأنه أن يُنشِئ واقعًا ملموسًا، بحيث يتمكن الناس من خلاله من إدراك القضية التي مات لأجلها يسوع المسيح.
واستمرتْ الحرب ورأينا أهوالاً فظيعةً غير مسبوقة. ورأينا حال الرجال الذين عادوا إلى ديارهم من جبهات القتال. فكان أحدهم ضابطًا شابًّا، عاد وكلتا رجليه مصابتان بإطلاقات نارية. وعندما عاد إلى خطيبته، كان كله أمل بأن يحصل منها على الرعاية المليئة محبة التي كان في أمس الحاجة إليها، ولكنها أبلغته بأنها أصبحت مخطوبة لرجل ذي جسم سليم.
ثم حلَّتْ المجاعة على مدينة برلين. وأكل الناس اللِّفْت صباحًا وظهرًا ومساءً. وعندما كان الناس يلتجئون إلى المسؤولين من أجل المال أو الطعام، كان يقال لهم: «إذا كنتم جائعين، تناولوا اللفت!» ولكن، من ناحية أخرى، كان لا يزال هناك عائلات ثرية تقول إنها «مسيحية» – حتى في وسط برلين – التي كانت متيسرة اقتصاديًّا، ولديها أيضًا بقرة وحليب، في حين لم يكُن أحد غيرهم عنده مثل هذه الأشياء. وكانت العربات تمرُّ في الشوارع وتحمل جثث الأطفال الذين لقوا حتفهم. وكانت الجثث ملفوفة بأوراق الجرائد، لأنه لم يكُن لدى الناس لا وقت ولا مال للحصول على تابوت. وفي عام 1917م، رأيت حصانًا سقط على الأرض في الشارع: فدفع الناس الجياع السائق جانبًا، وأسرعوا بتقطيع أجزاء من جسم الحصان الدافئ ليأخذوها إلى بيوتهم وأسرهم طعامًا لهم.
فمن بعد مثل هذه التجارب – وتلك التي رأيناها في زمن الثورات، عندما انقلبت الآية، وأصبح الفقراء أغنياء والأغنياء فقراء، حيث تم تقديم غرف فارهة وقاعات ضخمة تتكون أرضياتها من خشب الباركيه الفاخر إلى الطبقة العاملة التي قامت بالثورة – أدركتُ أن الوضع كله كان لا يُطاق. ثم إنَّ أحد القياديين في الحركة الطلابية المسيحية قال لي – ولدهشتي – إنَّ مسؤولاً حكوميًّا رفيع المستوى قد وافق على التعاون معي في العمل بشرط أن أبقى ساكِتًا عن القضايا الاجتماعية: كالحرب والمعاناة الرهيبة.
في الاجتماعات التي عقدناها في بيتنا في برلين، حيث ناقشنا كل هذه الأمور مع أصدقائنا، سرعان ما أصبح واضحًا لنا أن طريق يسوع المسيح طريق عملي: فقد بيَّن لنا طريق الحياة الذي هو أكثر من مجرد طريق الاهتمام بالروح. فهو طريق يقول ببساطة: إذا كان لديك معطفان فأعطِ أحدهما لِمَنْ ليس لديه معطف؛ وأطعم الجائع، ولا ترد جارك فارغ اليدين عندما يحتاج إلى اقتراض شيء منك. وعندما تُسْخَرُ أن تعمل لمدة ساعة، اِعمل ساعتين. ويجب عليك بذل قصارى جهدك لأجل عدالة الله. وإذا أردتَ تأسيس أسرة، وجب عليك التأكُّد من أن غيرك أيضًا قادر على تأسيس أسرة. وإذا رغبتَ في الحصول على تعليم، أو على فرصة عمل، أو على نشاط يرضيك، وجب عليك أن تسعى إلى جعل كل هذه الأمور ممكنة للآخرين كذلك. وإذا قلتَ إنه من واجبك رعاية صحتك، وجب عليك قبول هذا الواجب لترعى صحة الآخرين أيضًا. وعامل الناس بما تحبُّ أن يعاملوك به. فهذه هي الشريعة والأنبياء. وادخل من هذا الباب الضيق، لأنه الطريق المؤدي إلى ملكوت الله.
عندما تجلَّتْ هذه الأمور لنا، أدركنا أنه لا يمكن لأيِّ شخص المضي في هذا الطريق إلاَّ عندما يصبح هو (أو هي) فقيرًا كالشحاذ، ويأخذ على عاتقه، كما فعل يسوع المسيح، مسؤولية تحمُّل أعباء كافة الحاجات البشرية، الدينية والأخلاقية على حدٍّ سواء. عندئذ نتحمل المعاناة، ونعاني، لأننا سنرى كيف الظلم يحكم العالم. ولا يسعنا الجهاد من كل قلوبنا، إلاَّ عندما نتعطش إلى العدالة أكثر من تعطشنا إلى الماء والخبز. وسنُضطهَد عندئذ في سبيل هذه العدالة. وفي هذه الحالة فقط سيكون بِرُّنا أو فضيلتنا أعظم من بِرِّ علماء الأخلاق واللاهوت والفقهاء. وسنمتلئ بنار جديدة، وبروح جديدة، وبحرارة من الطاقة الحيوية لله، لأننا تلقينا الروح القدس.
