اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا افْرَحُوا. لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. الرَّبُّ قَرِيبٌ. لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. (فيلبي 4: 4–7)
ينبغي أن نفرح في الرب. ولكن لماذا؟ فيجب أن يكون لدينا سبب لهذا الفرح، ليس نظريًّا فحسب بل واقعيًّا أيضًا. فيجب أن يكون لدينا شيءٌ ملموسٌ نبتهج به، لا بأيِّ شيء كان، وإنما بالمسيح. ولا يعني هذا بالضرورة أن كل أفراحنا الأخرى يجب أن تؤخذ مِنَّا، بل أن هذه الأفراح ليست كتلك الأفراح التي تدوم. فكل تلك الأمور التي تحدث على هذه الأرض وتفرِّحنا وقتيًّا، عمرها قصير جدًا. فليست الأفراح الأرضية سوى جزء صغير من الفرح الكامل، ثم إنَّ مشاعر الفرح لا تغمرنا إلاَّ لمدة قصيرة. وإلى جانب ذلك المزاج المَرِح يوجد أيضًا الكثير من الأحزان، الناجمة عن شتى أنواع البؤس.
فهناك الكثير من المتاعب في هذا العالم، والكثير من القلق بسبب مجهولية المستقبل، والكثير من الاضطراب والعنف. لذلك لا يمكننا أن نتوقع أن يكون لدينا فرح دائم، على الأقل ليس بالطريقة التي يفكر بها العالم، بل يجب أن نكون مستعدين دائمًا لأن يغيب الفرح عنَّا ونفقده. ومع ذلك، لا يمكننا أن نحيا حقًّا بدون فرح مستمر، ذلك الفرح الذي يدوم. فيجب علينا أن نسعى لمثل هذا الفرح الحقيقي الدائم. فإننا نبحث عنه في المسيح، لأن مستقبلاً جديدًا وهدفًا جديدًا قد انفتحا أمامنا في المسيح.
فهذا ما كان يعنيه قول: «الرَّبُّ قَرِيبٌ.» (فيلبي 4: 5) وهو يعبِّر أيضًا عن مكان الهدف: أيْ هنا على الأرض. فنحن نبتهج في حياة الإيمان بالمسيح لأننا سنستمر في رؤية حصول الخير على هذه الأرض في حياتنا معه، الذي هو رب السلام. فنحن نرى ملكوت المستقبل أمام أعيننا بفضل عمل المسيح. وإنَّ إيماننا بقدرة المسيح راسخٌ بعمقٍ في نفوسنا، بحيث يمكننا التمسُّك به، والبقاء فرحين بهذا الرجاء. وهذا الرجاء هو العنصر الرئيسي لإيماننا المسيحي؛ ويجعلنا هذا الإيمان ثابتين وأقوياء كالفولاذ. ويضعنا هذا الإيمان في موقف تَحدٍ ومجابهة العالم كله، كما هو عليه اليوم.
وهذا الإيمان ليس «عقيدة» للاعتقاد بالله، لأن الإيمان الحقيقي هو الوعي الفطري والطبيعي بالله. كما أنه ليس «عقيدة» للاعتقاد بالمسيح، لأن هذه «العقيدة» تتغيَّر لتصير مجرد إدراك للحقيقة التالية: نحن نعرف أن المسيح موجود. غير أن الإيمان هو اليقين بأننا سنصبح خليقة جديدة، وأكثر مما يمكن توقُّعه من المسار العادي للحياة، وذلك بفضل الله، والمسيح، والروح القدس. فهذا هو إيماننا المسيحي. إذ يريد إيماننا أن يخلق شيئًا جديدًا؛ فهو يريد أن يخلق ما يناضل من أجله المجتمع البشري بأكمله منذ آلاف السنين. فلن يكون لنا أيُّ أساس لو كان إيماننا بملكوت الله لا يؤمن أيضًا بسعادة الإنسان. وإلاَّ فإنَّ إيماننا سيُقال عنه بِحقٍّ إنه باطل، وضَيِّق الأفق، ومُمِل، وضعيف، وخائر، ومليء بالشك والخوف. عندئذ نصبح أشخاصًا مُتزعزعين ومترددين في حياتنا المسيحية.
فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ.» (يوحنا 8: 31–32)
فإذا كُنَّا نجرؤ على الإيمان بأننا نحن البشر الفانيين لا نزال قادرين على تمثيل ما هو صحيحٌ وحقٌّ أمام الله والبشرية على هذه الأرض، وإذا وضعنا هذا الأمر نصب أعيننا باستمرار، فسنصبح ثابتين على الإيمان المسيحي وثابتين في حياتنا المسيحية. وهذه ليست إرادة الله فحسب، بل هي اشتياق قلوبنا أيضًا. ويجعلنا هذا الإيمان راسخين ويحوِّلنا إلى ناس أقوياء، كما يشهد الإنجيل:
فَلِهَذَا السَّبَبِ أُذَكِّرُكَ أَنْ تُضْرِمَ أَيْضًا مَوْهِبَةَ اللهِ الَّتِي فِيكَ بِوَضْعِ يَدَيَّ، لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ. (2 تيموثاوس 1: 6–7)
نعم، هذا صحيحٌّ وحقٌّ؛ إذ ليس مقصود الله من خلق البشر أن يكونوا مخلوقات بائسة. فيجب أن لا تستمر أحوال ذرية الله التي خلقها على صورته في الانحدار والتدهور حزنًا وبؤسًا إلى الأبد. أمَّا هذا الاشتياق إلى تمثيل ما هو صحيحٌ وحقٌّ أمام الله والبشرية، فيكمن في أعماق قلوبنا، وهو جزء كبير من قلب كل إنسان، بحيث لا يمكن اقتلاعه منه.
