هذه الرواية المقتطفة من الإخوة كارامازوف هي حلم هذياني أو كابوس انتاب إيفان كارامازوف. وربما تكون هذه الرواية فريدة من نوعها في الأدب العالمي، لكونها تُعتبر محاولة لتصوير الكيفية التي تُعبِّر بها الأنا بكامل الإفصاح وعلى حقيقتها، لدى الملحد الرصين الذي يعرف الكثير عن الله وأكثر من معظم المؤمنين. ويرينا هذا الحلم البعد الروحي للرواية ككل. ثم إنَّ إيفان مريض جسديا أيضا. ومرضه (حُمَّى الدماغ) ناتج عن الظروف الخارجية، أمَّا الهلوسات المصاحبة للمرض فتنبع من المحتوى الموجود في عقله الباطني لأفضل المبادئ والمشاعر عنده.
وقد أصيب إيفان بصدمة نفسية بعد بداية مرضه مباشرة. إذ جاء إليه سميردياكوف، الخادم والابن غير الشرعي لوالد إيفان المقتول، واعترف له بأنه هو الذي قتل والد أسرة كارامازوف: فيودور بافلوفيتش كارامازوف، وليس أخ إيفان غير الشقيق ديميتري الذي كان في السجن بسبب تلك الجريمة. ولكي يبرهن سميردياكوف صحة اعترافه بهذه الجريمة، فقد سلَّم إلى إيفان ثلاثة آلاف روبل [عُملة نقدية روسيَّة] التي من أجلها ارتكب جريمة القتل. ومضى سميردياكوف في حديثه ليخبره أن إيفان نفسه هو الذي حرَّضه في الحقيقة بشكل رئيسي على ارتكاب هذه الجريمة. فقد ارتكبها ليس بسبب تأثير كلام إيفان الملحد عليه، وبسبب إنكار إيفان المستمر لوجود الله فحسب؛ وإنما، وبدرجة أكبر، بسبب أن سميردياكوف صار هو شخصيًّا مقتنعا تماما بعد تبادله الحديث مع إيفان قبل تنفيذ جريمة القتل، بأنه إذا ارتكبها، فإنه يتصرَّف تماما وفقا لرغبات إيفان. ولا يوجد أيُّ مجال لإيفان أن يشكَّ في صدق هذه الاعترافات. وبناء على ذلك، يرى إيفان نفسه فجأة كقاتل والده. ولكي يهرب من اليأس، فإنه يرى الآن مدى حاجته إلى الله، الذي لم يكن راغبا في الاعتراف به من قبل. ويروي أحداث الرواية رجل من البلدة لديه قدر محدود من المعلومات.
أحسِبُ أنه قد آن لي بحكم الضرورة أن أُقدِّم للقارئ بعض الإيضاحات عن طبيعة مرض إيفان، رغم أنني لست طبيبا. ولا أريد استباق الأحداث، ولكني سأقتصر على أن أقول هنا: إنَّ إيفان كان في تلك اللحظة مشرف على نوبة حُمَّى دماغية. ومع أن صحته كانت قد تأثَّرت بالمرض لمدة طويلة، إلاَّ أن جسمه كان يقاوم تلك الحُمَّى بعناد، وتمكن في النهاية من السيطرة على المرض سيطرة تامة. ورغم جهلي بالطب، فسأجازف فأفترض أنه ربما نجح بالفعل في إرجاء مجيء نوبات الحُمَّى لفترة من الوقت، بل إنه كان على أمل أن يوقف المرض كليًّا طبعا. وكان إيفان يعرف أنه مريض، ولكنه كره أن يكون مريضا في ذلك الوقت المصيري، عند اقتراب الأزمة من حياته [من جراء اعترافات سميردياكوف عن دوره في مقتل والده]، في الوقت الذي كان في أمس الحاجة إلى التحلِّي بالهدوء والعقلانية، واستجماع جميع قواه، لكي يقول ما يريد قوله بجرأة وبقناعة وحزم، ولكي يقوم «بتبرير نفسه أمام نفسه.»
ومع ذلك، فقد استشار إيفان الطبيب الجديد، الذي تم إحضاره من موسكو بفضل فكرة رائعة من كاترينا إيفانوفنا التي أشرتُ إليها سلفًا. وبعد أن أَصغَ الطبيب إلى كلام إيفان، وبعد أن فحصه، انتهى إلى أنه في الحقيقة مصاب باضطراب دماغي، ولم يستغرب الطبيب من الاعتراف الذي اعترف به له إيفان على مضض عن نوبات الهلوسة والهذيان التي تنتابه. وقال له الطبيب: «من الممكن جدا في حالتك أن توافيك نوبات من الهلوسة والهذيان، رغم أنه سيكون من الأفضل التحقُّق منها ... فيجب عليك أن تشرع في معالجة نفسك دون إبطاء، خشية حدوث أسوأ العواقب.» غير أن إيفان لم يتبع هذه النصيحة الحكيمة حين خرج من عيادة الطبيب، ولم يلزم الفراش لتجري رعايته، وقرر رفض الموضوع قائلا في نفسه: «ها أنا لا أزال قادرا على المشي، فلديَّ ما يكفي من قوة لتمكِّنني من أن أسعى مهتما بشؤوني؛ وإذا سقطتُ، فسيكون الأمر مختلفا — عندئذ فليرعَني من يشاء.»
وبعد ذلك، كان إيفان جالسا في غرفة الجلوس، ومدركا جدا أن نوبة من الهلوسة والهذيان قد انتابته، كما قلتُ سلفًا، وكان يحدِّق تحديقا قويا إلى شيء ما على الكنبة المجاورة للحائط المقابل له. فقد بدا له أن هناك شخصا يجلس عليها، ولكن لا يعلم سوى الله كيف دخل هذا الشخص إلى الغرفة، لأنه لم يكن في الغرفة عندما دخل إيفان إليها عند عودته من سميردياكوف. فهذا الشخص، أو بالأحرى، هذا الرجل الفاضل الذي يتميِّز بشخصية روسية معينة، مُتقدِّم في السِّنِّ قليلا، وقد «نجح في الوصول إلى سِنِّ الخمسين،» كما يقول الفرنسيون، وله شعر طويل إلى حدٍّ ما — لا يزال كثيفا — قاتم، أشيب في بعض المواضع، ولحية صغيرة مدببة. وكان يرتدي سترة قديمة ضيقة بصفين من الأزرار بُنيَّة اللون، ومُفصَّلة من قِبل خيَّاط ماهر حتما، وكانت موضتها لا يتبعها الأذكياء والميسوري الحال من رجال المجتمع الثري على مدى العامين الماضيين. وكان قميصه وربطة عنقه الطويلة الشبيهة بالوشاح هما ما يرتديهما في العادة ناس يهدفون إلى أن يكونوا أنيقين، ولكن بإمعان النظر نرى أن قميصه لم يكن نظيفا للغاية وربطة العنق مهترئة. أمَّا سروال الزائر بنقشة المربعات فكان مُفَصَّلا تفصيلا ممتازا، ولكنه كان فاتح اللون جدا وضيِّقا جدا ولا يتماشى مع الموضة الحالية. وكانت قبعته البيضاء الناعمة والمنفوشة غير منسجمة مع الموسم.
باختصار، كان للرجل كل المظاهر التي تبيِّن أنه سيد محترم، ولكنه لا يملك إلاَّ موارد مالية محدودة. فلا شك أنه كان ينتمي إلى فئة مُلاَّكي الأراضي القدماء الذين كانت أوضاعهم مزدهرة في عهد العبودية والأقنان. وقد كان يعيش بلا شك، في يوم من الأيام، في مجتمع جيد وراقٍ، حيث كان يتمتع في السابق بعلاقات وصِلات جيدة، وقد حافظ عليها على الأرجح. ولكنه بعد حياة المتاع في شبابه، وبعد أن أصبح فقيرا تدريجيا بعد إلغاء نظام العبودية في الآونة الأخيرة، أصبح طفيليا وعالة على غيره، ينتقل بين أصدقائه القدامى من الطبقة الراقية، ويتجوَّل من صديق إلى آخر من أصدقائه القدامى الطيِّبين، أمَّا أصدقاؤه فيُرَحِّبون به لأنه لطيف المعشر ويتحلَّى بطبع مُجامل. والأهم من كل شيء، لأنه رجل متواضع، فإنه يمكن أن يُطلب منه الجلوس مع أيِّ شخص على الموائد في مآدبهم، ولكن ليس طبعا في مكان الشرف. وإنَّ مثل هؤلاء السادة المحترمين من ذوي المزاج الدمث، والفقراء الطفيليين الذين يعتمدون على الآخرين ماديًّا، ويمكنهم رواية الحكايات، ويجيدون المشاركة في لعب الورق، الذين لديهم نفور واضح من أيِّ واجبات قد تُفرض عليهم، هم عادة كائنات انفرادية، إما أرامل وإما عزاب. وقد يكون لهم أولاد، وفي هذه الحالة، فإنَّ أولادهم ينشؤون دائما في مكان بعيد عنهم، لدى عمَّة أو خالة يتحاشون ذكرها في المجتمعات الجيدة، كأنهم يخجلون من أن تكون لهم قرابة كهذه القرابة مع أولادهم. وبمرور الزمن، ينسى هؤلاء السادة أولادهم كليًّا، ويتلقَّون منهم في أحيان متباعدة تهنئات بأعياد ميلادهم أو بعيد الميلاد المجيد، وقد يردُّون على هذه التهنئات أو ربما لا يردُّون.