في هذا الصدد، أصبح واضحًا لنا أن أول كنيسة للحياة المشتركة في مدينة أورشليم (في إشارة إلى الكنيسة الرسولية الأولى) كانت أكثر من مجرد حدث تاريخي: فقد انبثقت لكي تتجسد الموعظة على الجبل فيها. لذلك رأينا نحن وأصدقاؤنا في برلين، أنه من الضروري أكثر من أيِّ وقت مضى أن نتخلى عن آخر بقايا الامتيازات الحياتية والحقوق الدنيوية التي عندنا، وأن نسمح لهذا الطريق من المحبة الكاملة أن يصعقنا ويكسبنا لصالحه: تلك المحبة التي ستحلُّ على مِلء الأرض من نفخة الروح القدس، وتلك المحبة التي وُلِدت من لدن أول مجتمع متشارك للكنيسة. لذلك شعرنا بأنه لا يمكننا الاستمرار في العيش لفترة أطول بأسلوب الحياة التقليدي الذي كُنَّا نعيشه. فكان علينا أن نشهد لحقيقة أن يسوع المسيح لم يهتم بأرواح الناس فحسب بل بأجسادهم أيضًا. فقد جعل العمي يبصرون، والعرج يمشون، والصم يسمعون. وتنبأ عن ملكوت الله، وعن حكم الله الذي سيغيِّر الأحوال، وسيغيِّر النظام في العالم تغييرًا كاملاً، وسيجددها. أمَّا الإقرار بهذا والعيش وفقًا له، فهو في نظري وصية الله لهذه الساعة.
في عام 1920م، وانطلاقًا من الرغبة الشديدة في العمل بمطالب الموعظة على الجبل، بدأت أسرة آرنولد بأطفالها الخمسة وبعض من الناس الآخرين، بالعيش حياة مسيحية مشتركة في قرية زانرز Sannerz الألمانية. وإنَّ جماعتهم التي كانت تعتمد على الزراعة مصدرًا للرزق، إضافة إلى إدارة دار نشر صغيرة لكن نشِطة، صارت تجتذب الآلاف من الزوار، وأخذت تنمو بسرعة. وبحلول عام 1926م، لم يعُد المنزل الكبير في زانرز يتَّسِع لعدد الناس المتزايد فيه، وعليه تم شراء قطعة أرض كبيرة وإقامة مجتمع برودرهوف جديد Bruderhof في السنة التي تلت، على تلال رون Rhön المجاورة (وتعني كلمة برودرهوف بالألمانية: مكان الإخوة).
أمَّا في الثلاثينيات من القرن الميلادي العشرين، فقد جاءت بالاضطهاد على الجماعة من قبل النظام الاشتراكي القومي (النازي)، ومن ثم النفي من ألمانيا. وبعد مكوث وقتي لدى جارتهم دولة ليشتنشتاين Liechtenstein، هرب أفراد برودرهوف إلى إنجلترا، حيث أقاموا هناك مجتمعًا مسيحيًّا جديدًا. وهناك حدث أول مشروع ضخم لدار النشر، الذي كان ترجمة العديد من أهم كتابات ايبرهارد آرنولد، ومنها كتاب «ثورة الله.» وعملت الحرب العالمية الثانية على تهجير جماعة برودرهوف إلى دولة باراغواي في عام 1940م. أمَّا في عام 1954م، فقد تم تأسيس أول مجتمع برودرهوف في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بعدها تأسيس العديد من المجتمعات المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنجلترا، وألمانيا، وأستراليا، وباراغواي، والنمسا، وكوريا الجنوبية. وها نحن قد دخلنا في الألفية الثالثة، فإننا نؤكد مع ايبرهارد آرنولد ما قاله:
نحن نؤمن بهذه الولادة الروحية الجديدة، التي هي حياة النور من عند الله. ونؤمن بمستقبل يتألف قوامه من المحبة والشركة البنَّاءة. ونؤمن بسلام ملكوت الله، وبأن هذا السلام سوف يحلُّ على هذه الأرض بأسرها. ولا يعني هذا الإيمان أن تصوراتنا مقتصرة على حدوث هذه الأمور في المستقبل – وإنما يجلب الله هذا المستقبل اليوم كذلك، ويهبنا قلبه وروحه القدوس الآن. إذ يحيا المسيح في كنيسته، التي هي البذرة الحيَّة الخفيَّة، التي ستنمو لتصبح الملكوت المستقبلي. وقد عُهِدَ إلى الكنيسة كُلاً من السلام الذي تتميز به الكنيسة، وروح المحبة الذي يتسم به المستقبل الإلهي. ولذلك تُثبِت الكنيسة نفسها في وقتنا الحاضر واحةً للعدل، والسلام، والفرح، في هذا العالم.