أمَّا المُتَدَيِّنون بتديُّنٍ ظاهريٍّ أو مغلوطٍ، فيحاولون استخدام أسلوب مختلف. فهم يسعون إلى مستقبل البشرية خارج نطاق هذه الأرض، أيْ في الآخرة، ويريدون إسعاد الناس بأمور خارقة للطبيعة. ومن المؤكد أن هذا الأسلوب يقوِّي البائسين الذين هم في حيرة تامة من أمرهم، فيقولون: «في يوم ما سينتهي كل هذ البؤس، وسأموت وأرتاح. وسأكون بعدئذ في يد الله.» ولكن لم ينتج مُطلقًا عن هذا الأسلوب تقوية روحية دائمة. ولم يؤدِ مُطلقًا إلى حياة مفعمة بالحيوية المتفانية للتلمذة للمسيح. فإذا كان وضع نهاية لهذا البؤس الذي يعيشه الإنسان غير مضمون على وجه أكيد، فسيصبح لدينا إذن جميع الدواعي التي تجعلنا نشك في ذلك الأسلوب، ونبدأ نتساءل: أيمكننا حقًّا الابتهاج بمثل هذا الأسلوب؟ ولكنني حينما أتذكر كل الذين جاءوا إليَّ للحديث عن الله والمسيح وعن ملكوت السماوات، فأنا على يقين من أن السؤال التالي يشغل كل واحد منهم: ألا يمكنني أن أحصل على المعونة الآن، هنا على الأرض، في حياتي الخاصة؟ فكم مرةٍ سمعتُ الناس يصرخون: «ألا يوجد إلَه في السماء؟ ليس بمعنى أنني قد أكون مباركًا في وقت ما في المستقبل وأنال المعونة، وإنما لكي تُعطى هذه المعونة على هذه الأرض، حتى أكون سعيدًا، ومتحررًا من خطاياي، وأصبح رجلاً حقيقيًّا أو امرأة حقيقية فعلاً.» وإنَّ هذه الصرخة تصلنا من ملايين القلوب.
كم أتمنى لو لم يكُن هناك سوى شخص واحد يصرخ قلبه رغبةً في أن يكون الدور الأكبر عنده هو الحقَّ وبهجة الحياة — بدلاً من الحزن والغمِّ، وبدلاً من البؤس والحياة المنحرفة — فستعلو عندئذ هذه الصرخة من صدور الملايين من الناس الآخرين بكل تأكيد. فيمكننا آنذاك أن نعلن لهم: «نعم، أنتم على حقٍّ، وبإمكانكم الإيمان بهذا، ولَمَّا كان الله موجودًا، فأنتم مُحِقُّون عندما لا تقرُّون بأن شكل المجتمع الحالي هو أفضل ما يمكن الوصول إليه. وأنتم مُحِقُّون أيضًا عندما تؤمنون بأنه سيأتي إلى حيِّز الوجود في يوم من الأيام مجتمع كنيسة يعيش حياة مسيحية مشتركة على هذه الأرض، أيْ مجتمع من رجال ونساء يسوده السلام والفرح. فأنتم على حقٍّ. فآمِنوا بذلك! فكما أن الله موجود حقًّا في السماوات، وكما أن المسيح قد وُلِد بالتأكيد، وكما أن الإنجيل يُبشَّر به فعلاً، فكذلك سيكون هناك مجتمعٌ يُمَثِّل ملكوت الله على هذه الأرض! لذلك، آمنوا واعقدوا الآمال على هذا الملكوت، حتى لو كان اكتمال تحقيقه لا يزال في انتظارنا.»
لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، فَلاَ تُذْكَرُ الأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ. بَلِ افْرَحُوا وَابْتَهِجُوا إِلَى الأَبَدِ فِي مَا أَنَا خَالِقٌ، لأَنِّي هأَنَذَا خَالِقٌ أُورُشَلِيمَ بَهْجَةً وَشَعْبَهَا فَرَحًا. فَأَبْتَهِجُ بِأُورُشَلِيمَ وَأَفْرَحُ بِشَعْبِي، وَلاَ يُسْمَعُ بَعْدُ فِيهَا صَوْتُ بُكَاءٍ وَلاَ صَوْتُ صُرَاخٍ. لاَ يَكُونُ بَعْدُ هُنَاكَ طِفْلُ أَيَّامٍ، وَلاَ شَيْخٌ لَمْ يُكْمِلْ أَيَّامَهُ. لأَنَّ الصَّبِيَّ يَمُوتُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَالْخَاطِئَ يُلْعَنُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ. وَيَبْنُونَ بُيُوتًا وَيَسْكُنُونَ فِيهَا، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا وَيَأْكُلُونَ أَثْمَارَهَا. لاَ يَبْنُونَ وَآخَرُ يَسْكُنُ، وَلاَ يَغْرِسُونَ وَآخَرُ يَأْكُلُ. لأَنَّهُ كَأَيَّامِ شَجَرَةٍ أَيَّامُ شَعْبِي، وَيَسْتَعْمِلُ مُخْتَارِيَّ عَمَلَ أَيْدِيهِمْ. لاَ يَتْعَبُونَ بَاطِلاً وَلاَ يَلِدُونَ لِلرُّعْبِ، لأَنَّهُمْ نَسْلُ مُبَارَكِي الرَّبِّ، وَذُرِّيَّتُهُمْ مَعَهُمْ. وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ. الذِّئْبُ وَالْحَمَلُ يَرْعَيَانِ مَعًا، وَالأَسَدُ يَأْكُلُ التِّبْنَ كَالْبَقَرِ. أَمَّا الْحَيَّةُ فَالتُّرَابُ طَعَامُهَا. لاَ يُؤْذُونَ وَلاَ يُهْلِكُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، قَالَ الرَّبُّ. (إشعياء 65: 17–25)
أمَّا الذين يضعون الملكوت موضع اهتمامهم في كل حين، فلا يكون الملكوت عندهم مُقتصرًا على المستقبل؛ بل إنه آخذٌ سَلَفًا بالظهور إلى حَيِّز الوجود في الوقت الحاضر. فهو موجود بالتأكيد، لأن هذا الإيمان المسيحي يُشكِّل اليوم مُجتمعًا مسيحيًّا يتكوَّن من رجال ونساء؛ فهو مجتمع فيه الناس بعضهم يقوي بعضًا لأجل تحقيق هذا الهدف، أيْ لتجسيد ملكوت الله على أرض الواقع. فكيف يكون الإيمان المسيحي ممكنًا بدون مجتمع كهذا؟ إذ لابد لملكوت الله أن يُبشَّر به في مجتمع إنساني. ودعا القديس بولس الرسول هذا المجتمع جسد المسيح، الذي فيه المسيح هو الرأس:
لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا. لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا. فَإِنَّ الْجَسَدَ أَيْضًا لَيْسَ عُضْوًا وَاحِدًا بَلْ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ. إِنْ قَالَتِ الرِّجْلُ: «لأَنِّي لَسْتُ يَدًا، لَسْتُ مِنَ الْجَسَدِ.» أَفَلَمْ تَكُنْ لِذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ؟ وَإِنْ قَالَتِ الأُذُنُ: «لأَنِّي لَسْتُ عَيْنًا، لَسْتُ مِنَ الْجَسَدِ.» أَفَلَمْ تَكُنْ لِذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ؟ لَوْ كَانَ كُلُّ الْجَسَدِ عَيْنًا، فَأَيْنَ السَّمْعُ؟ لَوْ كَانَ الْكُلُّ سَمْعًا، فَأَيْنَ الشَّمُّ؟ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا عُضْوًا وَاحِدًا، أَيْنَ الْجَسَدُ؟ فَالآنَ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَنْ تَقُولَ لِلْيَدِ: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ.» أَوِ الرَّأْسُ أَيْضًا لِلرِّجْلَيْنِ: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا.» بَلْ بِالأَوْلَى أَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي تَظْهَرُ أَضْعَفَ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ. وَأَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي نَحْسِبُ أَنَّهَا بِلاَ كَرَامَةٍ نُعْطِيهَا كَرَامَةً أَفْضَلَ. وَالأَعْضَاءُ الْقَبِيحَةُ فِينَا لَهَا جَمَالٌ أَفْضَلُ. وَأَمَّا الْجَمِيلَةُ فِينَا فَلَيْسَ لَهَا احْتِيَاجٌ. لَكِنَّ اللهَ مَزَجَ الْجَسَدَ، مُعْطِيًا النَّاقِصَ كَرَامَةً أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ، بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَامًا وَاحِدًا بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا. (1 كورنثوس 12: 12–27)
ثم إنَّ الإنجيل يدعو هذا المجتمع بناية، حيث تتلاءم كل حجارة فيها مع الحجارة التي بجوارها من أجل اكتمال البناء:
الَّذِي إِذْ تَأْتُونَ إِلَيْهِ، حَجَرًا حَيًّا مَرْفُوضًا مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ مُخْتَارٌ مِنَ اللهِ كَرِيمٌ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيِّينَ — كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ — بَيْتًا رُوحِيًّا، كَهَنُوتًا مُقَدَّسًا، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ يُتَضَمَّنُ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ: «هَأَنَذَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ زَاوِيَةٍ مُخْتَارًا كَرِيمًا، وَالَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَنْ يُخْزَى.» فَلَكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُؤْمِنُونَ الْكَرَامَةُ، وَأَمَّا لِلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ، «فَالْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ، وَحَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ. الَّذِينَ يَعْثُرُونَ غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْكَلِمَةِ، الأَمْرُ الَّذِي جُعِلُوا لَهُ.» وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْبًا، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ، وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا، فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ، يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الاِفْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُلاَحِظُونَهَا. (1 بطرس 2: 4–12)
ويدعو المسيح هذا المجتمع قَطيعَهُ الصغير، حيث الجميع يحبون بعضهم بعضًا، وحيث كل فرد فيهم يتحمَّل مسؤولية الاهتمام بالآخرين ورعايتهم، وحيث الجميع يتحمَّلون مسؤولية الاهتمام بالفرد ورعايته. ولَمَّا كُنَّا ندرك أننا مجاهدون لأجل المستقبل، فإننا أولئك الذين من خلالهم لابد وأن تشرق الأرض وتغمرها السعادة. فنحن نعلم علم اليقين بما نؤمن به. لذلك، نشهد لِمَا نؤمن به؛ ومن ثم نحيا ما نؤمن به. وبهذه الطريقة، يظهر ملكوت الله إلى حَيِّز الوجود في الزمان الحاضر. ويأتي الآن مثلما سوف يكون في المستقبل.
