لقد كنت دائما اشعر بالأسف لأني لم أعد حكيما كما كنت في اليوم الذي ولدت فيه. هنري ديفيد ثُرو Henry David Thoreau
قرأت مؤخراً مقالة في إحدى المجلات عن مدرسة في كينيا، تعقد الصفوف الدراسية في مزرعة تحت ظلال الاشجار في الهواء الطلق. وذكر مدير المدرسة (الذي كان قد شارك في زراعة الأشجار في المزرعة عندما كان طفلا) مثلاً إفريقيا يقول: "إذا أردتَ أن تزرع شجرة، فلا تزرع أبداً شجرة واحدة فقط، بل ازرع ثلاث شجرات: واحدة للظل والثانية للفاكهة والثالثة لتجميل الطبيعة." إنّ مثل هذه النصيحة مليئة بالحكمة وتعطي قيمة لكل شجرة في قارة يعمّها الجفاف والمناخ الحار. وهذه فكرة رائعة ومثيرة للاهتمام من الناحية التعليمية أيضا، وخاصة في مثل زماننا الذي يتعرض فيه عدد كبير من أولادنا للخطر، بسبب النظر إليهم من جانب واحد فقط؛ أي من حيث قدرتهم بأن يكونوا منتجين، بمعنى القدرة على "الانجاز" و "النجاح".
لقد أصبح للضغط الذي يُمارس على الأولاد من أجل تحقيق التفوق، تأثيراً كبيراً عليهم بصورة لم يسبق لها مثيل. فالآباء بطبيعة الحال يريدون التفوق دائما لأبنائهم من الناحية الأكاديمية والاجتماعية، ولا يريد أحد من ابنه أن يكون أبطأ ولد يردّ على الأسئلة في غرفة الصف، أو آخر من يقع عليه الاختيار للمشاركة في إحدى الألعاب الرياضية في ساحة المدرسة. لكن ماذا نقول عن الثقافة التي نعيش فيها، والتي جعلت من قلق الوالدين الطبيعي شكلا من أشكال الرعب الذي يستحوذ على النفوس؟ وما هي العواقب المترتبة على أولادنا؟ ثم ما هو الانجاز أصلاً؟ وما النجاح يا ترى، سوى مجموعة غامضة من المثل المتغطرسة؟
اعتادت أمي أن تقول: أن التربية تبدأ في المهد. ولا يختلف معها اليوم أي من المربين. إلا أنّ الاختلاف يكمن في الاسلوب الذي يتبعوه الذي يسلّط بدوره الضوء الكاشف على الموضوع. ففي حين كانت النساء في جيلها تغني لأطفالهن وتُهوِّدُ لهم ليناموا كما فعلت أمهاتهن من قبل، لأن الطفل يحب صوت أمه – إذ نرى اليوم أنّ الاتجاهات التربوية الحديثة تحاول الإشارة إلى الآثار الايجابية لموسيقى موزارت على تطور دماغ الرضيع. والنساء قبل خمسين عاما كانت ترضع الأطفال، وتعلمهم اللعب بالأصابع بصورة طبيعية، أما الأمهات اليوم فلا يفعلن شيئا كهذا، رغم الأحاديث التي لا تنتهي عن الأهمية التي يحتلها الارتباط والرعاية.
وكوني كاتباً فقد أدركتُ بعد انتهائي من تأليف أول كتاب لي، شيئا لم أنتبه إليه من قبل، وهو أهمية مساحات الفراغ البيضاء. فالمساحة البيضاء التي توجد بين السطور المطبوعة وفي الهوامش، والمساحة البيضاء الإضافية في بداية الفصل، والصفحة البيضاء التي تترك في بداية الكتاب، تسمح كلها للحروف بأن تتنفس، وتعطي العين مكانا للراحة. إن المساحات البيضاء هي شيء لا ندرك وجوده عند قراءة كتاب، إنها شيء غير موجود هناك، ولكن لو اختفت فسوف نلاحظها مباشرة، إنها مفتاح كل صفحة يتم تصميمها بصورة جيدة.
