وكما تصف الكاتبة أسماء الدين، التي تأتي من خلفية مماثلة، تجربتها لي، فتقول:
إنّ معظم الآباء المهاجرين المسلمين سيعتبرون أمريكا دائما «أكثر ليبرالية» من البلدان التي أتوا منها. لذلك، حتى لو كانت أمريكا أكثر محافظة نسبيا في ذلك الوقت من وقتنا الحالي، إلّا أنها لم تكن محافظة بما فيه الكفاية في نظر والديّ. وأعتقد أن قلقهم على ما كان أولادهم يتعلمون في المدرسة أو يشاهدون في وسائل الإعلام في زمن جيلهم أقل من قلقي الذي أشعر به الآن في جيلنا الحالي، ولكن الفكرة العامة كانت نفسها: إنشاء مأوى آمن، مجتمع داخل المجتمع الأكبر، يُمثِّل أسلوبنا في الحياة.
أما اليوم، فإنّ الجمهوريين المسلمين هم قِلّة من الناس. فمن بعد هجمات 11 سبتمبر، فإنّ دعم إدارة بوش للصلاحيات التي تخوِّل المراقبات الأمنية بموجب قانون مكافحة الإرهاب وضعت المجتمعات المسلمة المطيعة للقانون تحت سحابة دائمة من الشكّ. ثم إنّ الخطابات عن «صِدام الحضارات» و «الحملة الصليبية» جعلت الأحوال أسوأ. ونشبت بعد ذلك حرب العراق. حتى أن السياسيين الجمهوريين توقفوا مع مرور الوقت عن محاولة التقرُّب والتودُّد من المجتمع المسلم، الذي أخذ يرى أجندة الأمن القومي لحزبهم بأنها لا تحظى بشعبية عندهم. أما انتخاب دونالد ترامب، بخطابه الواضح ضد المسلمين، الذي لا يعتذر عنه، فكان يُمثِّل تتويجا لعملية دام إعدادها لمدة خمسة عشر عاما. ففي أمريكا التي يرأسها ترامب، فإنّ المسلم الجمهوري قد يواجه على الأرجح اتهامات بالخيانة.
إنّ حجج المجادلات عن تلك الثقافة التي تزداد مُعاداتها للمؤمنين لا تنطبق على المسيحيين فحسب.
في غضون ذلك الوقت، احتضن الديموقراطيون الناس المسلمين باعتبارهم من جمهور الناخبين الأساسيين في تحالف الحزب الذي يضمّ شرائح مجتمعية متنوعة. وهذا أدى بشكل أو بآخر إلى تسريع التحوّل الذي أقلق والدينا. وعندما يصبح المسلمون – وخاصة الشباب المسلمون في المناطق الحضرية – أكثر اندماجا في المجتمع الأمريكي، يسهل تشكيلهم بالمعايير الليبرالية، حتى لو ظلّوا ملتزمين دينيا أكثر من بقية السكان. وقد يشجب المتشددون المناهضون للمسلمين «تسلُّل الشريعة،» ولكن ما يحدث واقعيا في الإسلام الأمريكي هو «تسلُّل الليبرالية،» كما يقول الكاتب مصطفى أكيول.
إنّ المسلمين على نحو متزايد ليس مع اليسار الديموقراطي الليبرالي في بعض النقاط فحسب بل أصبحوا أيضا جزءا منه بصورة كليّة، الأمر الذي أدى إلى اعتمادهم بعض المعتقدات الأساسية للتحالف التقدمي الليبرالي. والمثال الأكثر وضوحا على ذلك هو حقوق المثليين، حيث يمرّ المسلمون الأمريكيون بتحوّل أكبر وأوضح من التحوّل الذي شهده الجمهور الأمريكي الأوسع خلال رئاسة أوباما. ووفقا لمركز بيو للأبحاث، في عام 2007، لم يقُلْ غير 27 في المائة من المسلمين في الولايات المتحدة إنّ المثلية الجنسية يجب أن تكون «مقبولة من قِبل المجتمع.» أما بحلول عام 2016، فارتفع هذا الرقم إلى 52 في المائة. وقد يُمثِّل هذا ما وصفته الكاتبة أسماء الدين في كتابها «When Islam Is Not a Religion» (عندما لا يكون الإسلام دينا) بأنه: «اتفاق ضمني على أن المسلمين، كمؤمنين متدينين، لن يحتجوا أبدا على أيّ من الحقوق التي يناصرها اليسار، مثل الرؤية التقدمية للهوية الجنسية أو المساواة الجنسية.»