ومن أجل تشكيل مجتمع كهذا الذي أساسه المسيح، فلابد من وجود ناس مصممين على ذلك الآن، ناس متحررين من قيود الخطايا الآن، ناس متحررين من القلق الآن. فمنذ البداية، وعندما بدأ الرسل يكرزون، كان هناك سعيٌ إلى ذلك التحرر من الهمِّ والحزن والقلق. ولكن لا تسيئوا فَهمَ هذا الموضوع. ودعوني أخبركم بأنه من الحماقة أن تقول لأخيك الإنسان: «لا تهتمَّ!» فإذا عاش الشخص بمفرده تمامًا، معزولاً ومُبعدًا عن الناس في العالم، وإذا لم يهتم به أحد، وإذا أُسيئت معاملته وجرى اجتنابه وإقصاءه من كل ما يضفي الكرامة الإنسانية على الحياة، وإذا لم يجد عملاً له سوى كسب ما يسُدُّ رَمقه بكثير من القلق والكدح وتحمُّل الأعباء، فإنَّ قول «لا تهتمَّ!» يُعتَبر خطيئة عندئذ.
يقال اليوم عن الملايين من الناس ببرودة وفتور: «يجب أن لا يهتموا ولا يقلقوا. فلو كانت لديهم مجرد رغبة في العمل، لكسبوا أجورهم.» فالذين يتكلمون بهذا الأسلوب، تراهم يمرُّون من جانب هؤلاء المحتاجين دون أن يعيروا ذرة اهتمام بهم. ثم إنَّ غالبية العاملين لا يزالون يفتقرون إلى وظائف تليق بالإنسان وبكرامته. وهم يعيشون حياتهم بصورة مشتتة ومعزولة. فيا له من بؤس عندما يضطر المرء إلى أن يشحذ أو أن يعمل بوظيفتين لمجرد سدِّ حاجته. ومع ذلك، كم من الناس المضطرين إلى ذلك! ويا له من وجود لا يليق بمَنْ يريد الوفاء بالتزاماته تجاه المجتمع ويكون شخصًا مُحترمًا، ولكنه لا يستطيع دفع ضرائبه أو فواتيره، أو أنه غير قادر على خدمة المجتمع بأيِّ طريقة مفيدة. فكيف يحقُّ لي أن أقول لمثل هذا الشخص: «لا تهتمَّ.» فيا لها من برودة قلب!
لا، لا يحقُّ لي أبدًا أن أقول لشخص كهذا: «لا تهتمَّ،» فالعالم كله في الوقت الحاضر غارق في القلق والهموم، بما في ذلك أغنى الدول. أمَّا ضمن المجتمع والكيان الحيَّ المنبثق من المسيح، فيمكن للهموم أن تتوقف، بل ينبغي عليها ذلك. فيجب أن يهتم بعضنا ببعض في مثل هذا المجتمع. وعندما قال بولس الرسول: «لا تهتَمُّوا،» فإنه كان يُسلِّم بأن مثل هؤلاء الناس هم مُتَّحِدون برباط التضامن، بحيث لم يَعُد أحد منهم يقول: «هذا لي،» بل يقول الجميع: «يجب أن يزيل تضامننا ورباطنا كل همومنا. ويجب على كل ما نتشارك فيه أن يساعد كل واحد مِنَّا، وبالتالي يُخَلِّصنا من القلق والهموم.»