وكما يتطلب الكتاب مساحات بيضاء، يحتاج الطفل كذلك إلى مساحات من الفراغ من اجل النمو. ولسوء الحظ لا يحصل العديد من الأطفال على ذلك. وبنفس الطريقة التي نحاول فيها إغراقهم بالأشياء المادية، فإننا نميل إلى الإفراط في التأثير والتوجيه، ونحرمهم من الوقت والمكان والمرونة التي يحتاجون إليها، من اجل النمو بالطريقة التي تناسبهم.
ويذكرنا الفيلسوف الصيني القديم لاوتسو Lao-Tzu بما يلي: "ليس طين الخزف هو الذي يعطي الجرة الفائدة المرجوة منها، وإنما الفراغ الموجود في داخلها". وكذلك، يحتاج الأولاد إلى الحوافز والتوجيه، ولكنهم في حاجة أيضا لوقت خاص بهم. فالساعات التي يقضيها الطفل مع نفسه في أحلام اليقظة أو فترات الهدوء، والأنشطة غير المبرمجة التي يقوم بها، تغرس في نفسه الشعور بالأمان والسكينة والاستقلال (أي بمعنى قوة الشخصية)، وتوفر له الطمأنينة والهدوء النفسي اللازمين لمواجهة إيقاع الحياة في كل يوم. هذا وينمو الطفل ويتطور من خلال الصمت أيضا. فإذا لم يكن هناك ما يلهّي الأطفال عن فعاليتهم الرئيسية، فنراهم ينغمسون كليّاً بما يفعلونه، ولا يَعُونَ تماما بكل ما يحيط بهم. وللأسف، أصبح الصمت من الكماليات التي نادرا ما توفر لهم الفرصة للتركيز بدون انزعاج. فأيا كان المكان الذي يتواجد فيه الطفل – مركز التسوق أو المصعد أو المطعم أو في السيارة - فهناك دائما خلفية من الأصوات المنخفضة (أو المدوية) من الموسيقى التي تُذاع مركزياً أو خلفية مستمرة من الضوضاء بلا انقطاع.
وفيما يخص أهمية توفير الوقت الحر للطفل، يحذر يوهان كريستوف بلومهارت Johann Christoph Blumhardt وهو أحد كتاب القرن التاسع عشر، من الفخ الذي نقع فيه نحن الآباء والتربويين وذلك بالتدخُّل المستمر ومقاطعة الأطفال، ويشدد على أهمية النشاط العفوي للطفل، فيقول: "هذه هي المدرسة الأولى لهم، إنهم يتعلمون من تلقاء أنفسهم. ولدي الشعور غالبا بأن الملائكة تحيط بهم... وكل شخص أخرق يحاول إزعاج الطفل، إنما هو يستفز ملاكه". وبالتأكيد، لا يوجد أي ضير في تكليف الولد بالمساعدة في الأعمال المنزلية ومطالبته بالقيام بها يوميّاً. ولكن الطريقة التي يقوم بها العديد من الآباء في الإفراط في إملاء جدول حياة أولادهم تعمل نفسيّاً على سلب الحرية والفرصة التي يحتاجون إليها أولادهم من أجل التطور والنمو والوقوف على أرجلهم بأنفسهم، وتسلب أيضاً الوقت الذي يحتاجونه لذلك.