لم يُعطِ مظهر الزائر غير المتوقع انطباعا بحُسن الخُلُق بقدر ما كان لطيفا ومستعدا للتعبير عن أيِّ ملامح قد تتطلبها المناسبة أو الموقف. ولم يكن لديه ساعة، ولكنه كانت لديه نظَّارة لها حَمَّالة مربوطة بشريط أسود. وكانت إصبعه الوسطى تزدان بخاتم كبير جدا من ذهب، له فص من حجر كريم تتغير ألوانه، ولكن الفص بخس الثمن.
تأمَّل إيفان زائره الدخيل بعين مرتابة محاذرة، ورفض أن يبدأ الحديث. وكان يبدو على ضيفه أنه ينتظر، ويلتزم وضع الاحترام الذي يلتزمه أحد الأقرباء الذين يخجلون من تكلفة رب الدار، وقد نزل من غرفته في الطابق العلوي ليشرب الشاي مع مضيفه ويقضي الوقت بصحبته، حتى إذا رأى الزائر رب الدار غارقا في تأملاته ومُتعكِّر المزاج، أمسك عن الكلام ما لم يبادره رب الدار بالحديث. ولكنه كان مستعدا لأيِّ محادثة لطيفة بمجرد أن يبدأ مضيفه بها. وفجأة أصبح وجه الزائر يعبِّر عن همٍّ.
وقال الزائر يخاطب إيفان: «عفوا، اسمح لي، فلا أريد سوى تذكيرك بأمر ما. فأنتَ زرتَ سميردياكوف بنيَّة أن تعرف تفاصيل زيارة كاترينا إيفانوفنا له، ولكنك خرجت دون أن تعرف أيَّ شيء عنها؛ فربما أنت نسيتَ ...»
فقاطعه إيفان وملامح الحزن والقلق بادية على وجهه: «آه، نعم،» ثم تمتم يقول وكأنه يُحدِّث نفسه: «نعم، لقد نسيتُ ... لا بأس الآن، لنترك الأمر ليوم غد.» وأضاف، مخاطبا زائره: «ولكن لحظة من فضلك ... كان يجب عليَّ أن أتذكر ذلك بنفسي في خلال دقيقة، لأن ذلك الأمر كان يعذبني! ولكن، لماذا تتدخل أنتَ؟ أتريد القول إنني يجب أن أؤمن بأنك أنتَ الذي ذَكَّرتني بهذا الموضوع وليس أنا من تلقاء ذاتي؟»
قال السيد المهذب وهو يبتسم ابتسامة ودودة: «لا تؤمن بذلك إذن. فما نفع الإيمان لو لم تكن راغبا فيه؟ ثم إنَّ البراهين لا يمكن أبدًا أن تصلح لتكون أساسا يقوم عليه الإيمان، ولاسيَّما البراهين الماديَّة. فقد آمن توما بالمسيح، ليس لأنه رأى المسيح قائما من بين الأموات، بل لأنه كان ظامئا إلى الإيمان قبل أن يرى. وانظر مثلا إلى المؤمنين بالعِلم الروحاني والسحر ... فأنا من جهتي مُعجَب بهم كثيرا ... فإنهم يتصوَّرون أنهم يخدمون قضية الدين لأن الشياطين تجعل أنفسها معروفة لهم من العالم الآخر. ويقولون إنَّ هذا دليلٌ ماديٌّ على وجود عالم آخر، إذا جاز التعبير. فانظر إلى هذا التفكير: يؤمنون بالعالم الآخر ويريدون براهين ماديَّة — ماذا بعد! وإذا توصل المرء إلى ذلك، فهل أن إثبات وجود شيطان يثبت أن هناك إلاهًا؟ فأنا أريد الانضمام إلى مجتمع مثالي، وسأقود المعارضة فيه، وسأقول أنا واقعيٌّ، لا ماديٌّ، ها—ها—ها!»
فقال إيفان وهو ينهض فجأة عن المائدة: «اسمع. يبدو لي أني الآن في حالة هذيان. فأنا في الحقيقة مُصاب بالهذيان؛ فقُلْ أيَّ هراء تشاء. سيَّان عندي! ولن تفلح في إثارة غضبي وغيظي كما فعلتَ في المرة الماضية. ولكنني أشعر بخجل وعار ... وأريد أن أمشي في الغرفة ... وأحيانا تغيب فيها عني، فلا أراك ولا أسمع صوتك، كما في المرة الماضية، ولكنني أحزر دائما ما تثرثر، لأنني أنا، أنا نفسي، الذي أنطق بهذه الأقوال، لا أنت. وإني أتساءل من جهة أخرى: أكنتُ أحلم في المرة الماضية، أم رأيتُكَ حقا أثناء اليقظة؟ وسأبلل المنشفة وأضعها على رأسي فلَعَلَّك تختفي في الهواء.»
اتجه إيفان نحو زاوية الغرفة، وتناول منشفة وبللها بالماء ووضعها على رأسه، كما قال، وأخذ يمشي في الغرفة طولا وعرضا.
فشرع الزائر يقول: «يُسِرُّني حقا أنك تعاملني بدون كلفة ورسميات.»
فأجابه إيفان ضاحكا: «ألا أنك لغبي! أتراك تتخيَّل أنني سأكون رسميًّا في مخاطبتك؟ فأنا مُنشرح النفس الآن ومعنوياتي مرتفعة، غير أنني أشعر بأوجاع في جبيني — وفي الجزء العلوي من رأسي — فأرجوك أن لا تتحدَّث بالفلسفة، كما فعلتَ في آخر مرة. وإذا كنتَ لا تستطيع المغادرة، فتحدَّث عن أمور مُسلية. فتحدَّث عن الشائعات؛ فذلك يناسبك ويليق بك ما دمتَ رجلا متقاعسا طفيليا تعيش عالة على الآخرين. ويا لك من كابوس فظيع! ولكنني لا أخاف منك. فسأنتصر عليك. ولن يأخذوني إلى مستشفى المجانين!»
«أنا طفيلي، يا له من كلام ساحر. نعم، أنا في هيئتي الطبيعية. فما عساي أن أكون على الأرض سوى رجل فقير؟ وبالمناسبة، عند استماعي إليك، أنا مندهش جدا عندما أراك أنك بدأت حقا تعتبرني شيئا حقيقيا، وليس مجرد شيء من نسيج خيالك، كما كنتَ أنتَ تُصِرُّ على ذلك عندما أفصحتَ في المرة الماضية ...»
فصاح إيفان حانقا: «لم أعتبرك شيئا حقيقيا للحظة. فأنت أكذوبة، أنت هو المرض الذي أعاني منه، وما أنت إلاَّ شبح. ولكن المشكلة هي أنني لا أدري كيف أقضي عليك، وأرى أن عليَّ أن أعاني وأتحمَّل حضورك زمنا. فأنت هلوسة في دماغي. وأنت تجسيد لذاتي، ولكنك تُجسِّد جانبا واحدا مني — أفكاري ومشاعري، ولكن أسوأها وأغباها فقط. فلذلك، وانطلاقا من وجهة نظري هذه، قد يهمني أمرك، لو كان لديَّ وقت لأضيِّعه عليك ...»
«لحظة، لحظة، سأثبت لك ذلك. ففي هذا المساء، قرب عمود مصباح الشارع، أنتَ ثُرْتَ على أخيك آليوشا صارخا عليه قائلا: ‹لقد تعلَّمتَ هذا منه! فكيف تعرف أنه يزورني؟› لقد كنتَ تقصدني أنا إذن. فمعنى هذا أنك كنت خلال لحظة قصيرة تؤمن حقا بوجودي.» قال السيد ذلك وهو يضحك ساخرا.
«نعم، كانت تلك لحظة من الضعف ... ولكني لا أؤمن بك. ولا أدري فيما إذا كنتُ نائما أم مستيقظا في المرة الأخيرة. فربما كنتُ أحلم فقط ولم أكن أراكَ في الحقيقة على الإطلاق ...»
«هَلاَّ قلتَ لي لماذا كنتَ قاسيا تلك القسوة كلها مع آليوشا منذ قليل؟ فهو فتى عزيز؛ وإني لأشعر بأنني آثم في حقه بسبب حكاية الأب زوسيما تلك.»
فضحك إيفان ثانية قائلا: «لا تتحدث عن آليوشا! كيف تجرؤ أن تفعل ذلك أيها المُداهِن!»
«تشتمني وتضحك في آن واحد — فهذه علامة حسنة. ثم إني ألاحظ أنك اليوم أرقى في معاملتك كثيرا مما كنتَ في المرة السابقة، وإنني أعرف السبب: إنه القرار العظيم النبيل الذي اتخذته ...»
فصرخ إيفان بوحشية: «حَذارِ أن تقول كلمة واحدة عن قراري.»
«أفهم، أفهم كل الفهم. فهذا عمل نبيل ورائع. وإنك تنوي أن تدافع عن أخيك، وأن تضحِّي بنفسك في سبيله ... هذه شهامة!»
«اُسكت، وإلاَّ هويت عليك ركلاً!»
«لن أكون آسفا أبدًا. فهذا يناسبني من جهة، وبه يتحقق هدفي. فلو تَركُلني، فلابد أنك تؤمن بحقيقة واقعي، لأن الناس لا يركلون الأشباح. ولكن دعنا من هذه السخرية، اشتمني إذا كان يحلو لك ذلك، فالأمر سيَّان عندي، غير أنه من الأفضل للمرء أن يكون على شيء من الأدب والكياسة والتهذيب حتى في معاملتي أنا. لقد وصفتني بأنني ‹غبي ودنيء!› فما هذه التعابير! عيب أن تصدر عنك هذه الألفاظ!»
عاد إيفان يقول ضاحكا: «حين أضربك فإنما أضرب نفسي. فما أنت إلاَّ أنا ... أنت نفسي وروحي، ولكن في وجه غير وجهي. فأنت لا تقول سوى ما أفكر فيه ... ولا تستطيع أن تقول أيَّ شيء جديد!»