وبهذه الطريقة يأتي ملكوت السماوات. فهو يَحِلُّ أولاً في قطيع صغير من الناس، قطيع متحرر من الهموم. فهكذا يعلمنا يسوع المسيح:
فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ ... لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. (متى 6: 31، 33)
فمنذ البداية، ومنذ ولادة المسيح، سعى الناس إلى مجتمع كهذا، أيْ بمعنى جماعة قائمة على مبادئ الملكوت، ومتحررة من القلق والهموم. فهناك قوة جسيمة يحصل عليها الناس عندما بعضهم يؤازر ويعاون بعضًا، وعندما يتَّحِدون بأسلوب الحياة المشتركة. وهكذا تتلاشى فكرة الملكية الخاصة، ويرتبط الناس بشدة بعضهم ببعض في الروح القدس، بحيث أن كل واحد منهم يقول: «كلُّ ما لديَّ مُلكٌ للآخرين، وإذا أصبحتُ في حاجة أو ضيق في أيِّ وقت، فإنهم سيساعدونني.» مثلما ما يوصينا الإنجيل:
فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، بَلْ بِحَسَبِ الْمُسَاوَاةِ. لِكَيْ تَكُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لِإِعْوَازِهِمْ، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ لِإِعْوَازِكُمْ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمُسَاوَاةُ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ، وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ.» (2 كورنثوس 8: 13–15)
فإنَّ مثل هذه الوحدة القوية والتامة بين الإخوة والأخوات في حياة مسيحية متقاسمة، حيث كل فرد يتحمَّل مسؤولية رعاية غيره من الأفراد الآخرين في الجماعة المسيحية، هي طريقة الحياة التي يمكنك بالفعل أن تقول فيها: «لا تهتمَّ!»
ومن حين إلى حين، حاول الناس أن يعيشوا حياة مسيحية مشتركة بهذه الطريقة. ومع ذلك، لم يكتمل تمامًا ظهور هذه الحياة إلى حَيِّز الوجود. وهذا سبب الضعف الشديد للمسيحية على عكس ما أراده المسيح لها. ومن المؤكَّد أن الناس على مر العصور قد عرفوا أن هذا البناء الاجتماعي، الذي لا يعود المرء فيه يقلق ولا يهتم، كان في الأصل إرادة المسيح. فقد أوصانا المسيح بأن لا نسعى وراء غِنى وأمجاد هذا العالم. وقال هذا بالتحديد لأنه سَلَّم بأن شعبه المُتَّحِد سيكون لديه دائمًا وسائل الحياة الضرورية. وأخبر أتباعه بأن وحدتهم في المحبة، أيْ أسلوب حياتهم المتقاسم، سيوفر لهم ما يكفيهم من مأكل وملبس.
وكان اعتقاد الناس في أغلب الأحيان أن هذا هو أسلوب الحياة الذي يجب أن يكون عليه المجتمع. ولكن بسبب أن هذه الحياة لا تتحقق بالكامل، فإنهم يتخلون عنها أخيرًا، ويستبدلونها بما يسمى بالمؤسسات الخيرية، حيث يُقدِّم أولئك الميسورين، بحافز التَّصدُّق على المحتاجين، صدقات للمُعدمين. وهكذا كان الحال دائمًا. ويقوم الكثير من الناس باستحداث طُرُق ووسائل جديدة لمساعدة الفقراء هنا وهناك بما يفيض عن حاجتهم. ولكن هذا ليس ما يريده يسوع المسيح. فالعكس صحيح تمامًا! فيا للهموم التي تسببها العديد من المؤسسات الخيرية في يومنا هذا. إذ يستمر الملايين من الناس في همومهم على كيفية إمكانية حصولهم على القليل من هذه المؤسسة الفلانية، وعلى القليل من تلك المؤسسة الفلانية. وغالبًا ما تَصرِفُهم هذه المؤسسات الخيرية نفسها. أيفاجئكم هذا الأمر؟ لا تندهِشوا عندما يعجز واهبو الصدقات في هذا العالم عن تقديم المساعدة. فإنَّ «المؤسسات الخيرية» هي ليست طريق المسيح. لأنها لا تزال تقف في طريق ما هو أساسي. لذلك، يجب علينا أن نتَّحِد. فيجب أن تنشأ جماعة مُتَّحِدة ليسوع المسيح.
كيف سيحصل هذا؟ أمَّا نحن فقد فَقَدنا المشاعر لهذا الموضوع. وأحد أسباب عدم بقاء أتباع المسيح مُتَّحِدين بوحدة عضوية كاملة، مثلما كان للمسيحيين الأوائل «قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ» في يوم الخمسين، هو أنهم أرادوا إدخال العديد من العناصر الغريبة إلى حياتهم المسيحية. فأراد أعضاء الكنائس جعل العالم كله يهتدي إلى الإيمان المسيحي، ويغيِّر أسلوب حياته، قبل أن يهتدوا إليه هم أنفسهم اهتداءً كاملاً ويغيِّروا أسلوب حياتهم وفقًا لإرادة المسيح. فإنه ببساطة لا يمكن تجميع مئات الآلاف من الأشخاص لتشكيل جماعة تحيا حياة مسيحية مشتركة قبل أن يكون الأعضاء أنفسهم مستعدين لها. ويصح هذا الأمر بصفة خاصة إذا أَدخَلتَ إلى الجماعة المسيحية أشخاصًا ماديين، أو حسودين، أو غير متحررين من عبودية الخطيئة، أو لا يرغبون في المضي في كامل طريق المسيح من كل قلوبهم. فسيكون من الأفضل لو بقوا خارِجًا مشغولي البال بهموم وقلق الدنيا. فهم لا يصلحون لأن يكونوا شركاء المعركة.