فما أجمل رؤية الطفل مستغرقا في اللعب وحده. فلا يوجد نشاط أكثر نقاوة وبراءة وروحانية من ذلك، لأن اللعب يجلب الفرح والتحرّر من المتاعب التي نواجهها كل يوم. وخاصة في هذه الأيام المحمومة التي تحركها ثقافة المال والمادة. إن هذه الأشياء الهامة لكل ولد، لا يجري التأكيد والتركيز عليها بدرجة كافية. ويذهب التربوي فردريك فروبل Friedrich Froebel، مؤسس مدارس رياض الأطفال العصرية بعيدا إلى حد القول: "إن الولد الذي يلعب جيدا، وبصورة مثابرة إلى درجة الإرهاق البدني، يصبح شخصاً قوي العزيمة عندما يكبر، وقادرا على التضحية بالنفس في سبيل خيره وخير الآخرين على حد سواء." إننا نعيش في عصر سيطر فيه الخوف من الإصابات في أماكن لعب الأولاد، كما تشير فكرة خاطئة إلى أن اللعب يتعارض مع التعليم "الحقيقي"، مما أدى إلى أن تقوم 40 % من المدارس في مختلف المقاطعات في البلاد، بالتخلص من فترات الفرص المدرسية القصيرة أثناء الدوام اليومي. ولا يمكن للمرء إلا أن يأمل في ألا تذهب الحكمة الواردة في الكلمات السابقة سدى وبدون فائدة.
إن توفير الفرصة للأولاد من أجل النمو بوتيرتهم الخاصة لا يعني إهمالهم. إذ من الواضح إن حجر الأساس لاطمئنانهم النفسي يوماً بيوم هو توفير إحساساً للأولاد بأننا موجودون بقربهم دائماً، وعلى استعداد لمساعدتهم والتحدث إليهم، وتقديم كل ما يحتاجون إليه، أي باختصار "أن نتواجد بقربهم في سبيلهم. ولكن كم ترانا نسهو عن هذا وتستحوذ علينا اعتقاداتنا الخاصة حول ما يريده الأولاد أو ما يحتاجونه؟
بعد المذبحة التي حدثت في إحدى المدارس الثانوية في كولومبيا في شهر نيسان عام 1999، هرعت إدارة المدرسة إلى توفير الأطباء النفسيين والمستشارين لمساعدة طلاب المدرسة المصابين بالصدمات ومعالجة شعورهم العميق بالحزن. ولكن هؤلاء المراهقين كانوا لا يرغبون في مقابلة هؤلاء الأطباء والخبراء، رغم أن العديد منهم قام بالبحث عن مساعدة المتخصصين بصورة منفردة وبالطريقة التي تناسبهم. فقد توجهوا في البداية إلى الكنائس المحلية ومراكز الشباب، وتعاملوا مع أحزانهم من خلال الحديث مع زملائهم وأقرانهم.
إن الميل لتدخّل البالغين ظاهرة طبيعية، خاصة عندما يقع الولد في مشكلة، ولكن حتى في مثل هذا الظرف، من الضروري أن تكون هناك حساسية خاصة لاحتياجات الولد. هذا ما تقوله نيكول Nicole، وهي أم لأربعة أولاد، عندما علمت بأن قريتهم الانجليزية الهادئة، قد هزتها جريمة قتل وحشية:
في شهر حزيران عام 1996، تعرضت امرأة من محلتنا مع ابنتها للضرب حتى الموت بالقرب من منزلنا، بينما كانتا عائدتين سيرا على الأقدام من المدرسة الابتدائية المحلية. وتعرضت الابنة الثانية للضرب أيضا، إلا أنها نجت من الموت. وكانت ابنتاي اللتان تبلغان السادسة والثامنة من عمرهما، تلعبان غالبا مع هاتين الفتاتين، وكانتا من نفس العمر. وقضت ابنتاي أياما وليالي في البكاء، وكانتا تبكيان في الواقع في فترات متقطعة لعدة شهور بعد الحادث.
وكأم، شعرت بطبيعة الحال بقلق كبير من تأثير الصدمة الناتجة عن هذه الجريمة، وكما قلقت بشأن مكان وجود القاتل (الذي لا يزال طليقا). وكنت أميل أحيانا إلى مساءلتهما عن أحوالهما، وعما تفكران به بخصوص هذا الأمر. ولكني كنت امتنع عن ذلك. وكنت أعرف أنه من اجل مساعدتهما، علي أن استمع أولا إلى ما تقولانه عن ذلك - وما هي ردود فعلهما العفوية – وليس أن أفرض عليهما أولاً أفكاري الأمومية الخاصة بي.