ردَّ عليه السيد بهدوء واحترام: «إذا كانت الأفكار التي أُعبِّر عنها هي أفكارك أنت أيضا، فالفضل كله يرجع إليَّ.»
«ولكنك لا تختار من أفكاري إلاَّ أسوأها، وأغباها على وجه الخصوص. فأنت غبي ومبتذل. أنت غبي بفظاعة، لا، لا أطيق أن أتحمَّل حضورك! ما العمل؟ ما العمل؟» قال إيفان هذا وهو مستشيط غضبا.
بدأ كلام الزائر يتزايد تفاخرا ولكن بأسلوب لطيف كرجل طفيلي وعالة على غيره، فقال: «يا صديقي العزيز، أريد قبل كل شيء أن أحرص على أن أتصرَّف كرجل نبيل ومهذَّب وأن أكون معروفا بهذه الخصال. فصحيح أنني فقير، ولكن ... لن أقول إني صادق للغاية، غير أنه من المُسَلَّم به عموما في المجتمع أنني ملاك ساقط. وأنا لا أستطيع بالتأكيد أن أتخيَّل كيف سبق لي أن كنتُ ملاكًا في يوم من الأيام. وإذا كنتُ ملاكًا في الماضي، فلابد أن ذلك يرجع إلى عهد بعيد جدا بحيث أنه لا ضرر في نسيانه. أمَّا الآن فأنا لا أُثَمِّنُ سوى أن يكون لديَّ سمعة حسنة لشخص نبيل وأعيش على قدر استطاعتي، ساعيا إلى جعل نفسي سائغا ومقبولا. فأنا أحب الناس حبا صادقا، وطالما تمَّ الافتراء عليَّ! وعندما أبقى هنا معك من وقت لآخر، تكتسب حياتي نوعا من الواقعية وهذا ما يحلو لي أكثر من أيِّ شيء آخر. واعلمْ أنني أنا أيضا أعاني مثلك من الخيال، ولهذا، فإنني أحب واقعية الأرض. فكل شيء عندك هنا له تحديده، وكل شيء عندك هنا موضوع في صيغ معينة وفي إطار هندسي وعلمي، أمَّا عندنا فليس لدينا سوى معادلات غير محددة! وأنا هنا أجول وأطوف في الأحلام. فأنا أحبُّ الأحلام. ثم إنني أصبحتُ مؤمنا بالخرافات هنا على الأرض. وأرجوك أن لا تضحك، فأنا يعجبني أن أصبح مؤمنا بالخرافات. وأنا أتبنَّى جميع عاداتكم الدنيوية: فقد زاد شغفي بالذهاب إلى الحمَّامات العامة — أتُصدِّق هذا؟ فأنا أذهبُ واستمتع بحمام بخاري مع التجار والقساوسة. وإنَّ حلمي هو أن أتجسَّد (ولكن تجسُّدا نهائيا لا رجعة فيه) في هيئة زوجة تاجر ما — سمينة بدينة تزن 250 رطلا، وأن أؤمن بكل ما هي تؤمن به. وقسما بشرفي، فإنَّ مبدئي الذي أهدف إليه هو دخول كنيسة وأشعل شمعة بإيمان بسيط القلب كتقدمة. عندئذ تنتهي جميع آلامي. وأنا أحب أن أتلقى العلاج أيضا؛ وفي هذا الربيع انتشر وباء الجدري في البلاد، فذهبتُ إلى مستشفى الأطفال اللقطاء، وتمَّ تلقيحي هناك حالي كحالهم — فلا تستطيع أن تتخيَّل مدى سعادتي في ذلك اليوم. كما تبرَّعتُ بعشرة روبلات للمساهمة في قضية مساعدة السلافيين المضطهدين! ... ولكني ألاحظ أنك لا تصغي إلى كلامي. فإنك تبدو لي مريضا جدا هذا المساء، أتعلم بذلك؟ وأنا أعلم بأنك ذهبتَ إلى الطبيب يوم أمس ... حسنا، ولكن ماذا عن صحتك؟ وماذا قال لك الطبيب؟»
فصاح إيفان غير متمالك لنفسه قائلا: «أبله!»
«أمَّا أنت — فذكي على أيِّ حال. أتوبخني ثانية؟ فأنا لم أسألك عن صحتك من باب الشفقة. فلا تجبني إن شئت. آه، لقد عاد إليَّ مرض الروماتيزم ثانية ...»
كرر إيفان قوله: «أبله!»
«أنت لا تزال تقول الشيء نفسه؛ ولكنني تعرضتُ لإصابة مفاجئة من الروماتيزم في العام الماضي لدرجة أنني لا أزال أتذكره لحد هذا اليوم.»
«أي نعم، الشيطان لديه روماتيزم!»
«لِمَ لا، ما دمتُ أتخذُ أحيانا هيئة بشرية؟ فباتخاذي هيئة بشرية أتحمَّل تبعات الموضوع. فأنا شيطان، ولا شيء بشري يبدو غريبا عليَّ.»
«ماذا، ماذا؟ ‹أنا شيطان، ولا شيء بشري› هذا كلام لا بأس به بالنسبة إلى شيطان!»
«يسعدني أن أحظى أخيرا برضاك عني.»
قال إيفان فجأة وقد توقف عن المشي، كأنما دُهِش وذُهِل: «ولكنك لم تستعِر هذه العبارة مني أنا. إذ إنَّ هذه الجملة لم تخطر ببالي مطلقا! أمر غريب.»
«إنه كلام فريد، أليس كذلك؟ على أنني سأكون أمينا شريفا هذه المرة، فأشرح لك هذا اللغز. اسمعني، كثيرا ما يحدث في الأحلام، ولاسيَّما الكوابيس التي تنشأ عن عسر الهضم مثلا، أو عن أيِّ سبب آخر — أن يرى الإنسان أحيانا رؤى فنية رائعة، ومشاهد واقعية ومعقدة جدا، حتى عالما كاملا من الأحداث، منسوجة في حبكة روائية مليئة بتفاصيل غير متوقعة بشكل عجيب، ابتداء من أسمى الأمور الجليلة وانتهاء بأحقر السفاسف التافهة، بحيث أني أقسم أن ليو تولستوي نفسه لم يبتكر مثلها مطلقا في رواياته. ومع ذلك، فإنَّ مثل هذه الأحلام التي تأتي أحيانا، لا يراها الكُتَّاب، وإنما يراها ناس عاديون جدا، وموظفون، وصحفيون، وقساوسة ... إنَّ هذا الموضوع لغز كامل. وفي الواقع، اعترفَ لي أحد رجال الدولة ذات مرة بأن أفضل أفكاره جاءت إليه جميعها عندما كان نائما. وذلك بعينه هو ما يحدث لك الآن — فرغم أنني الهلوسات التي تنتابك، إلاَّ أنني أقول لك، كما في الكوابيس تماما، أشياء فريدة التي لم تدخل إلى فكرك من قبل. لذلك أنا لا أردد أفكارك؛ وإنما أنا مجرد كابوسك، لا أكثر.»
«أنت تكذب! فإنَّ هدفك في الحقيقة هو إقناعي بأن لك وجودا واقعيا بمعزل عني، وبأنك لستَ رؤيا تتراءى في كوابيسي، غير أنك تؤكد الآن على أنك حلم.»
«صديقي العزيز، لقد تبنيتُ طريقة خاصة اليوم، وسأشرح لك ذلك لاحقا. لحظة، إلى أين وصلتُ في الحديث؟ ها، نعم! عندئذ أصابتني نزلة برد، هنالك وليس هنا.»
فصرخ إيفان في حالة من اليأس تقريبا وقال: «هنالك؟ أين؟ قُلْ لي: هل تمكث هنا زمنا طويلا؟ ألا يمكنك أن تغرب عني؟» وكفَّ إيفان عن المشي جيئة وذهابا، وجلس على الكنبة، واتكأ ثانية بكوعيه على المائدة ماسكا رأسه بيديه بقوة. ثم نزع المنشفة المبللة عن رأسه ورماها مُستاءً مُتكدِّرًا. فلم تنفعه المنشفة في شيء.
قال السيد المهذب بلهجة لطيفة مريحة ولكنها مهذبة تماما: «أعصابك مضطربة. فأنت تثور عليَّ لأنني أُصِبتُ بنزلة برد، مع أن هذا قد حدث لي على نحو طبيعي جدا. إذ كنتُ مسرعا آنذاك في الذهاب إلى حفلة دبلوماسية ساهرة أقامتها سيدة رفيعة المستوى في مدينة سانت بطرسبرغ، حيث كانت تهدف تلك السيدة إلى التأثير في الوزارة. وكنتُ مرتديا بطبيعة الحال بدلة مسائية وربطة عنق بيضاء وقفازين، رغم أن الله وحده يعلم أين كنتُ آنذاك، ولكن كان عليَّ أن أطير عبر الفضاء للوصول إلى كوكبكم الأرضي ... وبالطبع، لم يستغرق الأمر سوى لحظة واحدة، ولكنك تعلم أن شعاعا واحدا لنور الشمس يستغرق ثماني دقائق كاملة ليصل إلى الأرض، فتخيَّلْ! لقد كنتُ مرتديا بدلة مسائية وصِدار مفتوح [يلك أو صدرية رجالية]. وإنَّ الأرواح لا تتجمَّد من البرد، ولكن لو كان أحدها بهيئة بشرية، فالعواقب السيئة معروفة ... الخلاصة، لم أفكر في الأمر كثيرا، ومضيتُ في طريقي، وليتك تعلم مدى شدة البرد في تلك الفضاءات، في الأثير، في الماء فوق جلد السماء، إنه برد فظيع ... برد لا يمكنك مجرد تسميته صقيع، وتصوَّر أن درجة البرودة كانت مئة وخمسين تحت الصفر! وأنت تعرف اللعبة التي تلعبها الفتيات في قراكم — فحين يشير التِرمومِتر إلى الثلاثين تحت الصفر، يطلبن من فتى ساذج غير ذي خبرة أن يلحس بلسانه حديد فأس؛ فإذا بلسانه يتجمَّد فورا، وإذا بالغبي يسحب لسانه بسرعة من الحديد، فينسلخ جلد لسانه وينزف. وهذا إذا كانت درجة البرودة ثلاثين فحسب. أمَّا إذا بلغت مئة وخمسين فأحسب أنه يكفي أن تضع أصبعك على الفأس ليُبْتَر وتكون نهايتهُ ... شريطة أن يكون في الأثير فأسٌ طبعا.»