فيجب أن يكون هناك تحرُّرٌ قلبيٌّ أولاً، تحرُّرٌ من كل ما يعبث ويتسلى به العالم، ومن كل المغريات التي فيه. عندئذ يمكننا التخلص من كل همومنا. فكم تزيد مقدرة الناس على العمل والعطاء بمجرد أن يتحرروا من كل الهموم، وأن لا يهتموا ويقلقوا على قُوتِهم اليومي! فلا تتطلب المسألة الكثير من التعقيدات، بل مجرد أن يلتزم الناس بحياة مشتركة بعضهم مع بعض لدرجة أنهم يعرفون: «عندما أقع في ضيق، سيساعدني الآخرون.» ولكني لو قلتُ: «سأدَّخِر ما يكفي لنفسي حتى لا أضطر إلى الاعتماد على الآخرين أبدًا،» أو لو أصررتُ على أن أكون غنيًّا وغيري فقيرًا، لجلب هذا عندئذ الخراب على أيِّ مجتمع مسيحي كان. إذ إنه استهزاء بجسد المسيح (أيْ بمعنى استهزاء بكنيسة المسيح المُقدَّسة).
لهذا السبب لا أفكر كثيرًا في المجتمعات «الروحية» حيث شركتها على الصعيد الروحي فقط. فهي لا تدوم. إذ يتصادق الناس لفترة معينة، ولكن علاقتهم تنتهي في النهاية. فالعلاقات التي تدوم يجب أن يكون لها أساس أعمق بكثير من مجرد تجربة روحية معينة. فما لم يكُن لدينا شركة في الأمور الملموسة، أيْ بمعنى مشاركة في الأمور المادِّيَّة، فلن يكون لنا أبدًا شركة في الأمور الروحية. وها هي الكنيسة الرسولية تشهد لنا بذلك في الإنجيل:
وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ. وَصَارَ خَوْفٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ. وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ. وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ. (أعمال 2: 42–47)
فنحن لسنا بمجرد أرواح. ولكننا بشر من دم ولحم. ونحتاج إلى طعام كل يوم. ونحتاج إلى ملابس لكل موسم. ويجب أن نتشارك في مُعَدَّاتنا وأدواتنا؛ ويجب أن نتعاون في كافة مجالات الحياة؛ ويجب أن تكون لنا مصالح عمل مشتركة ونعمل فيها عملاً جماعيًّا، وليس كل واحد لنفسه. وإلاَّ فإننا لا يمكننا أبدًا أن نصبح جماعة واحدة تحيا باتفاق وانسجام في محبة المسيح، ولا يمكننا أبدًا أن نصبح قطيع المسيح، أيْ مجتمع يسوع المسيح، الذي يقف في العالم قائلاً: «الآن يجب أن تصبح الأمور مختلفة كُليًّا. والآن يجب على الفرد أن يتوقف عن العيش لنفسه فقط. والآن يجب أن ينشأ مجتمع من الإخوة والأخوات.»
فهذه هي الطريقة التي يريدنا بها يسوع أن نطرح عَنَّا همومنا وقلقنا في مجتمعات كنائسنا. غير أننا نحن المسيحيين نتوقع من الناس الآخرين في مجتمعات كنائسنا أن يكون لديهم إيمانٌ حتى في أكثر المواقف المستحيلة، وفي الظروف التي يفنون فيها تقريبًا من جراء الحاجة والحالة المزرية، عندما يسكنون في أكواخ مُتهرِّئة، ولا يعلمون كيف يَسُدُّون رَمَقهم، وإذا بنا نأتي إليهم وندعوهم: «آمنوا وحسب!» ولا نساعدهم ولا نشاركهم الحياة في السراء والضراء. فالصراخ في وسط ضيق كهذا قائلين: «آمنوا! وعندئذ سيكون كل شيء على ما يرام، فالسماء في انتظاركم!» إنما هو مطلب غير معقول الذي لا يمكن تنفيذه، مثلما يشدِّد الإنجيل على ذلك:
مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟ هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟ إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ، فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا،» وَلَكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟ هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ. لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ!» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي. (يعقوب 2: 14–18)
كلا، لا يمكنني إجراء مطلب غير معقول كهذا في مجتمعات كنائسنا. فيجب أن لا يكون ملكوت الله مجرد ملكوت المستقبل. وبالتأكيد أن ملكوت الله في نظر الغالبية العظمى من الناس لا يزال كامنًا في المستقبل، لكن يجب علينا في مجتمع كنيسة المسيح أن نسعى إلى الوحدة الحقيقية الآن بكافة جوانبها الروحية والعملية، وأن نبدأ بالتحرر بأسلوب بحيث تنتهي الهموم الآن، على الأقل ضمن الأخويات المسيحية التي يحب فيها بعضنا بعضًا.