وبصورة مذهلة، لم تتحدثا أبدا ولو مرة واحدة بخوف عن قاتل جارتينا، كما كان يفعل البالغون في المنطقة. وبدلا من ذلك سألتا: "لماذا كان هذا الرجل يكرهما كثيرا؟ أنهما لم تفعلا أي شيء له..."
وبعد مضي أسابيع على حادث الجريمة، حثنا أحد الأصدقاء على نسيان الموضوع وألَّا نترك الطفلتين متعلقتين بهذا الحادث البشع. وقدم لنا تحذيرا: "حاولوا مساعدتهما على التخلص من تأثير هذا الحادث بأسرع وقت ممكن". ولكني لم استطع. لأن الطفلتان كانتا في هذه المرحلة بحاجة إلى الحزن، ولم يكن بقدرتي أن أقنعهما بأفكار البالغين حول الشفاء من أثر الحادث.
يركز جوناثان كوزول Jonathan Kozol في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "القيامة العادية Ordinary Resurrections"، والذي يدور حول الأولاد في جنوب حي برونكس South Bronx في مدينة نيويورك، على زاوية أخرى من الموضوع نفسه ألا وهي الطريقة التي يحاول البالغون توجيه الأولاد بها خلال معظم أحاديثهم العادية. وهو يُرجع أيضاً السبب في ذلك إلى نزعتنا في التسرع – ومقاومتنا لإعطائهم الفرصة ليتعاملوا مع أمور الحياة بطريقتهم الخاصة وبالوتيرة التي تناسبهم. فيقول:
عموماً، يتأخر الأولاد كثيرا قبل التوصل إلى فكرة معينة. إذ أنّ ذهنهم يشرد. وتراهم يسرحون كثيراً في مواضيع لا علاقة لها بتاتاً بالموضوع المطروح، وما أحلاهم بهذا. ونظن أننا نعرف أيّ مسار يتخذونه أثناء حديثنا معهم، لهذا نصير غير صبورين مثل المسافر الذي يريد "اختصار طريق الرحلة". فنريد أن نصل إلى الهدف بسرعة. صحيح أنّ هذا الاسلوب يُسرّع وتيرة الأمور، ولكنه يمكنه أيضاً أن يُغيّر الهدف ومحطة الوصول.
وربما يكون الاسلوب الاكثر انتشاراً والاسوأ من بين أساليبنا التي نقوم بها على دفع أبناءنا إلى تلبية تطلعات البالغين، هو الاتجاه الذي نسلكه في الضغط الكبير عليهم للحصول على شهادات أكاديمية عالية، وهو الاسلوب الأسوأ. أقول أسوأ بسبب السن التي يبدأ فيه الطفل بالتعرض لذلك. وفي الواقع سرعان ما تصبح المدرسة لبعض منهم مكانا يثير الرهبة، ومصدرا للبؤس، ولا يستطيع الأطفال الفرار منه لشهور متلاحقة.
وفي حال تعثُّر حصول الطالب في المرحلة الثانوية على أي تقدم دراسي ملحوظ، فإنني أعلم جيداً مدى الرعب الذي يصاحب إحضار الشهادة المدرسية المليئة بالدرجات الواطئة في كثير من المواضيع. والحمد لله، كان والداي يهتمان بصورة أكبر فيما إذا كانت علاقاتي مع زملائي جيدة، أكثر من اهتمامهم بحصولي على علامة أ (A - ممتاز) أو ب. (B - جيد جداً)، وحتى عندما كنت أفشل في إحدى المواد، كانا يمتنعان عن توجيه التوبيخ إلي، ويخففان من قلقي، وذلك بالتأكيد على أني ما زالت أملك من القدرات أكثر مما كنت أدرك أنا أو مدرسي، وأن ذلك لم يظهر بعد. ووفقا لميلندا Melinda، وهي مدرسة مخضرمة في رياض الأطفال في كاليفورنيا، أنّ مثل هذا التشجيع هو مجرد حلم للكثير من الأطفال، وخاصة في الأسرة التي يعتبر فيها الفشل الدراسي غير مقبول. فتقول:
يوجد لدينا من الآباء الذين يسألون فيما إذا كان طفلهم الذي يبلغ عامين ونصف من العمر قد بدأ يتعلم القراءة أم لا، ويتذمرون إذا كان لا يستطيع ذلك. إن الضغوط التي يمارسها بعض الآباء على أطفالهم، شيء لا يصدق. إنني أرى أطفالا يرتجفون ويبكون، لأنهم لا يريدون الذهاب إلى الامتحان. حتى أني قد شاهدت بعض الآباء يجرون أطفالهم إلى غرفة الصف...