فقاطعه إيفان قائلا له باستخفاف وازدراء: «وهل يمكن أن يكون في الفضاء فأس؟» فكان إيفان يبذل قصارى جهده لكيلا يصدق الأوهام ولا يغرق في جنون تام.
فقاطعه الزائر مدهوشا: «فأس؟»
فصاح إيفان فجأة بلهجة فيها نوع من الفظاظة والعناد الغاضب: «نعم نعم، ما عسى أن يحصل للفأس هناك؟»
«ما عسى أن يحصل للفأس في الفضاء؟ يا لها من فكرة عجيبة! فلو رميت الفأس إلى مسافة بعيدة جدا عن الأرض، فأظن أنها ستأخذ بالدوران حول الأرض دون معرفة السبب، كالقمر الصناعي. وسيحسب علماء الفلك ساعة طلوعها وساعة مغيبها حسابا دقيقا؛ وسيُدوِّن جاتسوك ذلك في تقويمه، وهذا كل شيء.»
فقال إيفان مغتاظا: «أنت غبي، غبي إلى درجة فظيعة. فحاول أن تكذب بصورة ذكية على الأقل، وإلاَّ لما استمعتُ إليك. فإنك تحاول أن تسيطر عليَّ عن طريق الواقعية في كلامك، لكي تقنعني بأنك موجود، ولكنني لا أريد أن أصدق أنك موجود! فلن أصدق ذلك!»
«ولكنني لا أكذب، فكل ذلك هو الحقيقة؛ والحقيقة عادة ما تكون غير مُفرِحة وغير ممتعة. وأراك تستمر في توقُّع أفكار خارقة مني، وربما رائعة. وهذا أمر مؤسف للغاية لأني لا أعطي سوى ما أقدر عليه ...»
«دعك من التفلسُف، أيها الحمار!»
«أفتظنُّ إذن أنني أشتهي أن أتفلسف والجانب الأيمن كله من جسمي يكاد يكون مشلولا، وأنا أَئِنُّ وأتوجع؟ لقد استشرتُ جميع أنواع الأطباء؛ فإنهم يملكون قدرة هائلة على تشخيص المرض، ويشرحونه بأدق التفاصيل، ولكن ليس لديهم أيُّ فكرة عن كيفية العلاج. لقد كان هناك طالب متحمس من طلاب الطب، وقال لي: ‹قد تموت، ولكنك ستعرف على الأقل نوع المرض الذي تموت به على وجه التحديد!› وانظر بعد ذلك إلى طريقتهم تلك في إرسالك إلى أخصائيين حين يقولون لك: ‹مهمتنا نحن تقتصر على تشخيص المرض. بقي عليك الآن أن تذهب إلى الأخصائي فلان أو فلان، فهو الذي سيشفيك.› واحسرتاه! فإنَّ الطبيب الجيد القديم الذي عرفناه في الزمان الماضي، الذي كان يشفي من جميع العلل والأمراض، قد اختفى تماما، وأؤكد لك ذلك؛ فلم يبقَ اليوم إلاَّ الإخصائيون، والصحف مليئة بالإعلانات عنهم. وإذا شعرتَ بآلام في الأنف، أرسلوك إلى باريس — حيث يوجد كما يقولون أخصائي أوروبي في معالجة أمراض الأنف. وإذا ذهبت إلى باريس فسيفحص الأخصائي أنفك، ويقول لك: ‹لا يمكنني سوى معالجة الجانب الأيمن منه؛ لأنني لا أعالج الجانب الأيسر من الأنف، فهو ليس من اختصاصي، ولكن اذهب إلى فيينا حيث يوجد أخصائي يعالج الجانب الأيسر من أنفك.› فما العمل في هذه الحالة؟ لجأتُ عندئذ إلى استعمال الوصفات الطبية الشعبية؛ فقد وصف لي طبيب ألماني أن أَدْلُكَ جسمي بمزيج من عسل وملح في الحمامات العامة الساخنة. فذهبت إلى الحمامات العامة لا لشيء إلاَّ للحصول على حمام إضافي، وهنالك دهنتُ جسمي كله بذلك المزيج اللزج، ولكنه لم يُجدني نفعا على الإطلاق. فلَمَّا يئستُ، كتبتُ رسالة إلى الكونت ماتيل، وهو أحد النبلاء في مدينة ميلانو. فما ألطفه، فقد أرسل إليَّ كتابا وبعض القطرات، إضافة إلى أني وجدتُ مستحلبا فاخرا للشعير الذي ينتجه المزارعون، فهو الذي شفاني وليس غيره! فقد اشتريته بالصدفة، فما شربتُ زجاجة ونصف زجاجة منه حتى شعرتُ بالشفاء، وكنتُ مستعدا لأن أرقص في الحال؛ فقد أزال أوجاعي كليًّا. فصممتُ أن أنشر في الصحف رسالة شكر أطري فيها مزايا هذا المنتوج؛ وكان يدفعني إلى ذلك شعور بالامتنان، ولكنه أصبح مصدر إزعاج لا حدَّ له: فتخيَّلْ أنني لم أجد صحيفة واحدة ترضى بنشر رسالتي. فقالوا لي: ‹إنَّ نشرنا لرسالتك سيكون أمرا رجعيا جدا، ولن يصدِّقها أحدٌ. فالشيطان ببساطة لا وجود له. فمن الأفضل أن تظل مجهول الهوية وتنشر شكرك في رسالة مجهولة الكاتب ودون ذكر اسمك.› ولكن ما فائدة شكر لا يحمل اسم صاحبه؟ فضحكتُ مع موظفي مكاتب تلك الصحف؛ وقلتُ لهم: ‹إنَّ الإيمان بالله أمر رجعي في أيامنا هذه. ولكنني أنا هو الشيطان، وربما يؤمن بي الناس.› فأجابوني بقولهم: ‹إننا نفهمك حقَّ الفهم. فمن ذا الذي لا يؤمن بالشيطان؟ ومع ذلك، فإنَّ نشر مثل هذه المقالات أمر غير مقبول عندنا، فقد يضرُّ بسمعتنا، اللهم إلاَّ أن تريد أن تسبغ على رسالتك طابع الهزل!› ولكنني رأيتُ أن الرسالة بطابع الهزل لن تكون ظريفة جدا. ولذلك لم تُنشَر رسالة الشكر في الصحف. وهل تعلم أني لا أزال أشعر باستياء لحد هذا اليوم من جراء ذلك. إذ إنَّ أفضل المشاعر لديَّ، كمشاعر الشكر والامتنان، قد حرمتني كليًّا من التمتُّع على الأقل بمركزي الاجتماعي.»
فزمجر إيفان بشراسة: «ها أنت ذا تسترسل في التفلسُف من جديد!»
«فليحفظني الله من التفلسُف، ولكن المرء لا يستطيع أن لا يتشكَّى في بعض الأحيان. فأنا رجل مُفترى عليه. لقد اتهمتني أنت نفسك في كل لحظة بأنني غبي. وهذا موقف يقفه شاب. واعلم يا صديقي أن الذكاء ليس الشيء الوحيد! فأنا لديَّ قلب طيِّب ومرح بطبيعته. وأنا أكتب أيضا شتى أنواع المسرحيات الهزلية. ويبدو أنك تحسبني كشخصية هلستاكوف الكبير السِّنِّ، مع أن لمصيري شأنا أخطر من ذلك بكثير. وقبل بدء الزمان، وبقرار لا أزال أجهله، قُدِّرَ لي أن ‹أُجْحَدَ› مع أنني في حقيقة الأمر طيِّب القلب بصدق ولا أميل مطلقا إلى التَّمرُّد واتخاذ مواقف سلبية. ولكن لا، فمن الواجب الشروع بهذا التَّمرُّد؛ فبدونه لا يكون هناك نقد، وما عسى أن تكون الصحيفة بدون عمود من النقد؟ فمن دون النقد لن يكون هناك سوى ‹هوشعنا.› ولكن هوشعنا لوحدها لا تكفي للحياة؛ فيجب تفحُّص هتاف هوشعنا بالطريقة نفسها ببوتقة الشَّكِّ وما شابه ذلك. على أنني لا أريد التدخُّل في هذا النظام، فلستُ أنا من خلقه، ولست مسؤولا عنه البتة. ولكن الذي حصل هو أنهم اختاروني لأصير كبش فداء لهم، وجعلوني أكتب عمود النقد، وبذلك أصبحت الحياة ممكنة. وإننا نحن أيضا نشعر شعورا كاملا بدناءة هذه المهزلة التي أُريدَ لنا أن نُمَثِّلها؛ وإني من جهتي أطالب بأن أستطيع الارتداد إلى العدم وأغيب عن الوجود. غير أن الجواب الذي حصلتُ عليه لطلبي هذا كان: ‹لا، بل يجب عليك أن تعيش، فبدونك لن يجري أمر. إذ لو كان كل ما على الأرض معقولا، لما حدث في الأرض شيء البتة. فبدونك لن يكون ثمة أحداث، وهل عن الأحداث غِنى؟› لذلك، أنا أخدم لخلق أحداث وعمل ما هو غير عقلاني لأنني أُمِرتُ بذلك رغم أنه مناقض لطبيعتي. أمَّا البشر المساكين فيأخذون هذه المهزلة مأخذ الجدِّ، رغم ما وُهِب لهم من ذكاء عظيم. وذلك هو الذي يجعل مصيرهم فاجعا، وحياتهم أليمة. وبطبيعة الحال، فإنهم يتعذبون ... ولكنهم في مقابل ذلك يعيشون حياة واقعية، لا وهمية، لأن العذاب هو الحياة. وما عسى أن تصير إليه البهجة بالحياة بدون عذاب؟ إنَّ الحياة بدون عذاب ستتحوَّل إلى قُدَّاس طويل لا نهاية له؛ وتمسي الحياة مقدسة، ولكنها ستصبح مُمِلَّة. ولكن ماذا عني أنا؟ فأنا أتألم، ومع ذلك لا أحيا. فأنا حرف س في معادلة رياضية غير محددة. وأنا نوع من أنواع الأشباح في الحياة الذي ضَيَّعَ فكرة الزمان، حتى أنه نسيَ اسمه. وأنتَ تضحك — لا، أنت لا تضحك، وإنما أنت غاضب مرة أخرى. فأنت غاضب إلى الأبد، وكل ما يهمك الذكاء، ولكني أكرر مرة أخرى أنني سوف أتخلَّى عن كل هذه الحياة السماوية، وعن جميع امتيازاتي العالية وألقابي الرفيعة، في سبيل أن أتحوَّل إلى روح زوجة تاجر ما — تزن 250 رطلا، وتُقدِّم شموعا في هيكل الله.»