ويجب أن يكون مجتمعنا المسيحي أقوى من أبواب الجحيم والموت. ويجب أن يتمتع بميزات واقعية وملموسة ممتازة في جميع المجالات، ليس في مجال الحياة العملية المشتركة فحسب، بل يجب أيضًا أن يكون كل شيء فيه صادقًا. حتى أن أيَّ فرد فيه يجب أن لا يرى أنه يجب تكريمه شخصيًّا بشكل خاص إذا صادف أنه كان جيدًا في هذا المجال أو ذاك. فإنها مسألة فضائل الله وليست الفضائل البشرية. فلا التقاليد والعادات، ولا وجهات نظر الناس، ولا آخر التوجُّهات الحديثة، ولا ما تعتقده عرضيًّا أمة معينة بأنه صائبٌ، بل ما هو حقٌّ لدى الله فقط. فعندما يحدث هذا، يكره الناس شعب الله. لأنه يحكي بصراحة في وجه العالم كله:
إنَّ تقاليدكم باطلة! فهل تفترضون بأننا نُقِرُّ بأساليبكم الحربية؟ وهل تظنون أننا معجبون بكبريائكم وحسدكم، وبمحبتكم للذات، وبكل أعمال الغش والخداع لكي تصبحوا أغنياء؟ كلا! فإننا نُفضِّل الانتماء إلى المعدمين والفقراء على الاستمرار في إجلالنا لهذا الغش والخداع!
وإنَّ مجتمع يسوع المسيح الأخوي يثير حقد وكراهية الآخرين له، لأنه يُصِرُّ على فعل ما هو حقٌّ أمام الله. فهو لم يَعُدْ يريد أساليب العالم، أو آخر الأفكار البشرية وأحدثها — فما نريده هو الله وسيادته! ويسبب هذا الأمر صراعًا عنيفًا، فلهذا يقول المُخَلِّص:
مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! (متى7: 14)
إنَّ معظم الناس، بمَنْ فيهم المسيحيون، معجبون بهذا العالم. فهم يَكُنون المهابة له. وعندما يأتي رئيس هذا العالم [إبليس] ويُقدِّم ثرواته لهم، لا يفعلون كما فعل المُخَلِّص يسوع المسيح. فقد قال يسوع لإبليس: «اُغرُبْ عني! فلن أحكم بأساليبك.» أمَّا معظم الناس فينحنون أمام الشيطان عندما يأتيهم، ويقولون له: «نعم، طبعًا، أنا مُتأكِّد من أنني أستطيع التوفيق بين علاقتي مع الله وقبول الأمور الدنيوية منك كالتكريم والمديح والثراء. وفي الواقع ستتحسن الأمور كثيرًا بعد ذلك!» وهذا ما يفعله معظمنا، ولذلك نرى الآن العديد من المسيحيين الذين هم من العالم بشكل كامل.
لا تخدعوا أنفسكم! فهذا لا ينطبق على غير المؤمنين فقط. وفي الواقع، أنا أعرف أشخاصًا غير مؤمنين يُظهِرون إيمانًا عمليًّا أكثر من المؤمنين. وأحيطكم عِلمًا بأنَّ المؤمنين هم المُعرَّضون أكثر من غيرهم إلى خطر الانزلاق في السعي لنيل التكريم لأنفسهم ولتلميع شخصياتهم أمام الناس بتقواهم الزائفة، وتراهم يقولون لكل شيء ولكل مساومة: «نعم! نعم! أوافق!» ومما يزيد الطين بَلَّة، أنهم يستعينون بالكتاب المُقدَّس لكي يجدوا ما يدعم مزاعمهم. فليس من الصواب على الإطلاق استعمال النصوص الكتابية باستمرار بشكل غير مناسب. لأن هناك ناسًا لم يعودوا يذكرون اقتباسًا واحدًا من الكتاب المُقدَّس، ومع ذلك، فإنهم يجاهدون لأجل الله، والحقيقة، والمحبة، وشركة العلاقات الأخوية. ويجاهدون أيضًا لأجل تحسين حياة الفقراء حتى يخرجوا أخيرًا من بؤسهم. وربما لا يستعملون اسم الله، لكنني على يقين من أن كل واحد منهم سيسمع هذه الكلمات التالية من الرب يسوع المسيح في اليوم الأخير:
— «ادخل إلى فرح سيدك.»
— «ولكني لا أدري ما فعلته في خدمتكَ لكي استحق الدخول.»
— «نعم، نعم! لقد خدمتَني. فكل ما فعلتَه للتخفيف من البؤس البشري، وكل ما حاولتَ القيام به لتحسين الأمور على الأرض، إنما فعلتَه لي.»
ولكن مَنْ يدري؟ فربما هؤلاء غير المؤمنين أنفسهم هم غالبية الداخلين إلى ملكوت السماوات. لأن ما يهم هنا هو الخصال الممتازة.
