1: ما الرأسمالية؟
إنّ التجارة، في جوهرها، شيطانية. فالتجارة سداد ما تم إقراضه، وإنها القرض الذي تم الحصول عليه بهذا الشرط: ادفع لي أكثر مما أعطيك.
— الشاعر الفرنسي شارلو بودلير Charles Baudelaire، من قصيدة: Mon cœur mis à nu
ليس لدي إجابة مُرضية تماما على الأسئلة التي تثير هذه التأمُّلات الفكرية المطروحة في هذه المقالة؛ ولكني أعتقد أن النهج الصحيح للإجابات يمكن رؤيته بوضوح إلى حد ما إذا أخذنا وقتا كافيا لتحديد مصطلحاتنا. فقبل كل شيء، لقد أصبحت كلمة رأسمالية في هذه الأيام، وخاصة في أمريكا، كلمة كبيرة جدا بشكل يبعث على السخرية وتُستعمل على نطاق واسع لكل أشكال التبادل الاقتصادي التي يمكن تخيّلها، مهما كان بدائيّا أو مُتخلِّفا. ومع ذلك، فأنا أعتبر أننا هنا نستخدمه بشكل أكثر دقة إلى حد ما، للإشارة إلى فترة في تاريخ اقتصاديات السوق التي بدأت بشكل جدي منذ بضعة قرون فقط. والرأسمالية، كما يعرّفها العديد من المؤرخين، هي مجموعة من الاتفاقيات المالية التي ظهرت في عصر التصنيع (الثورة الصناعية) التي حلت تدريجيا محل التجارة في العصر السابق. وكما حددها السياسي والفيلسوف الفرنسي برودون Proudhon في عام 1861م، بأنها نظام له قاعدة عامة وهي أن أولئك الذين يجنون أرباحا بمصالح أعمالهم، لا يمتلكون وسائل الإنتاج ولا يتمتعون بثمار أتعابهم.
لقد دمَّر هذا الشكل من التجارة وإلى حد كبير القوة التعاقدية للعمالة الماهرة الحرة، واستأصل النقابات الحرفية، وقدم بدلاً من ذلك نظام الأجور الجماعية الذي قلل من شأن العمالة لينزل بها إلى مستوى سلعة قابلة لمناقشة تخفيض أجورها. وبهذه الطريقة، خلقت سوقًا لاستغلال العمال الرخيصين والمحتاجين. كما تم تشجيعها بشكل متزايد من خلال سياسات الحكومة التي قللت من خيارات المحرومين لتنزل بهم إلى مستوى رواتب العبيد أو الاعتماد الكلي على المساعدات الاجتماعية (مثلما حصل في بريطانيا عندما بدؤوا في منتصف القرن الميلادي الثامن عشر بتسييج أو تطويق نظام الحقول المفتوحة، لتصبح استخدامات الأرض مقتصرة على المالك، ولم تعد أرضًا مشتركة بين جميع الرعاة كما كان في السابق). وعلاوة على ذلك، سبب كل هذا على وجه أكيد تحولاً في السيادة الاقتصادية من فئة التجار – الذين كانوا يشترون سلعا ومنتجات بعقود من الأعمال المستقلة أو شركات فرعية أو أسواق محلية صغيرة ومن ثم يبيعونها إلى جهات أخرى – إلى مستثمرين رأسماليين أخذوا ينتجون ويبيعون سلعهم بنفسهم. وتطور هذا الأمر مع مرور الوقت وأدّى إلى خلق نظام مؤسسي لشركات ضخمة التي حوّلت الشركات المساهمة للتجارة المعاصرة إلى محركات لتوليد رأس مال هائل على المستوى الثانوي من المضاربات المالية: أي بمعنى سوق مالي بحت حيث يتم تكوين الثروات لأجل أولئك الذين لا يتعبون ولا يكدحون ولكي يتمتعون بهذه الثروات، ولكنهم بدلاً من ذلك ضليعون في عملية مستمرة من تدوير الاستثمارات وسحب الاستثمارات، كنوع من ألعاب الحظ.