سأله إيفان وهو يبتسم ابتسامة حاقدة: «إذن، حتى أنت لا تؤمن بالله؟»
«بِمَ أجيبك؟ يعني إذا كنتَ مُتحمِّسا في سؤالك ...»
صاح إيفان يسأله بالشراسة نفسها: «أموجود الله أم غير موجود؟»
«ها ... أنت مُتحمِّس إذن! يا صديقي العزيز، قسما بشرفي أنا لا أعرف. وها أنا قلتها لك الآن.»
«كيف لا تعرف مع أنك ترى الله؟ لا، أنت لست شخصا منفصلا وليس لك وجود واقعي، أنت نفسي، أنت أنا لا أكثر! أنت هراء ودخان، أنت ثمرة خيالي أنا!»
«حسنا، يمكنك أن تقول إنَّ فلسفتي مطابقة لفلسفتك، فذلك سيكون أمرا صحيحا. فأنا متأكد من هذه المقولة: ‹أنا أفكر، إذن أنا موجود›؛ أمَّا جميع بقية الأمور، وجميع هذه العوالم، والله، والشيطان أيضا — فلا أملك برهانا على وجودهم جميعهم. أتوجد كل هذه الأمور من تلقاء ذاتها، أم أنها مجرد صادرة عن نفسي، ومجرد تطور منطقي للأنا التي عندي، تلك الأنا الموجودة لوحدها إلى الأبد؟ — ولكن من الأفضل أن أتوقف عن الكلام حالا، لأنني أعتقد أنك ستقفز لتضربني فورا.»
قال إيفان مكتئبا: «خير من هذا الكلام كله أن تروي لي حكاية طريفة ومسلية!»
«أعرف حكاية طريفة لها صلة بموضوع حديثنا، أو هي بالأحرى رواية. فأنتَ تتهمني بالإلحاد. وتقول لي: ‹أترى، أنتَ لا تؤمن.› ولكن يا صديقي العزيز، أنا لستُ الوحيد على هذا الحال. فنحن الذين نعيش في المناطق السماوية، جميعنا الآن في حالة من الفوضى هناك، وكل ذلك بسبب اكتشافاتكم العلمية. فكان في السابق ذرات، والحواس الخمسة، والعناصر الأربعة، وكان كل شيء متوافقا نوعا ما ومقبولا بعض الشيء. ثم إنَّ الأقدمين كانوا يعرفون الذرة. ولكن حين ذاعت بيننا الشائعة التي تقول إنكم قد اكتشفتم الذرَّة الكيمياوية، والبروتوبلازما، والشيطان أعلم ماذا بعد، فكان علينا أن نتحذَّر. لذلك، عمَّ التشويش والفوضى في صفوفنا، ولاسيَّما الخرافات والشعوذة والفضائح؛ فهناك فضائح كثيرة عندنا بقدر ما عندكم، كما تعلم؛ حتى أنها في الحقيقة أكثر ببعض الشيء، فهناك حملات تشهير، لأننا لدينا شُرطَتنا السِريَّة حيث يجري استقبال المخبرين والوشايات. حسنا، إنَّ الرواية الاستثنائية التي سأرويها لك يرجع عهدها إلى قروننا الوسطى — أقول قروننا الوسطى نحن، لا قرونكم الوسطى أنتم — ولا يصدِّقها أحد حتى فيما بيننا، باستثناء الزوجات اللواتي يزنَّ 250 رطلا، ليست زوجاتكم القديمات بل زوجاتنا. وإنَّ كل ما يوجد في الأرض يوجد أيضا في عالمنا؛ وها أنا أكشف لك سِرًّا من أسرارنا بدافع الصداقة الخالصة، رغم أن ذلك ممنوع. فإليك الرواية التي سأرويها عن الفردوس: يقال إنه كان يعيش على أرضكم ذات يوم مُفكِّر وفيلسوف. وقد رفض الاعتراف بكل شيء، ‹القوانين، والضمير، والإيمان،› ولاسيَّما الحياة الآخرة. فمات هذا الرجل؛ وكان يتوقَّع الذهاب مباشرة إلى غياهب العدم والموت، فإذا هو يرى نفسه فجأة أمام أبواب الحياة الآخرة. فكان مذهولا ومستاء. فصاح يقول: ‹هذا مخالف لمبادئي!› فعوقِب على ذلك ... ويجب أن تعذرني، فأنا قصصتُ عليك الأمور على نحو ما قُصَّت عليَّ، وهي مجرد رواية على أيِّ حال ... فحُكِم على الرجل بأن يقطع في الظلمات، سيرا على الأقدام، مسافة كوادرليون كيلومتر (لقد اعتمدنا النظام المتري، كما تعلم) وعندما ينتهي من سيرها ستُفتح له أبواب السماء، ويُغفر له ...»
فسأله إيفان بشغف غريب: «وما أنواع التعذيب التي عندكم في العالم الآخر إلى جانب الكوادرليون من الكيلومترات؟»
«أنواع التعذيب؟ آه، لا تسأل عن ذلك! ففي الماضي كان لدينا شتى أنواع التعذيب، أمَّا الآن فيقتصر بصورة رئيسية على العقاب المعنوي — ‹وخز الضمير› وما شابه ذلك من هراء. ولقد حصلنا على هذا من عندكم، وهو ثمرة من ثمرات ما وصلت إليه عاداتكم وأخلاقكم من لطف ورِقَّة. ولكن مَنْ تراه ينتفع من هذا التغيير وهذا الإصلاح؟ إنَّ الأشخاص العديمي الضمير هم وحدهم المنتفعون منه، فكيف يمكن لضميرهم أن يعذِّبهم وهم ليس لهم ضمير؟ غير أن الناس المحترمين الذين لديهم ضمير وأيضا شيء من الاستقامة والشرف والأمانة هم الذين يتعذبون من جراءه! وذلك ما يحدث حين يُراد إدخال إصلاحات في تربة لم تتهيأ لقبولها، وخاصة إذا كانت مؤسسات تم نسخها وتقليدها من الخارج، فتكون النتائج وخيمة جدا! إلاَّ أن نار جهنم القديمة كانت خيرا من هذا. ولنعد إلى فيلسوفكم الذي حُكِم عليه بأن يقطع مسافة كوادرليون كيلومتر، فإنه ظل واقفا وغير مبالٍ، ونظر حوله، ثم استلقى على الطريق بالعَرض قائلا: ‹أرفض أن أمشي، تمسُّكا بالمبدأ!› فلو تأخذ روح ملحد روسي مثقف، وتمزجها بروح النبي يونان الذي لبث في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال مُتَجَهِّمًا ومُستاءً، فستحصل على شخصية ذلك المُفكِّر المستلقي بالعَرض على الطريق.»
«على أيِّ شيء استلقى هناك؟»
«أعتقد أنه كان هناك شيء يستلقي عليه. أراك لا تضحك الآن؟»
فصاح إيفان وهو لا يزال متحمسا للاستماع بذات التحمُّس الغريب: «أحسنت!» فأخذ إيفان يستمع الآن بفضول غير متوقع قائلا: «طيِّب، أهو مستلقٍ هناك الآن؟»
«لا، فتلك هي النقطة المهمة. فقد لبث مستلقيا قرابة ألف سنة، ثم نهض وأخذ يمشي.»
صاح إيفان ضاحكا بعصبية: «يا له من حمار!» ويبدو أن إيفان لا يزال يفكر في شيء ما باهتمام. فأردف قائلا: «ولكن، أيفرق الأمر سواء استلقى هناك إلى الأبد أم مشى الكوادرليون من الكيلومترات؟ فسوف يحتاج إلى بليون سنة على أيِّ حال لإكمال الكوادرليون من الكيلومترات، أليس كذلك؟»
«بل أكثر من ذلك بكثير! فلو كان معي قلم وورقة لأجريت لك هذا الحساب بسرعة. ولكنه وصل إلى هناك منذ مدة طويلة حيث تبدأ الحكاية الطريفة.»