أمَّا أهل الإيمان، فيجب أن يحققوا شيئًا ملموسًا. فلا تظنوا أبدًا أنكم لستم مضطرين لتحقيق شيء ما. لقد تم تبشيرنا بأننا لن نخلص إلاَّ بنعمة المسيح. وأنا مؤمن بذلك. ولكن إذا كنتُ قد نلتُ الخلاص بالنعمة، فلابد لي من تحقيق شيء ما. فربما يجري قبولك — من باب الإحسان إليك — كشريك في مصلحة عمل؛ ولكن بمجرد دخولك يُطلب منك أن تبدأ بالعمل. فليس من الممكن، لا في السماء ولا في الأرض، أن لا تفعل سوى الاسترخاء بشكل مريح فيما يسمى نعمة، ولا تهتم بأيِّ شخص آخر. فإذا كنتُ أنا مُخَلَّصًا بالنعمة، فعندئذ أنا عاملٌ بفضل النعمة:
لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا. (أفسس 2: 8–10)
وإذا تبررتُ بالنعمة، فعندئذ أنا عاملٌ لأجل العدالة بفضل النعمة. وإذا أنعم الله عليَّ ووضعني في وسط الحقيقة بفضل النعمة، فعندئذ أنا خادِمٌ للحقيقة بفضل النعمة. وإذا أنعم الله عليَّ ووضعني في وسط السلام بفضل النعمة، فعندئذ أنا خادِمٌ للسلام بفضل النعمة. أمَّا إذا أخذتُ لنفسي شيئًا وُهِبَ لي بفضل النعمة، وليس لديَّ أيُّ اهتمام بأحوال الآخرين — فهذه ليست الطريقة الصحيحة. فكل العطايا التي وهبني الله إياها بفضل النعمة، تتطلب مني استخدامها في خدمته، وهنا في هذا الموضوع لا يهم سوى الشخص العامل؛ أمَّا المتقاعس فلا.
فإنَّ أهمَّ أمر في نظر الله هو أن يكون الإنسان عاملاً. لذلك، يجب أن نفكر دائمًا في قلوبنا: ما إرادة الله؟ ولكن آه، فهذا الأمر بالذات لا يمكننا أن نفعله! فكيف في وسع المرء أن يكون عاملاً لله؟ فها هنا يبدأ إنكار الذات. فهذه هي إرادة الله. لذلك، فإنها إرادتي أيضًا، وتصبح مُلكًا لقلبي. وأريدها لأن الله يريدها، ولابد وأن تحدث لأنها إرادة الله. وسأحيا لأجلها، وسأبذل جسدي وحياتي فداءً لها. فهذه هي الطريقة التي يمكننا بها فعلاً أن نُقدِّم حياتنا لله، وأن نكون ذبائح حيَّة من أجل الله، وأن نعمل بإخلاص من خلال هذه الذبيحة، فهذه ذبيحة حياتنا كلها.
أيها الأصدقاء الأعزاء، هناك قوة عظيمة كامنة في هذا التفاني. وأدعوكم إلى أن تبذلوا الغالي والنفيس، ولو لمرة واحدة، لأجل إرادة الله! فلن يذهب عملكم سدىً. فابذلوا قصارى جهودكم لأجل الحقِّ، ولأجل عدل الله. وقوموا بإنكار الذات، على خلاف المنطق البشري، وذلك لأجل أمر صالح حقًّا. وابذلوا أنفسكم لأجل المسيح في كل الأشياء، ولأجل مجتمع الكنيسة الكلي المشاركة الذي يطلب ملكوت الله أولاً. فهناك قوة هائلة كامنة في هذه التضحية. ولقد سيق في الماضي آلاف الناس للموت بسبب هذا الأمر. فقد ضحوا بحياتهم بفرح، حتى عندما تعرَّضوا لأقسى أنواع التعذيب. وقد بقوا أقوياء لأنهم ثبتوا على إرادة الله. أمَّا في هذه الأيام، فنرى الناس يتجنبون ويتهربون من حمل أعباء أيِّ صليب كان. فلم يَعُد أحد يجرؤ على أيِّ شيء. ولا أحد يجازف بأيِّ شيء. فنحن نرتعد بمجرد أن يتعارض شيء ما مع الطريقة الدارجة التي تسير بها الأمور. ونخشى من آراء الآخرين. ولكن إذا أردنا أن نحظى بفرح في المسيح، فرح لا ينتهي، فعلينا أن نتعلم أن نبذل أنفسنا لأجل المسيح. فلا يوجد سبيل آخر. فلن تتحسن الأمور في العالم إلاَّ إذا قام الناس الذين يضحون بأنفسهم بتقديم أنفسهم عَمَلَةً لله. فلن تُغيِّر الديانة المسيحية المريحة العالم أبدًا.
فلا للمسيحية المريحة، بل افرحوا في الرب، وفي رجاء ملكوته! وافرحوا في الرب لكونكم مجاهدين ثابتي العزيمة لمجتمع كنيسته الكلي المشاركة، ذلك المجتمع الذي يستطيع فيه الإخوة والأخوات أن يعيشوا معًا في إنكار حقيقي للذات وفي تحرُّر حقيقي للروح، ذلك المجتمع الذي لا يدين أحدًا، لكنه في الوقت نفسه لديه نظرة واضحة عن الحقِّ، ولا يساوم على وصايا الرب. فليكُن هذا الأمر هو الذي يربط بعضكم بعضًا! فدافعوا عن مستقبل الله، وسيدوم فرحكم. فكل مَنْ يملُك المسيح على قلبه، فإنه سينتصر في المعركة. وسيضع مثل هذا الإنسان نصب عينيه دائمًا ذلك اليوم الذي سوف يكون في وسع جميع الناس الابتهاج والتَّهلُّل، من بعد أن يتم الانتصار في المعركة لأجل مجد الله.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «في انتظاره فعل»