مقاومة المغريات نحو الليبرالية
هناك بعض التذمُّر بين المسلمين المحافظين، الذين يشعرون بأن العديد من المساومات قد تم إجراؤها بسرعة كبيرة – مع القليل من التفكير في عملية هذا التحوّل السلبي. وسيعلم القليل من الناس غير المسلمين بهذه المناقشات المُتذمِّرة، الجارية بشكل كبير في داخل المجتمعات المسلمة وفي المنشورات المسلمة. وعلاوة على ذلك، فإنّ أكثر المسلمين المحافظين الواثقين بدينهم هم أقل الناس الذين يرغبون في أن يكون لديهم منبر في وسائل الإعلام ذات التيار العام السائد. وهذا يجعل من السهل التقليل من أهمية درجة مشاعر الضيق والانزعاج بين أقلية مهمة من المسلمين الأمريكيين، وإن كانت لا تزال هادئة نسبيا.
يكمن في صميم الجدل المحافظ أو «التقليدي» فكرة أن النشطاء المسلمين يمكنهم بل يجب أن يدعموا حقوق الجماعات غير المسلمة والأفراد غير المسلمين – بشرط أن تبقى هذه المناصرة في حدود مبادئ الشريعة الإسلامية. وإنهم ينتقدون أتباع دينهم بسبب تحمُّسهم الكبير لقبول التيار العام السائد بنوايا حسنة مما يؤدي إلى الانحراف الأخلاقي. ومن جراء التهديد الناجم عن التعصُّب ضد المسلمين، فإنّ هؤلاء المُنتقِدين من المسلمين المحافظين يجادلون بأن المسلمين الليبراليين مستعدون للغاية – من أجل أهداف مشتركة – لأن يتحالفوا مع حلفاء لديهم إشكاليات كثيرة حتى لو كانت لديهم معتقدات معارضة للتعاليم الإسلامية. ويؤكد إمام ديترويت داوود وليد، على سبيل المثال، في كتابه «Towards Sacred Activism» (نحو نشاط مقدس) على «الفرق بين الائتلافات والتحالفات.» فيذكِّرنا بأن الائتلافات تتطلب ألفة متبادلة أعمق والتزاما بدعم أهداف الطرف الآخر. ويؤكد داوود وليد على أن ولاء المسلمين النهائي وطاعتهم يجب أن يكونا لله، ولله وحده.
كتب إسماعيل روير Ismail Royer، وهو ناقد بارز آخر الذي ينتقد التحوّل اليساري للمسلمين، أن المنظمات التقدمية الليبرالية تأمل في «إعادة تشكيل الإسلام كمجموعة علمانية وهويتها تتمحور حول العرق ‹الأسمر،› ودليلها الأخلاقي هو الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي بدلا من المصادر الدينية الإسلامية.» وبالمثل، يعارض الباحث الشرعي الإسلامي شادي المصري سياسات الهوية ويرى أن الانشغال بالهيمنة المسيحية البيضاء للجمهوريين أمر مُضلِّل، ويقول: «أخشى أن يكون العديد من المسلمين المثقفين على الساحلين الشرقي والغربي قد وقعوا في فخ أن كل شيء غير مسيحي هو حليفنا. غير أن الأمر ليس كذلك.» ويحذر من أن الليبراليين ببساطة «يستخدمون المسلمين كجزء من مطرقة تنوعهم لسحق المؤسسة المحافِظة البيضاء للجمهوريين.»