كان لديّ مرة في الصف الذي أدرّسه ولداً صغيراً اسمه مايلز Miles، حيث كان والداه يدفعانه للدراسة أثناء الصيف ليصير مؤهلاً للدخول في مدرسة خاصة غالية التكاليف. ورأيتُ مرة والده بالصدفة في بداية العام الدراسي الجديد، وقال لي: "هل تعلمين أن مايلز قد أصابه الإرهاق وصار علينا أن نحيله إلى العلاج الاستشاري." صحيح أن مايلز قد أصابه الإرهاق، ولكنني متأكدة أنّ ذلك يعود إلى الامتحان الصارم الذي وضعاه فيه خلال فصل الصيف... وبدأ يبكي في يوم الامتحان بالمدرسة، وأصبح يبكي يوميا منذ ذلك الحين.
وقد تبدأ حمى المنافسة في بعض الحالات حتى قبل موعد مباشرة الطفل بالذهاب إلى المدرسة، كما يشير هذا الخبر الصحفي حول محاكمة زوجين من مدينة نيويورك:
علمتْ قبل أسبوعين، هي وزوجها، أنّ ابنهما الذي يبلغ الخامسة من عمره قد تمّ رفض طلبه للدخول في فصل الخريف القادم إلى المدرسة في كل المدارس الخاصة الست التي تقدما إليها. "لا تقلقا،" قال مؤكدا لهما مدير الروضة الذي يداوم فيها أبنهما: "سوف تحصلان بالتأكيد على واحدة من اختياراتكم الست المفضّلة".
كلام مألوف. فقد رفضت كل المدارس الست ابنهما الذكي، صاحب الابتسامة الفاتنة والعلامات الرائعة، لسبب أو لآخر. وكان هذا الرفض كالوشم المؤذي كما اعترفت الزوجة. وسماعهما بخبر رفض عائلات أخرى انتهت بنفس المصير لم يخفف عنهما كثيراً.
ويأتي الآن الجزء الصعب من المشكلة. هل سيترتب عليهما الرحيل مرغمين إلى خارج المدينة؟... أم من الأفضل أن يتركا ابنهما في الروضة نفسها، ومحاولة خوض سباق الدخول إلى المدارس الخاصة مرة أخرى السنة القادمة؟ أم يرسلوه إلى المدرسة الحكومية المحلية ويرزحون تحت وطأة مرارة الاستسلام؟
إن المعضلة التي واجهت هذين الزوجين، تمثل مقياسا لحجم السعير الذي صارت الحياة تتصف به... في عالم الكادحين. قالت المرأة: "لقد صار الناس لا يعرفون ماذا سيفعلون، فتراهم يبذلون قصارى جهدهم واسترخاص كل ما عندهم في سبيل الحصول على روضة، فقد جنّ الناس. فأننا لا نتحدث عن موضوع خطير كمرض السرطان، وإنما مجرد إيجاد مكان في الروضة. ولكن رغم ذلك فإنّ هذا الأمر يغيّر من حياتك. علاوة على ذلك، فإن الحياة أمست شديدة جداً بل شرسة مع الأهالي... لأن مقياس نجاح الوالدين صار يعتمد على نوع المدرسة التي تقبل طفلك. وهذا أكثر ما هو مقزِّز في الموضوع. فنحن نتحدث عن أطفال رضع".
