"كنت أفكر بمستقبلي. فقد قابلت طبيبي مؤخرا صباح الثلاثاء وتبين لي بأن ورمي الخبيث لم يتجاوب مع العلاجات التي تلقيتها. فقد أجري لي عملية جراحية كبرى بعدها سلسلة من المعالجات لغرض شفائي. لكنها لم تنجح. غير أن المرض كان دائراً ومن المحتمل ان تُطيل بعض العلاجات الاضافية حياتي بعض الشي، ولكنها لا تشفي المرض. وكلما فكرت في الموضوع كنت أفضّل إيقاف العلاج الإضافي. فكان كل شيء فيّ يعارض فكرة خوض ذلك العلاج مرة ثانية، لأنه مكروه جداً. ولا اطيق رؤية نفسي بلا شعر مرة ثانية. صحيح إن موضوع الشعر هو موضوع ضئيل لكنه صعب في الوقت نفسه.
فبكلمة أخرى، أود العيش مجرد يوم بيوم. كنت أعلم بأنني لو ثبِتُّ في يسوع فإنه سيمضي معي وادي الظلال هذا. فضلاً على ذلك، فهو كان بنفسه هناك! وأؤمن حقاً بما قاله أيوب، "أَمَّا أَنَا فَإِنِّي مُوْقِنٌ أَنَّ فَادِيَّ حَيٌّ، ... وَبَعْدَ أَنْ يَفْنَى جِلْدِي، فَإِنِّي بِذَاتِي أُعَايِنُ اللهَ." (أيوب 19: 25-26)
أنا متأكدة من أن أوقات صعبة بانتظاري، لكني أريد الإلتفات إلى طبيبي السماوي وأضع ثقتي به في كل ما ينتظرني. فهو يعلم كيف يشفي أكثر من غيره. لقد وهبني حياة كاملة، وأنا راضية بأن أسلمها له الآن."
عندما كتبت برونوين البالغة من العمر 49 عاماً هذه الرسالة لزوجتي عادت الأورام بالظهور على جميع أنحاء جسمها، وأدركت بعدم جدوى فعل أي شئ آخر. فبعد سنين من الصراع مع السرطان فقد "انتهيت" (بحسب تعبيرها) من تحمل الفحوصات الكيمياوية وتعبت من الأنتظار للفحوصات التالية أو لفحوصات الأشعة. فلم تكن تعبانة من الحياة. بل كانت آنذاك مستعدة للمضي إلى ما وراء نطاق الطب.
أن موقفها هذا كان مفهوما لكل من علم كم برونوين كافحت ضد المرض الى حد ذلك الوقت. لأنها لم تستسلم بل أقرت بأن صراعها تحول الى مستوى آخر. وقامت بهذا بكل واقعية بحيث لم يجرؤ أحد على أن يشكك في قرارها هذا. وكما كتبت في رسالة أخرى لاحقاً، "لدي إحساس بالسلام لما ينتظرني. فنحن نفعل ما بمقدورنا وعلى حسب مقدرتنا، غير أن ما يتبقى في النهاية هي الصلاة."
للأسف، تعبس حضارتنا التي نعيش فيها بوجه قرارٍ مثل قرار برونوين الى حد كبير. إن إحصائيات الإستفتاء تشير (على الأقل في أمريكا) بأن غالبية المصابين بأمراض مزمنة يفضلون الموت في بيوتهم، مثلما فعلت برونوين في فراشها، ومحاطة بمحبة العائلة والأصدقاء. بيد أن الحقيقة ترينا بأن الغالبية يقضون أيامهم الأخيرة في المستشفيات ومربوطين بأنواع الأنابيب والأجهزة، ويتم الأهتمام بهم من قبل موظفين غرباء. والنتيجة هي بدلاً من إستخدام الأيام الأخيرة لمراجعة حياتهم ومقاسمة الذكريات وتوديع الأصدقاء والاحتفال بالماضي (أو التصالح معه) فإنهم يقضونها في بيئة العيادات لتجنب ما هو محتوم.