«ماذا؟ وصل هناك؟ ولكن كيف حصل على بليون سنة ليمشي تلك المسافة؟»
«لماذا هذا السؤال؟ فإنك لا تزال تفكر في أرضنا الحالية! غير أن أرضنا الحالية ربما جرى تكرار وجودها ملايين المرات قبل وجودها الحالي. لماذا؟ فالأرض قد شاخت، وتجمَّدت؛ وتشققت، وتجزَّأت، وتفككت إلى عناصرها الأولية، ومن ثم عادت وتكونت من جديد، ‹المياه السماوية العليا،› ثم ظهر نجم مذنَّب جديد، فشمس جديدة، وتكونت الأرض من جديد من الشمس — وربما تكرر هذا التطور عددا لا نهاية له من المرات بهذه المراحل نفسها، وبهذه التفاصيل ذاتها، وذلك ضجر قاتل بغير حياء ...»
«حسنا حسنا، ماذا حدث حين انتهى ذاك الرجل المُفكِّر من قطع مسافة كوادرليون كيلومتر؟»
«طيِّب، في اللحظة التي فُتِحت له أبواب الجنة ودخلها، فما أن انقضت على دخوله ثانيتان (رغم أن ساعته لابد أن تكون في رأيي قد انحلَّت منذ مدة طويلة إلى عناصرها في جيبه أثناء رحلته) حتى هتف قائلا: ‹تلكما الثانيتين تستحقان المشي ليس لمسافة كوادرليون واحد من الكيلومترات فحسب بل أيضا لمسافة كوادرليون مضروبة في كوادرليون من الكيلومترات ومرفوعة إلى أُسِّ كوادرليون!› وفي الحقيقة، إنه أخذ يرتِّل ‹هوشعنا› وبلغ من الغلو في التسبيح حتى أن بعض الفاضلين الذين كانوا هناك رفضوا مصافحته في البداية — فقد قالوا إنه قد استعجل في تحوُّله إلى تيار المحافظين. فذلك هو مزاج الروس. ولكنني أعود فأكرر لك أن هذه رواية أرويها لك على عِلاَّتِها. تلك هي المفاهيم السائدة عندنا في مثل هذه المواضيع حتى في يومنا هذا.»
فصاح إيفان يقول بفرح يشبه أن يكون فرح طفل، كأنه قد تذكَّر أخيرا شيئا ما: «ضبطتك! إنَّ هذه الحكاية الطريفة التي ترويها عن كوادرليون سنة، إنما اخترعتُها أنا بنفسي! وكنتُ حينئذ في السابعة عشرة من عمري، وكنتُ في المدرسة الثانوية. فاخترعتُ تلك الحكاية وقصصتُها في تلك الآونة على زميل من زملاء المدرسة اسمه كوروفكِن. وكان ذلك في موسكو ... وإنَّ هذه الحكاية تتميز بها أفكاري كثيرا لدرجة أنني لم أستطِع أخذها من أيِّ مكان آخر. وظننت أنني نسيتها ... ولكني تذكرتها لا شعوريًّا — فأنا الذي تذكرتها بنفسي — ولم تُقصِصها أنتَ عليَّ! فهكذا يتذكر الناس الآلاف من الأشياء لا شعوريًّا حتى عندما يؤخَذون إلى الإعدام ... فقد عادت إليَّ الحكاية في المنام. وأنتَ هو هذا الحلم! فأنتَ حلم، وليس مخلوقًا حيًّا!»
قال السيد ضاحكا مشرق المزاج: «أنا مقتنع جدا، من خلال رؤيتي لقوة إنكارك لوجودي، بأنك في الحقيقة تؤمن بي.»
«حاشا لي! فليس لديَّ حبة إيمان بك ولو بمقدار واحد في المئة!»
«ولكنك لديك واحد في الألف. وربما العلاج الطبي المُسمى ‹المِثْلُ يعالج المِثْلَ Homeopathy› الذي يستعمل أدوية بجرعات صغيرة جدا هو ذو المفعول الأقوى. هلا اعترفتَ بأنك تؤمن بي بمقدار واحد في الألف أيضا.»
فصاح إيفان بشراسة: «ولا للحظة من اللحظات!» ثم أضاف بعد ذلك بصوت رقيق غريب: «ولكنني أود لو أؤمن بك.»
«هَهْ! هذا اعتراف! أمَّا أنا فطيِّب القلب. وسآتي لمساعدتك مرة أخرى. واسمع: أنا الذي ضبطتك، وليس أنت الذي ضبطتني. لقد تعمَّدتُ أنا أن أروي لك حكايتك الطريفة التي كنتَ قد نسيتَها، وإنما فعلتُ ذلك بغية أن أقودك إلى أن تشكَّ فيَّ شكًّا نهائيًا.»
«كاذب! أنتَ جئت لزيارتي لتقنعني بأن لك وجودا حقيقيا.»
«صحيح. ولكن اعلم أن مشاعر التردد، والقلق، والصراع بين الإيمان وعدم الإيمان تكون أحيانا مصدر عذاب كبير لشخص حيِّ الضمير مثلك لدرجة أنه يُفَضِّل تعليق نفسه في الحال. ولَمَّا كنتُ أعلم أنك تود الإيمان بي، فقد زرعتُ الشَّكَّ في نفسك برواية تلك الحكاية النادرة لك. فبذلك أقودك من الإيمان إلى الشَّكِّ ومن الشَّكِّ إلى الإيمان مرة بعد مرة على التناوب. وحين أفعل ذلك فإنما أهدف إلى غاية. وأنا أطبِّق هنا الأسلوب الجديد: فما إنْ شككتَ في وجودي كليًّا حتى بدأتَ تؤكِّد لي أنني لستُ حلما بل حقيقة. فأنا أعرفك. فبهذا الأسلوب أكون قد حققتُ هدفي، وهو في الحقيقة هدف نبيل جدا. فسأزرع فيك بذرة إيمان صغيرة، وسوف تنمو لتصير شجرة بلوط كبيرة، بحيث أنك عندما تعيش في حِماها سوف تشتاق إلى أن تدخل صفوف ‹النُسَّاك في البَريَّة والنساء القديسات،› لأن هذا هو ما تشتاق أنت إليه سِرًّا. وسوف تقتات بالجراد، وسوف تتجوَّل في البَريَّة ساعيا إلى خلاص روحك!»
«إذن، أنتَ تعمل من أجل خلاص روحي، أليس كذلك أيها الوغد؟»
«يجب على المرء القيام بعمل صالح في بعض الأحيان. ولكن، ما أشدَّ احتداد طبعك!»
«أحمق! هل سبق لك أن جرَّبتَ أولئك الذين يقتاتون بالجراد ويُصَلُّون لمدة سبعة عشر عاما في البَريَّة حتى تغطيهم الطحالب؟»
«إنَّ هذا هو شُغلي الشاغِل يا صديقي العزيز، فلم أفعل غير هذه الأمور. إذ ينسى المرء العالم كله وجميع العوالم والكون كله، من أجل أن يلازم أحد هؤلاء القديسين، لأنه في نظرنا بمثابة جوهرة نفيسة للغاية. فإنَّ روحا واحدة كهذه، كما تعلم، تعادل في بعض الأحيان كوكبة كاملة مع جميع توابعها. ولدينا نظامنا في تقدير هذه الأمور، كما تعلم. فإنَّ الفتوحات والغلبة غالية جدا علينا، ولا تُقَدَّر بثمن! وأقسم لك بشرفي أن من بين هؤلاء القديسين ناسا لا يقِلُّون عنك ثقافة، رغم أنك لا تصدق هذا. وهم قادرون على أن يتأمَّلوا في أعماق الشَّكِّ والإيمان في آن واحد لدرجة أنهم يبدون حقا بأنهم يوشكون على أن ‹ينقلبوا رأسا على عقِب،› على حد تعبير الممثل غوربونوف.»
«حسنا، هل قام هذا الكلام بِشدِّ أنفك من مفاصله وأغضبك؟»
فعلَّق الزائر بكلام مُتصنِّع وكأنه يدلي بموعظة: «يا صديقي العزيز، من الأفضل أن ينصرف المرء مشدود الأنف بدلا من أن ينصرف بدون أنف كليًّا، كما قال منذ وقت ليس ببعيد أحد النبلاء أثناء اعترافه بخطاياه لدى أبيه الروحي: كاهن يسوعي، وكان ذلك النبيل مريضا (ومن المؤكد أن أحد الإخصائيين قدَّم الرعاية الطبية لأنفه). وقد كنتُ حاضرا آنذاك، وكان مشهدا ظريفا حقا. فقال النبيل وهو يلطم صدره: ‹رُدَّ إليَّ أنفي!› فقال له الكاهن بمراوغة: ‹يا بني، إنَّ كل شيء يحصل وفقا لمشيئة العناية الإلهية التي قد يصعب تفسيرها، وما يبدو مصيبة، فإنه يؤدي أحيانا إلى فوائد رائعة رغم عدم وضوحها للعيان. ولئن شاء قدرٌ قاسٍ أن يحرمك من أنفك، فهو لمصلحتك، إذ لا يمكن لأحد من بعد الآن أن يجرَّك من طرف أنفك مرة أخرى.› فصاح النبيل باكيًا يائسًا: ‹أيها الأب المقدس، إنَّ كلامك هذا لا يعزيني. فأنا يُسِرُّني ويسعدني ويفرِّحني أن أُجَرَّ من طرف أنفي كل يوم من أيام حياتي، شريطة أن يكون أنفي في مكانه الصحيح.› فأجابه الكاهن مُتنهِّدا: ‹يا بني، لا يمكنك أن تتوقع الحصول على جميع النعم والبركات في آن واحد. فهذا تذمُّر على العناية الإلهية، التي لم تنسَك حتى وأنت في هذه الحالة، لأنك حين تؤكد أنه سيسعدك أن تُجَرَّ كل يوم من طرف أنفك، كما أعلنت هذا بنفسك منذ هنيهة، فإنما أنت تحقق أمنيتك على نحو غير مباشر، فإنك إذا فقدت أنفك، فستكون مع ذلك مُحتفِظا به، بالمعنى المجازي.›»
صاح إيفان قائلا: «كلام فارغ، وما أغباه!»