إنّ هذه المخاوف من تمييع القيم الثقافية والتَّطبُّع – أي بمعنى أن يتوقف المسلمون عن أن يكونوا مسلمين – هي صدى لكتابات عدد متزايد من المسيحيين الملتزمين الذين يشعرون بأن الثقافة العلمانية الأمريكية والسياسات الليبرالية تهاجمهم وتنتقدهم بشدة. ولم يتوانَ رود دريهر Rod Dreher في كتابه «The Benedict Option» (خيار بَنَدِكت) عن وصف الأمور المُعرَّضة للخطر. إذ يكتب في الصفحات الافتتاحية: «لقد فاتنا الوقت، فلنأخذ الأمر على محمل الجد.» وإنّ رود دريهر مثل المسلمين التقليديين المذكورين أعلاه، فهو يرى أن الضغط الليبرالي لقبول الزواج المثلي والتعريف الذاتي لمجتمع المثليين، الذي يضمّ المثليين والثنائي الجنس والمتحوّلين جنسيّا والشواذ، يُمثِّل عداءً واسع الانتشار للإيمان التقليدي. ويحذر قائلا: «كلما يتشبّع المجتمع هنا بالثقافة الأمريكية الأوسع، حيث يكبر الطفل فيه، فلا يقدِّم من بعد الآن أيّ أساس معقول لمعايير السلوك الأساسية.»
إنّ حجج المجادلات التي يقدمها رود دريهر عن تلك الثقافة التي تزداد مُعاداتها للمؤمنين لا تنطبق على المسيحيين فحسب. فليس من المستغرب أن تبدأ مقترحاته «لتشكيل مجتمعات طوعية من التضامن الديني» باجتذاب اهتمام المسلمين التقليديين. وستنتقل روحية ثقافة «خيار بَنَدِكت» على الأرجح إلى أبعد من أصولها المسيحية – إذ إنها تُمثِّل دعوة «لنعود إلى الجذور عودة واعية للتاريخ ومعارضة للحداثة» وتنمية «شعور بالانفصال.»
يقول راشد دار Rashid Dar، وهو كاتب وباحث سابق في معهد بروكنجز Brookings، إنّ المجتمعات الإسلامية «كانت تعيش إلى حدّ ما ‹خيار بَنَدِكت› قبل نشر كتاب ‹خيار بَنَدِكت.› ويمكنك تسميته ‹خيار بَنَدِكت المسلم.›»
مكان خاص بنا
إنّ راشد دار منتسب إلى المقاصد Al–Maqasid، وهو مجتمع، ومسجد، ومعهد دراسي هادف في منطقة ماكونجي، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية. ورغم أن أفراده لا تسرّهم بالضرورة عبارة «المجتمع الطوعي،» ولكنهم لديهم بعض أوجه التشابه مع رؤية رود دريهر عن مكان محمي من مخاطر الثقافة العلمانية والفردية. ويصف لي أحد أئمة المقاصد، أمجد طرسين، بأنها «مؤسسة تعليمية في بيئة تشبه مراكز الرياضات الروحية.» وفي وقت مبكر من بداية مجتمع المقاصد، انتقلت مجموعة من العائلات طوعيّا إلى منطقة ماكونجي. وبعد أن أمضوا وقتا معا في بعض الرحلات المبرمجة في أحضان الطبيعة، زاد تقرُّبهم، وأخذوا يتساءلون: «لماذا لا يمكننا أن يكون بعضنا قريبا من بعض دائما.» وتبيّن أنهم تمكنوا من تحقيق ذلك.
في البداية، كانت هناك رؤى مختلفة بخصوص أيّ مدى ينبغي أن تكون «طوعية» المجتمع. لقد أعطوا الأولوية للاحتياجات الدينية الرئيسية في الوقت الذي قاموا باستكشاف عناصر أخرى لجعل المجتمع ذي اكتفاء ذاتيّ أكثر. وأخبرني أحد أفراد المقاصد بهذا قائلا: «نحن بحاجة إلى إنشاء مكان خاص بنا لغسل أفراد المجتمع الذين يموتون، أيّ بمعنى مستودع جثث خاص بنا. وسيكون أمرا رائعا لو تمكنا من بناء مزرعة دجاج مجاورة لنا وإضافة ماعز وإنتاج الحليب. ولكن هذه الأمور جميلة غير أنها ليست ضرورية.»