لهذا السبب، قد يقال إنّ الرأسمالية قد حققت التعبير الأمثل لها في نهوض الشركات التجارية ذات المسؤولية المحدودة، وهي مؤسسة تسمح بلعب اللعبة بطريقة تجريدية حتى لو كانت الشركات المستثمرة قد نجحت في النهاية أم فشلت. (فيمكن للمرء أن يستفيد من تدمير سبل العيش بقدر ما يستفيد من إنشائها). فإنّ مثل هذه الشركات هي كيان ماكِر حقًا: لأنها تتمتع حسب القانون باعتراف شرعي كونها تُعتبر في نظر القانون شخص اعتباري – وهو امتياز قانوني كان لا يُمنح سابقًا إلّا «للجمعيات التعاونية» المعترف بها على أنها تقدم منافع عامة، مثل الجامعات أو الأديرة – أما الآن، فإنّ هذه الشركات صار مطلوب منها بموجب القانون أن تتصرف كأحقر شخص يمكن تخيله. ففي كل مكان تقريبًا في العالم الرأسمالي (في أمريكا، على سبيل المثال، منذ اتخاذ قرار عام 1919م في قضية Dodge v. Ford)، فإنّ مثل هذا النوع من الشركات لا ترمي إلى أيّ هدف إلّا إلى أقصى مكاسب لمساهميها؛ ويحظر عليها السماح لأي اعتبار آخر يعيقها عن سعيها هذا – أي بمعنى اعتبارات صالحة مثل حساب ما يشكل أرباحًا لائقة أو غير لائقة، أو مصلحة العمال، أو قضايا خيرية قد تؤدي إلى تحويل الأرباح، أو مقدار ممتلكاتك.
لذلك، فإنّ أخلاق مثل هذه الشركات مرهون بانعدام البعد الأخلاقي. ومن الواضح أن نظامها كله هذا لا يكتفي بأن يضع في حسبانه التركيز الهائل على رأس المال الخاص واتخاذ القرارات المناسبة بكامل التصرُّف بشأن تسخير رأس المال هذا دون قيود على قدر الإمكان، بل يعتمد أيضا على هذين العنصرين بشكل إيجابي. ويسمح نظام هذه الشركات باستغلال الموارد المادية والبشرية على نطاق هائل بشكل لم يسبق له مثيل. وسيؤدي هذا حتما إلى خلق ثقافة النزعة الاستهلاكية، لأنه يجب أن يزرع عادة اجتماعية للاستهلاك التجاري بشكل مبالغ فيه يتجاوز مجرد الحاجة الطبيعية أو حتى (ربما يمكن القول) يتجاوز الابتغاء الطبيعي. ولا يكتفي الأمر بإشباع الرغبات الطبيعية؛ إذ تُحتِّم الثقافة الرأسمالية على نفسها أن تسعى دون توقف إلى اختلاق رغبات جديدة، من خلال استمالة واجتذاب ما يسميه الإنجيل في رسالة يوحنا الأولى: «شَهْوَةَ الْعُيُونِ.»
هوامش
الإقراض المفترس (بالإنجليزية: Predatory lending) يعني فرض شروط تعسفية ذات ممارسات احتيالية وجائرة على المُقترض بما يعرضه لأخطار مالية جانبية مقابل الحصول على القرض.
عواقبية consequentialism عقيدة تقول إنّ أخلاق أيّ عمل أو تصرُّف يجب أن يُقيَّم من خلال عواقبه فقط.
مذهب اللاسُلطويّة Anarchism هي فلسفة سياسية تؤمن بإلغاء النظام الحكومي وتدعو إلى تنظيم مجتمعات من دون دولة مبنية على أساس جمعيات تطوعية تعاونية وغير هرمية دون اللجوء إلى القوة أو الإكراه، وذلك لأنها ترى بأن جميع أشكال السُلطة الحكومية تتسم باللاأخلاقية وغير مرغوب فيها ولا ضرورة لها البتة، وتعارض اللاسُلطويّة السُلطة في تسيير العلاقات الإنسانية. ونشطت هذه الحركة في عدد غير قليل من الدول.
النيوليبرالية Neoliberalism وهي أيديولوجية لتفضيل الأسواق الحرة وانعدام التنظيم الرأسمالي، وهي تختلف عن الليبرالية الجديدة أو الليبرالية الاجتماعية New Liberalism.
كان بيتر كروبوتكين Peter Kropotkin (ولادة 9 ديسمبر/كانون الأول 1842 - وفاة 8 فبراير/شباط 1921م) ناشطا روسيا وثوريا وعالما وجغرافيّا، الذي ناصر الشيوعية اللاسلطوية Anarcho-communism.