وقالت المرأة في النهاية، أنها وزوجها سيبقيان على الأرجح ابنهما في روضة الأطفال الحالية، والمرور بغمار عملية التنقيب عن المدارس الخاصة في العام المقبل. وقالت: "إن هذا ما يمزقني، إذ يترتب علينا جرّه ثانية معنا واستعراضه مثل حصان الاستعراض".
صحيح أن المتألمين أعلاه يمثلان حالات شديدة، إلّا أننا ومع ذلك لا يمكننا أن نصرف نظرنا عنهما، لأن ذلك يسلط الضوء على اتجاه مقلق ينعكس على التربية والتعليم في مختلف المستويات. ويبدو أننا بصورة عامة، قد فقدنا الرؤية السليمة للطفل في مرحلة الطفولة، وتم تحويل هذه المرحلة إلى معسكر تدريب كئيب للكبار. وكتب جوناثان كوزول Jonathan Kozol عن ذلك يقول:
تظهر براءة الأطفال وصدقهم بصورة واضحة في السادسة أو السابعة من العمر، وحتى الحادية عشرة أو ربما الثانية عشرة. وقد فقد مجتمعنا فرصة الاستفادة من هذه اللحظات، وأصبحنا ننظر إلى هذه الصفات على أنها عديمة الفائدة أو غير مجدية. وأصبحنا لا نعطي قيمة للأطفال بسبب وداعتهم، وإنما ننظر إليهم على أنهم عناصر اقتصادية في المستقبل لا غير، أو عمال المستقبل أو مصدر ربح أو خسارة في المستقبل.
وعندما نقرأ عن النقاش السياسي الذي يدور حول حجم المبالغ التي يجب أن تصرف على الأطفال، نلاحظ أن الجدال لا يكون عادة، حول مسألة: أيستحق الأطفال طفولة سعيدة وادعة أم لا؟ وإنما: أيسفر الاستثمار في تعليمهم عن نتائج اقتصادية مربحة بعد عشرين عاما أم لا؟ وإني أتساءل دائماً: لماذا لا نستثمر أموالنا فيهم مجرد على أنهم أطفال، ويستحقون شيئا من المتعة قبل موتهم؟ لماذا لا نستثمر قلوبهم الوديعة بالإضافة إلى مهاراتهم التنافسية؟
الجواب بطبيعة الحال، هو أننا قد تخلينا عن مفهوم التربية على أنها عملية نمو الولد ونضوجه، وقررنا النظر إليها على أنها مجرد تذكرة لدخول سوق العمل. وتحت تأثير الجداول والرسوم البيانية وتشجيع الخبراء، أدرنا ظهورنا لقيم التفرُّد الشخصي والإبداع لدى كل ولد، ووقعنا بدلا من ذلك تحت تأثير أكذوبة مفادها أنّ السبيل الوحيد لقياس تقدم الولد هو الامتحان المدرسي الموحد. وبعملنا هذا فإننا نقوم بإهمال الاستفادة من ظلّ وجمال الأشجار عند زراعتها والتركيز فقط على زراعة ثمر معين واحد لا غير. أو كما تعبر عن ذلك مالفينا رينولدز Malvina Reynolds في أغنيتها "الصناديق الصغيرة Little Boxes":
يلعبون جميعا في ملعب الغولف،
ويشربون نبيذ المارتيني السادة،
ولدى جميعهم أطفال حلوين،
ويذهبون إلى المدرسة،
ويذهبون إلى المخيم الصيفي،
ومنها إلى الجامعة،
حيث يوضع الجميع في صناديق،
ويخرجون جميعا بالصورة نفسها.