«يا صديقي العزيز، لم أبتَغِ من هذه الحكاية الظريفة سوى تسليتك. ولكنني أقسم لك أن ذلك هو المنطق المحتال الحقيقي الذي يمارسه اليسوعيون، وأقسم لك أن ذلك الأمر حصل كله كما رويته لك تماما، كلمة كلمة. فقد حصل ذلك في الآونة الأخيرة وسبب لي الكثير من المتاعب. إذ إنَّ ذلك الشاب التعيس الذي حدَّثتك عنه قد انتحر في تلك الليلة نفسها بإطلاقة نارية عندما وصل بيته. وكنتُ بقربه حتى آخر لحظة. أمَّا كراسي الاعتراف لدى اليسوعيين فإنني أتردد إليها كثيرا، وتلك في الواقع تسلية من تسلياتي المفضلة، حين يوافيني ضجر ويلم بي سأم وحزن. وإليك حادثة أخرى حصلت قبل بضعة أيام فقط. فقد جاءت إلى كاهن عجوز عند كرسي الاعتراف فتاة شقراء، نورماندية، صبية في العشرين من عمرها — وجمالها طبيعي وذات جسم ممتلئ من شأنه أن يجعل لعاب المرء يسيل ويثير شهوته. فإذا بها تجثو على ركبتيها، وتهمس بخطيئتها من خلال الجدار المُشبَّك لكرسي الاعتراف. فصرخ الكاهن يقول: ‹لماذا سقطتِ مرة ثانية يا ابنتي؟ يا مريم العذراء، ماذا أسمع! مع رجل آخر هذه المرة، مُذ متى وهذا الأمر جارٍ؟ ألا تخجلين!› فأجابته الخاطئة بدموع الندم: ‹يا أبونا، إنَّ ذلك يعطيه لَذَّة كبيرة جدا، وألمًا قليلا جدا لي!› يا له من جواب ممتاز! فانسحبتُ أنا من هناك. لقد كانت تلك صرخة الطبيعة، ويمكننا القول إنها أطهر من البراءة نفسها. فغفرتُ لها خطيئتها على الفور. وبينما كنتُ أهمُّ بالانصراف، رأيتني أضطر إلى أن أعود أدراجي. فقد سمعتُ الكاهن يتواعد مع الفتاة خلال الجدار المُشبَّك على أن يلتقيا في المساء — فبالرغم من أن الكاهن كان رجلا عجوزا ومتصلِّبا كالحجر، إلاَّ أنه سقط بسرعة! إنها الطبيعة، فالطبيعة كحقيقة تؤكد حقوقها! ماذا؟ أترفض قبول كلامي وتزدري به ثانية؟ هل غضبتَ من جديد؟ فلم أعُدْ أعرف كيف أرضيكَ ...»
فقال إيفان وهو يَئِنُّ بشدة، لأنه كان يحسُّ بأنه عاجز أمام هذا الشبح: «اتركني وشأني، فإنك تحدث وجعا في دماغي ككابوس مخيف. لقد ضجرتُ منك ضجرا مؤلما لا يُطاق. وبوُدِّي تقديم أيِّ شيء لأتمكن من التخلُّص منك!»
فقال السيد جديًّا: «أكرر قولي لك، قَلِّلْ من توقعاتك مني، ولا تطلب مني كل ما هو ‹عظيم ونبيل› وسترى مدى انسجامنا. والواقع أنك حانق عليَّ لأنني لم أمثل أمامك بهيئة فيها مهابة، وتحيط بي هالة حمراء، وتصحبني بروق ورعود، وبجناحين كبيرين محمرين، ولكنني أظهرت نفسي بمثل هذا الشكل المتواضع. فإنك تشعر بإساءة إلى مشاعرك الجمالية الفنية أولا، وكبريائك ثانيا. فكيف يمكن لشيطان فظٍّ كهذا زيارة رجل عظيم مثلك! نعم، فإنك تتسم بتلك السمة الرومانسية التي طالما ندَّد بها بيلينسكي. ولكن ما حيلتي أيها الشاب الطيِّب؟ فمنذ قليل، حين كنتُ آتيا إليك، خطر ببالي — على سبيل المزاح — أن أظهَر لك بشخصية جنرال متقاعد سبق له أن خدم في بلاد القوقاز، وأضع على معطفي وسام الأسد ووسام الشمس. ولكني شعرتُ شعورًا قطعيًّا بخوف من عمل ذلك، لأنك كنت ستحتدم عليَّ لأني تجرأتُ على وضع وسام الأسد والشمس على معطفي بدلا من وضع النجم القطبي أو نجم سيريوس على الأقل. وأنتَ تظل تقول إنني غبي، ولكن يا إلهي، فأنا لا أدَّعي بأني مساوٍ لك في الذكاء! لأنه حين جاء مفستوفيليس إلى فاوست قال إنه يريد الشرَّ ولكنه لم يفعل سوى الخير.[1][2] وعلى كل حال، فإنَّ مفستوفيليس له أن يقول ما يشاء، أمَّا أنا فعلى النقيض من هذا. فربما كنتُ أنا الإنسان الوحيد في الكون بأسره الذي يحب الحقيقة، ويصبو إلى الخير بصدق. فقد كنتُ حاضرا حين صعد الكلمة إلى السماوات، بعد موته على الصليب، حاملا في حضنه روح اللِّص التائب. وسمعتُ صيحات الملائكة الكروبيم المسرورة وهم يرنمون ويصرخون هوشعنا، وسمعتُ نشوة الملائكة السرافيم المدويَّة التي هزَّت السماء وكل الخليقة، وأقسم لك بكل ما هو مقدس، أنني تمنيتُ وقتذاك الانضمام إلى جوقة المنشدين لأصرخ هوشعنا معهم جميعا. ولكن الكلمة ضاعت مني تقريبا، فكانت الكلمة على طرف لساني — فأنت تعلم كم أنا مرهف الحسِّ والمشاعر، وسريع التأثُّر بالجمال والعواطف. غير أن العقل — وهو أتعس سمة في شخصيتي — قد جعلني أحافظ على حدودي، فتركتُ اللحظة تمرُّ! لأنني تأملتُ الموضوع وتساءلتُ آنذاك: ما عسى أن يحدث بعد أن أُرنِّم هوشعنا؟ فسوف ينطفئ حينذاك كل شيء على وجه الأرض، فلا يمكن لأيِّ أحداث أخرى من بعد ذلك الحين أن تحدث. وهكذا اضطررتُ إلى قمع اللحظة الطيِّبة والتمسُّك بمهمتي الشريرة، لا لشيء وإنما بدافع الشعور بالواجب والحفاظ على مكانتي الاجتماعية فقط. غير أن هناك شخصا آخر يعمل على إرجاع كل الفضل في ما هو خيِّر وصالح له هو شخصيًّا، أمَّا الخباثة فتُترَك لي. ولكنني لا أغارُ من المجد الذي تناله حياة دجال كسول؛ فأنا لستُ بطمَّاع. فلماذا كُتِب عليَّ أنا من دون كل المخلوقات في العالم أن أكون ملعونا من قِبل جميع الناس المحترمين وأتعرَّض للركل أيضا؟ ولماذا يكون مصيري الحتمي تحمُّل هذه المساوئ أحيانا إذا تجسَّدتُ ولبستُ جسدا فانيا؟ فأنا أعلم بالطبع أن في هذا سِرًّا، ولكنهم لن يخبروني بالسِرِّ مهما حصل، وربما كانوا يعرفون أنني، يوم أعرف السِرَّ، سأهتف أنا أيضا هوشعنا، فسرعان ما يتبدد عندئذ ما في هذا العالم من عيوب ضرورية، ويسود الرشاد والمنطق السليم بشكل مطلق العالم بأسره. وبطبيعة الحال، سوف يكون ذلك نهاية كل شيء، حتى الجرائد والمجلات، إذ مَنْ ذا الذي يريد اقتناء الصحف من بعد ذلك الحين؟ وأنا أعلم بأنني سوف أتصالح عند نهاية كل شيء. وأنا أيضا سوف أسير مسافتي: كوادرليون كيلومتر، وسوف أعرف السرَّ. ولكن لغاية أن يتحقق ذلك، سأظل عابسا وأتمم ما مقدَّر عليَّ على مضض — وهو إهلاك الألوف من أجل خلاص واحد. فكم من نفس وجب إهلاكها، وكم من سمعة وجب تلطيخها، من أجل الوصول إلى رجل صالح واحد كأيوب، الذي من أجله جعلوا مني شخصا أحمق في الأيام الماضية. نعم هناك نوعان من الحقيقة في نظري، لغاية أن ينكشف السرُّ — الحقيقة الأولى هي حقيقتهم في السماء هناك التي لا أعلم أيَّ شيء عنها لحد الآن، والحقيقة الثانية هي حقيقتي أنا. ولا أحد يعلم أيَّ منهما سوف تكون لها نتائج أفضل ... هل أنت نائم؟»
همهم إيفان ساخرا بغضب: «وكيف لا أنام؟ فإنَّ جميع أفكاري الغبية — التي تجاوزتُها منذ زمن طويل ورميتُها عني كالجثث المُتعفِّنة — تُقدِّمها أنتَ إليَّ الآن كما لو كانت شيئا جديدا!»