ان أسباب ذلك عديدة. فبمجرد تقدم علوم الطب المشهود له خلال العقود الأخيرة القليلة كان كفيلاً بزيادة الآمال للشفاء من الأمراض لدى الجميع. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن رغبة أخصائيّ الأورام وغيرهم من الأخصائيين، فغالباً ما تكون رغبتهم بإظهار عدم التقهقر شديدة إلى حد المبالغة. مثلما كتب عنها أحد أساتذة الطب من جامعاتIvy League الأمريكية الشهيرة في مقالة له في مجلة تايم Time ووصفها كما يلي بأنها تشبه: "ذهنية الطيار المحارب في النجاح والبقاء على قيد الحياة أمام الخطر المميت." إن هذا محفور في أحشاء عدد كبير من الأطباء ممن نسوا بشريتهم. وأردف قائلا: "إنهم يعبدون عند هيكل العلم البحت، ويكسون أنفسهم برداء اللاشخصانية...كل هذا تحت راية الإنتصار على الموت." فلا عجب من أن الكثيرين من الناس يلاقون صعوبة في أن يتقبلوا قرار شخص مصاب بمرض مميت ممن يصرّ على كفِّ استئناف العلاج فقد تم تلقينهم بعدم التنازل أمام الهزائم.
لكن هذا مجرد نصف واحد من القصة. فالنصف الثاني هو أن قسم منا بتوقعاتنا غير المعقولة مثل إجراء ولو مجرد عملية جراحية واحدة، أو محاولة مسودة تجريبية طبية إضافية، فنحن نمنع من هو على فراش الموت من التعبير عما يخالج فكره: "أخرجوني من هذه المستشفى. أريد أن أموت في بيتي."
وأحياناً يلعب الخوف أيضا دوراً في كلا الجانبين. فالمستشفيات من جهتها، وتحاشياً لدعاوى التقصير في العمل، تفضل بأن يموت المريض لديها وفي وسط محاولات الخطوة الأخيرة بدلاً من تركه الذهاب بيتاً وطرد الأقارب المتكدرين ممن يطالبون الأطباء بعمل المزيد. والأسرة من جهتها تبقى راغبة في تأخير إرجاع أحد أعزائها الى البيت ليموت هناك رغم انها فعلت كل ما في وسعها، لخوفها من ان تبدو غير راضية للسير ميل إضافي (أي لعمل كل ما في وسعها).
أن كل من اشترك في رعاية المرضى من هم على حافة الموت يشهد بأنه لا توجد مجموعة من الإرشادات المحددة التي يصح تطبيقها للتعامل مع كل المرضى. فكل إنسان له طريقه أو طريقها في الإقتراب من الموت حتى لو تطابقت تقاريرهم الطبية، وكل مرض مميت يطرح تساؤلات مختلفةعن الآخر. على انه من الضروري إعلان هذه التساؤلات بكل أمانة وصراحة. وبالمناسبة، أتساءل أحيانا: إلى متى يبقى الجسد حياً حين يصبح الأمر واضحاً أن الروح تتوق إلى التحرر؟ فعندما تعني عملية تطويل الحياة لبضعة اسابيع أو أشهر في المستشفى وفي ضآلة الاحتكاك ما بين المشرف على الموت وأعزاءه وأيضا تفاهة التحسن فعلينا الاستعداد لنسأل أنفسنا: أنحفظ حياة هذا الشخص من أجله هو؟ أم من أجل الآخرين ممن لا يريدونه الرحيل؟ أنحاول دعم مستوى أخلاقي معين، أم ترانا مدفوعين إلى شيء من قبل شخص اهتمامه الوحيد هو البحث العلمي؟
إن التحرك الى ما وراء نطاق الطب لا يعني التقليل من شأنه، أو إجتناب الإسعاف الحقيقي الذي يزوده في مكافحة الإلتهابات أو تسكين الأوجاع. لكنه يعني صرف تركيزنا عن الحقن والحبوب وفحوصات الدم، وتدريبه على الاهتمام بالبعد الاجتماعي والروحي لموضوع الإشراف على الموت - لأنها في نهاية المطاف أبعاد بالغة أهمية وأكثر من غيرها.