والهدف من مجتمع المقاصد اليوم أن يكون بمثابة «مكان لقاء أوسط»؛ ومن أحد المواضيع الذي يُثار مرارا وتكرارا هو فكرة أن يصبح المرء قويا في البيت ليصبح قويا في خارج البيت، أينما كان ذلك. وكما قال راشد دار: «نحن نريد أن نتفاعل مع العالم، ولكننا نريد مكانا يمكننا أن نعيش فيه حياتنا كما نريد أن نعيشها في مكاننا الخاص. وبمجرد أن نحصل على الحرية للقيام بذلك، يمكننا عندئذ تحديد كيفية الانخراط في المجتمع الأوسع لأننا نعرف مبادئنا وقيمنا الخاصة. ولدينا مكان خاص للاطمئنان والتقاط أنفاسنا.»
ويبدو أن إنجاب الأطفال والقلق عليهم يلفتان اهتمام فكر المرء وعزيمته إلى التركيز على الموضوع. فيوضح أحد المتحوّلين من المسيحية وهو من أحد أفراد مجتمع المقاصد الأوائل: «لقد انتقلتُ إلى هنا من أجل أطفالي.» ويأمل أنه بعد قضاء بعض الوقت في المقاصد، فإنّ ابنه الملتحق بالكلية «سيحصل إن شاء الله على الأدوات اللازمة للتعامل مع عالم يتعرض فيه المسلمون للتشنيع والاحتقار، ومع ذلك يبقى متمركزا على إيمانه.»
الإسلام في ظلِّ الليبرالية
قالت رئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركل وسط تصفيق الحاضرين عام 2010: «ليس لدينا الكثير من الإسلام، ولكننا لدينا القليل من المسيحية.» فقد عبَّرت في جملة واحدة عن الواقع بأن تلاشي المسيحية العامة في أوروبا الغربية لم يكن أمرا سيئا للمسيحية فحسب؛ بل أنه أدى أيضا إلى إظهار صارخ لاختلاف المسلمين وتمايز المسلمين.
في أوروبا الغربية، تُعتبَر مكانة الدين – أيّ دين كان – شأنا خاصا للمواطنين، بخلاف ما يحدث في الولايات المتحدة. ووفقا لمسح مركز بيو للأبحاث لعام 2018، لا يرتاد الكنائس ارتيادا أسبوعيا في الدانمارك إلّا 10 في المائة من السكان، أما 9 في المائة منهم فيعتبرون الدين «مُهِمّا جدا» في حياتهم. وفي السويد، فإنّ رقمي الأبحاث أعلاه هما 6 وَ 10 في المائة. فقد وصلت تلك المجتمعات إلى اتفاق جماعي في الرأي لصالح العلمانية، لدرجة أن التعبيرات العلنية للدين العام أصبحت تثير الامتعاض.
وبناء على ذلك، وفي معركة الإيديولوجيات في أوروبا، أصبح المسلمون ليسوا مجرد مسلمين: فقد أصبحوا عنصرا بديلا يُستخدَم لتبرير مجموعة أعمق من القضايا بما في ذلك المساواة بين الجنسين، والحرية الجنسية، وحقوق المثليين، والتحوّلات الديموغرافية طويلة المدى، وتراجع المسيحية. وغالبا ما يدَّعي المدافعون عن الوضع العلماني الراهن في أوروبا بأنهم لا يفعلون شيئا سوى حماية حيادية الأجواء الاجتماعية العامة في بلدانهم. ولكن الليبرالية، لاسيما في أشكالها القصوى، ليست محايدة إلّا لأولئك الليبراليين سلفا. فقد كتب المُنَظِّر السياسي آندرو مارتش Andrew March في كتابه «Islam and Liberal Citizenship» (الإسلام والمواطنة الليبرالية) قائلا: «إنّ ممارسة الإسلام تجعل كل ما تناضل من أجله الحيادية الليبرالية من مناشدات وتحديات أمرا واضحا للعيان.»
ومهما تكن الدواعي، سواء كانت للمسلمين المحافظين أو للمسيحيين الإنجيليين، فإنّ بناء الجدران معناه رفض إمكانيات التواصل الديني ورفض تقديم الشهادة للآخرين ورفض النشاط في المجتمع.