«أرى أنني لم أحصل على رضاك! وكنت آمل أن أفتنك بأسلوبي الأدبي. وأحسبُ أنني أجدتُ وصف ترانيم الهوشعنا التي رنَّمَتْها الأصوات في السماوات، أليس كذلك؟ وما رأيك في هذه اللهجة الساخرة التي تقتفي آثار ‹هاينه›؟ فيُخيَّل لي أنها تناسبني ... ألا ترى ذلك؟»
«لا، أنا لم أكن في يوم من الأيام شخص مُداهِن! وأستغرب كيف تمكنتْ نفسي إذن من أن تلِد شخصا مُداهِنا مثلك؟»
«يا صديقي العزيز، أعرفُ شابًّا روسيًّا من أروع الناس وأكثرهم جاذبية، وهو مُفكِّرٌ شابٌّ، ومُحِبٌّ كبيرٌ للأدب والفن، ومؤلف قصيدة واعدة بعنوان ‹المفتش الكبير.› وفيه وحده إنما كنتُ أفكر!»
فصاح إيفان يقول وقد احمرَّ وجهه خجلا: «لا أسمح لك بأن تتحدث عن ‹المفتش الكبير›!»
«و ‹التحوُّل الجيولوجي.› هل تتذكر؟ لقد كانت قصيدة جيدة فعلا!»
«أَمْسِكْ لسانك، وإلاَّ قتلتُك!»
«أنتَ تقتلني؟ لا، لا، اسمح لي، ودعني أتكلم إذن. فأنا جئتُ إليك من أجل متعة التكلُّم معك. فكم أحبُّ أحلام أصدقائي الشباب المتحمسين الذين يهتز كيانهم شغفا بالحياة! وكنتَ تقول لنفسك في الربيع الماضي وأنت تستعد للمجيء إلى هذه المدينة: ‹سأجد هنالك ناسا جددا.› ولكنهم ينوون تدمير كل شيء، ويبدؤون بأكل لحوم البشر! فيا لهم من حمقى! فلم يستشيروني! فأنا أؤكد أنه لا حاجة إلى تدمير أيِّ شيء، وإنما يكفي أن نطرد من أذهان البشر فكرة الله. فهذا ما يجب أن نبدأ به. وآه على هذا الجنس البشري الأعمى الذي يفتقر إلى الإدراك والاستيعاب! فبمجرد أن ينكر الناس، بل جميع الناس، الله — وأنا مؤمن بأن هذا العصر سوف يأتي، مثل العصور الجيولوجية — سوف تختفي المفاهيم القديمة عن الكون من تلقاء نفسها — بدون أكل لحوم البشر — وأضِف إلى ذلك أن كل شيء سوف يبدأ من جديد ومن ضمنه الأخلاق القديمة. وسوف يتَّحِد الناس ليأخذوا من الحياة كل ما تستطيع أن تعطيه، ولكن لمجرد الفرح والسعادة في العالم الحالي. أمَّا الإنسان فسوف يعلو شأنه مُتَّصِفًا بروح كبرياء إلهية جبارة وسوف يظهر الإنسان–الإله. وعند امتداد انتصارات الإنسان لتشمل انتصارات لا انقطاع لها ولا حدود لها على الطبيعة بفضل إرادته وعلمه، سوف يشعر الإنسان في كل ساعة ينتصر فيها على الطبيعة بفرح يبلغ من السمو والرفعة بحيث أن هذا الفرح سوف يعوِّض عن جميع أحلامه القديمة بخصوص أفراح السماوات. وسوف يعرف كل إنسان أنه فانٍ، وأنه لا قيامة بعد الموت، وسوف يَقبَل بالموت بفخر وسلام كإله. وسوف تعلِّمه كبرياؤه أنه من غير المجدي له أن يتذمَّر من كون الحياة مجرد لحظة، وسوف يُحب الإنسان أخاه الإنسان حبا مُبرأ من المنفعة، لا يرجو أن ينال على حبِّه ثوابا فيما بعد. فسوف تكون المحبة كافية حتى للحظة من الحياة، غير أن الوعي بقصر وقت المحبة سوف يزيد من ضراوة حرارة نار المحبة، في حين نرى الآن أن حرارتها تتبدد في أحلام المحبة الأبدية ما بعد القبر ... وهكذا تجري وتجري بقية مجالات الحياة على المنوال نفسه. فيا له من أمر ساحر!»
كان إيفان جالسا ومُطرِقا عينيه إلى الأرض وقد سدَّ أذنيه بيديه، ولكن جسمه كله أخذ يرتجف. وتابع الصوت كلامه يقول:
«إنَّ المسألة المطروحة الآن — هكذا كان يفكر فيلسوفنا الشاب — هي: أمِن الممكن لمثل هذا العصر أن يأتي؟ فإذا كان الجواب على هذا السؤال بنعم، فسوف تُحلُّ المشكلة، وسوف تنتظم الإنسانية إلى الأبد. ولَمَّا كان ذلك غير ممكن تحقيقه قبل انقضاء ألف سنة أخرى، بسبب حماقة البشر، فإنه يترتب على ذلك أن من حقِّ كل فرد ممَنْ يعي الحقيقة منذ الآن، أن يبني حياته على النحو الذي يشاء، وفقا للمبادئ الجديدة. لذلك، ومن هذا المنطلق، فإنَّ ‹كل شيء مباح› له. وإضافة إلى ذلك، فإنه حتى لو لم يتحقق هذا العصر مطلقا، لأنه لا وجود لله ولا وجود لخلود النفس على أيِّ حال، فسوف يصبح الإنسان الجديد على الأرجح الإنسان–الإله، حتى لو كان هذا الإنسان هو الإنسان الوحيد في العالم كله، حيث تم ترقيته إلى مكانته الجديدة، وله الحقُّ إذا لزم الأمر أن يتخطى بكامل الحرية والفرح جميع حواجز الأخلاق القديمة للإنسان–العبد. لأن الإله لا تُفرَض عليه أيُّ قواعد وأحكام. فحيثما يقف الإله يكُن المكان مقدسا. وحيثما أقف أنا آخُذْ على الفور مكان الصدارة حيث ‹كل شيء مباح› عندي — وهذا منتهى الأمور! وهذا كله رائع جدا، ولكنك إذا أردت كسب شيء بالاحتيال، فلماذا تريد الحصول على مصادقة أخلاقية عليه لكي تفعله؟ فهذه هي طبيعة إنساننا الروسي المعاصر في كل مكان. فلا يمكنه كسب شيء بالاحتيال دون مصادقة أخلاقية تؤيد عمله. فهو مُتَعَلِّق جدا بالحقِّ ...»
كان الزائر يبدو مسرورا ببلاغة حديثه وفصاحته، وأخذ يرفع صوته أكثر فأكثر، وينظر إلى مُضيِّفه بسخرية. ولكنه لم ينجح في إنهاء حديثه؛ إذ تناول إيفان فجأة كأسا موضوعة على المائدة ورمى الخطيب البليغ بها بكل ما أوتي من قوة.
فصرخ الخطيب قافزا من على الكنبة ونافضا عنه قطرات الشاي قائلا: «ما أغبى هذا العمل! فإنه تذكَّر مَحبَرة لوثر![3] وهو يعتبرني حلما ويرمي الحلم بالكؤوس! إنَّ هذه التصرُّفات أشبه بتصرُّفات الحريم! لقد كنتُ أظن أنك مجرد تتظاهر بِسدِّ أذنيك، بينما كنتَ في الواقع تسمعني وتصغي إليَّ.»
وفي تلك اللحظة سُمِعتْ فجأة طرقات شديدة ولَجوجة على زجاج النافذة. فهبَّ إيفان على قدميه من على الكنبة.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «الإنجيل في روايات دوستويفسكي»
[1] مفستوفيليس Mephistopheles اسم يُعطى غالبا للشخصية التي تُمثِّل الشيطان. وعلى العكس من الشيطان الذي يُمثَّل عادة في هيئة شبه حيوانية بحوافر وقرون، فإنَّ مفستوفيليس أكثر إنسانية حيث إنه يظهر عادة في هيئة رجل طويل مسربل بالسواد، ويحمل كتابا أحمر يوقع فيه الأشخاص الذين يبيعون أرواحهم له. وغالبا ما يظهر مفستوفيليس في هيئة راهب فرنسيسكاني.
[2] فاوست Faust هو بطل أسطورة ألمانية كلاسيكية، مأخوذة عن قصة الشخصية التاريخية الألمانية يوهان كيورك فاوست Johann Georg Faust (ولادة نحو 1480 – وفاة 1540م). فكان فاوست مُثقَّفا ناجحا للغاية، ولكنه غير راضٍ عن حياته، مما جعله يقيم اتفاقا مع الشيطان، وذلك بتسليم روحه للشيطان مقابل الحصول على معرفة غير محدودة وملذات دنيوية. وكانت أسطورة فاوست هي أساس العديد من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية والموسيقية التي أعيد تفسيرها على مَرِّ العصور. وأصبحت كلمة فاوست أو نعت فاوستي تشير إلى موقف يتنازل فيه الشخص الطموح عن النزاهة الأخلاقية من أجل تحقيق السُّلطة والنجاح لفترة محدودة.
[3] مَحبَرة لوثر: ذكر المصلح الكنسي الراهب الألماني مارتن لوثر أنه كثيرا ما كان يتعرض للإزعاج من الشيطان أثناء إقامته في قلعة فارتبورغ في ولاية تورينغن الألمانية وعمله في مكتبه، ولاسيَّما عند ترجمته للكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية. وذات ليلة انزعج مارتن لوثر كثيرا من معاداة الشيطان المستمرة له، فألقى المَحبَرة عليه، فإذا بالحائط يتلطَّخ بالحبر. وبقي الحبر مرئيا على الحائط لغاية القرن الماضي، وأصبحت غرفة مكتبه مزارا للزوار لحد يومنا هذا.