ومثلما اعترفت أنجيلا ميركل، فإنّ تراجع الدين يمكنه أن يغذّي الاستقطاب الديني، ويزيد من الفجوة بين المتديّنين وغير المتديّنين. غير أن الالتزامات الدينية للمسلمين المحافظين تجعل الأمر صعبا، حتى لو رغبوا في أن يكونوا حذرين، لأن ارتداء الحجاب، أو طلب الطعام الحلال، أو الإعفاء من العمل لغرض الصلاة في أماكن العمل، أو الامتناع عن الكحول، هي كلها في نظر العلمانيين أمور تسبب الإزعاج وتعطيل العمل من جهة وفيها تظاهر وتباهٍ من جهة أخرى. إذ يبدو المسلمون وكأنهم غريبو الطباع، ومعادون للثقافة السائدة، ومعارضون تلقائيا للمسيرة الثابتة للتقدم نحو المستقبل اللاديني، الذي افترضه العديد من الأوروبيين أنه يُمثِّل حاضرهم سلفا.
هنا، لا تزال الولايات المتحدة لها موقف استثنائي بشكل جزئي – على الأقل بالنسبة إلى الوقت الحالي. لأنه يوجد عدد كبير من المسيحيين الأمريكيين لا يخجلون من إظهار إيمانهم بحيث يبدو التديّن طبيعيّا على الصعيد الاجتماعي. ويعلم على الأقل الليبراليون العلمانيون بأن «التديّن» موجود، حتى لو كانوا يعرفون عددا قليلا من المؤمنين في دوائرهم، أو يرون المسيحيين منزعجين. إذ إنّ الممارسة المنظورة للدين ليست مرتبطة في المقام الأول بالمسلمين والإسلام.
وهذا ما يفسر لماذا يعيش المسلمون الأمريكيون في ما قد تكون على الأرجح البيئة الأكثر حرية للمسلمين في أي مكان في العالم، رغم تعاملهم مع العنصرية وكراهية الإسلام المتزايدتين. وقد يعترض عدد أكبر من المسلمين المحافظين على التحوّل العلماني أو يقلقون من أن أولادهم سيفقدون الإيمان – في الوقت الذي تراهم أنهم لا يزالون يتفقون على أن الأمور جيدة.
ومن المفارقات، أن التزام أمريكا بالحرية الدينية، حتى عندما تسمح للإسلام التقليدي بالازدهار، تقوم من ناحية أخرى بتعقيد الفهم التقليدي المتشدد للإيمان. إلّا أن الشريعة الإسلامية غير مصممة لهذا. فلم يكن بإمكان التقليد القانوني الإسلامي التاريخي أن يتخيّل الحياة في دولة قومية، فكم بالحري دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولكنه يمتلك بدلا من ذلك مجموعة فقهية غنية فيما يتعلق بمسألة أن يعيش المسلمون تحت حكم غير إسلامي – وربما كانت مُقلِقة من منظور معاصر. وإنّ هذا الفقه، الذي نوقش بالتفصيل في كتاب آندرو مارتش «Islam and Liberal Citizenship»، مليء بالتحذيرات بشأن الصعوبة المتأصلة، وربما حتى استحالة، العيش بأمانة كمسلم في بلد لا تسود فيه الشريعة الإسلامية.
بالنسبة إلى المسلمين الأمريكيين، فإنّ احتضان دورهم كأقلية مبدعة قد يدلِّل على أكبر مصدر لقوتهم.
واليوم، لا تزال هذه المجموعة الفقهية سارية المفعول من الناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية فهي بعيدة كل البعد واقعيا بشكل متزايد. فمن الطبيعي أن التقليد القانوني، الذي تطور في عصر لم تكن فيه لا الديمقراطية ولا الليبرالية من المفاهيم المعقولة، سيعطي لنا مشهدا رهيبا لوضع المسلمين الذين يعيشون تحت حكم، لنقُل، الهيمنة المسيحية الإسبانية. أما أن يعيش المسلمون في مجتمع متحرر وغير مسلم – وفي مجتمع متحرر أكثر فيما يتعلق بالتعبير الديني الإسلامي من البلدان الإسلامية نفسها، مثل المملكة العربية السعودية أو إيران، التي تدعي بأنها تطبّق الشريعة – فسيكون له عواقب بالغة على كيفية تفكير المسلمين في علاقتهم بالمجتمع المحيط بهم.
أنا أظن أن الليبرالية الأمريكية، في كل من أشكالها الكلاسيكية والتقدمية، هي جيدة – لأنها تجعل الإسلام الأمريكي نابضا بالحياة، وإبداعيا، وحيويا بشكل غير معتاد وأمامه إمكانيات متاحة. ولكن يمكنني أن أفهم لماذا يقلق الآخرون بشأن التوجُّه الذي تقودنا إليه الليبرالية، ومحذرين من أن الوقت قد حان لوضع دفاعاتنا. أما بالنسبة إلى المسلمين، فإنّ مصدر الطريق السليم المعياري هو الوحي الإلهي. فتحترم أمريكا الدين ولكنها تسمح أيضا بتعددية غير مُقيَّدة. فما مدى مرونة الوحي الذي يأمل أن يكون في مواجهة فكرة أمريكية بهذه القوة؟ وقد تجعل أمريكا الإسلام آمنًا من أجل الليبرالية، ولكنها قد تجعله أيضا شيئا آخر غير ما كان عليه – أو، كما قد يجادل البعض، ما يجب أن يكون عليه.
تشكيل أقلية مبدعة
لو كانت قوة الثقافة العلمانية آخذة في النمو، عندئذ يكون الاستعداد بالتصميم والعزيمة لِما هو قادم ليس عملا ذكيّا فحسب؛ بل إنه الطريقة الوحيدة للنجاة. أما البقاء ساكنا في شرنقة ضيقة، في مجتمع انفصالي، فهو ببساطة ليس حلّا عمليا – حتى لو كان ذلك في منطقة ماكونجي التي تعتبر منطقة ريفية ممتعة، ولا تبعد سوى ساعة عن ضواحي فيلادلفيا التي نَشأتُ فيها.
وقد عبَّر أحد أفراد المقاصد عن تعاطفه مع المسيحيين الإنجيليين الذين يشعرون بوجود «اعتداء ثقافي يحدث الآن ويبعد الناس عن الكنيسة،» وغالبا ما يقول إنّ «الدين محذوف من النقاشات» في الحياة العامة. ويضيف: «ولكن، في نهاية المطاف، يفتح دستور الولايات المتحدة تلك الحرية ويسمح لنا بإجراء هذه المحادثات بطريقة لا يمكن تصورها في العديد من البلدان حول العالم.»
ومهما تكن الدواعي، سواء كانت للمسلمين المحافظين أو للمسيحيين الإنجيليين، فإنّ بناء الجدران معناه رفض إمكانيات التواصل الديني ورفض تقديم الشهادة للآخرين ورفض النشاط في المجتمع. ويمكن للإسلام أن يبدو بطرق معينة إيمانا منعزلا وضيق الأفق، ولكنه حتى عندما يكون هكذا، فإنه دائما ما يهتم بشؤون «هذا» العالم، وليس الآخرة فقط. وعليه فإنّ الهدف بالنسبة إلى المسلمين في المقاصد هو ليس الانفصال عن التيار العام السائد في المجتمع، بل البحث عن نموذج مختلف للمشاركة فيه.
وعندما تحدثتُ مرة مع أحد أفراد المقاصد، أذهلتني قلة انعدام الأمن والضعف والانزعاج الذي أثر بشكل متزايد على خطابات المحافظين المسيحيين في مواجهة العلمانية. وإنّ أفراد المقاصد قلقون بشأن المستقبل بالتأكيد، ولكنهم واثقون أيضا. وعندما ينظرون إلى المستقبل، لا يرون انحلالا وإنما وعد بالنمو والازدهار. ويجب الإقرار بأن الإسلام بحسب التقليد لا يتصوّر نفسه أن يكون دين أقلية. ولكن بالنسبة إلى المسلمين الأمريكيين، فإنّ احتضان دورهم كأقلية مبدعة قد يدلِّل على أكبر مصدر لقوتهم، مما يسمح لهم بنحت مكان صغير خاص بهم في عالم علماني.