مما لاشك فيه، ينبغي لنا العمل على توسيع مدارك الولد وخلق الحوافز الفكرية له. ويجب أن يتعلم الأولاد على التعبير عن أفكارهم، وعلى الكتابة، والقراءة، وعلى تنمية فكرة معينة عندهم والدفاع عنها، وعلى التفكير الناقد. ولكن ما الهدف الذي نسعى إليه في أفضل تعليم أكاديمي، إذا كان هذا التعليم يفشل في إعداد الولد للعالم "الحقيقي" خارج حدود الفصول الدراسية؟ وماذا عن المهارات الحياتية التي لا يمكن أن يتعلمها الولد أبداً عن طريق مجرد وضعه في الأوتوبيس وإرساله إلى المدرسة؟
وحتى للأمور التي يُفترض بالمدارس تعليمها للأولاد، نراها غير منجزة تماماً في كثير من الأحوال. ويشير الكاتب التربوي جون تايلور جاتو John Taylor Gatto إلى أنه على الرغم من أن الأولاد في الولايات المتحدة الأمريكية يتعرضون لما معدلة 12 ألف ساعة من التعليم الأكاديمي الإجباري، إلّا أنّ العديد منهم يترك المدرسة في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر، وهو لا يستطيع قراءة كتاب أو حساب متوسط الضرب، ناهيك عن إصلاح حنفية أو تحويل الأثاث والانتقال إلى شقة اخرى.
ليست المدارس وحدها هي التي تضع الضغوط على الطفل لكي ينمو بشكل سريع جدا، فممارسة هذه الضغوط من اجل الإسراع في الوصول إلى سن الرشد عملية تحظى بقبول واسع، وهي راسخة بشكل كامل، بحيث صار الناس لا يعيرون لك أيّ اهتمام عندما تعبر عن قلقك عن هذا الأمر. خذ مثلا عدد الآباء الذين يربطون أبنائهم بنشاطات غير مدرسية بعد انتهاء الدوام المدرسي اليومي. فمن الناحية الظاهرية تبدو فرص "النمو" الواسعة من خلال الموسيقى والرياضة، وكأنهما الجواب الأمثل للسأم الذي يواجهه الملايين من الأولاد الذين يحملون مفاتيح منزلهم Latchkey Children وينتظرون أهلهم في البيت لوحدهم ومن دون رعاية. ولكن الحقيقة ليست دائما جميلة. ويقول توم Tom الذي له عدد من المعارف والأصدقاء في احد أحياء مدينة بالتيمور في ولاية ماريلاند الأمريكية:
يكون الأمر مختلفا تماما عندما يقوم الولد باختيار هواية له بصورة فردية، كالرياضة أو العزف على آلة موسيقية تتناسب ورغباته، ولكن الأمر يختلف عندما تكون القوة الدافعة لذلك هو احد الوالدين وبصورة تنافسية مفرطة. وفي إحدى العائلات التي اعرفها – سأدعوها عائلة جون John – ظهر لدى ابنتهم سارة Sarah موهبة بارعة في العزف على البيانو في الصف الثاني، وعندما أصبحت سارة في الصف السادس، لم تكن قادرة على لمس أي مفتاح من مفاتيح البيانو مهما بذل الأهل من جهد لإقناعها. لقد كانت متعبة من تركيز الانتباه عليها، ولم تعد تحتمل المزيد من الدروس الموسيقية (ورغم أن والدها كان يذكّرها دائما بضرورة تثمين هذه الدروس). كانت تشعر ساره في الواقع بالعذاب نتيجة محاولات دفعها إلى مسابقة بعد أخرى. نعم لقد كانت تعزف موسيقى باخ بصورة جميلة في السابعة من عمرها، ولكنها أصبحت تهتم بأشياء أخرى في العاشرة من عمرها.
في هذه الحالة التي ذكرت سابقا، وفي العديد من الحالات الأخرى، كان هذا النمط يبدو مألوفا جدا: توقعات طموحة يتبعها ضغط من اجل تحقيق هذه التوقعات. وما كان يوما يبدو شيئا سعيدا في حياة الطفل، أصبح حملا ثقيلا يستحيل احتماله.
كتب العالم اينشتاين مرة يقول: "إذا أردت أن يكون لديك أولاد أذكياء، اِقرأ لهم القصص والحكايات، وإذا أردت منهم أن يكونوا أكثر ذكاء، اِقرأ لهم المزيد من القصص والحكايات". من الواضح أنّ أطروفة كهذه لا تكون الجواب الذي يمكن أن يعطيه إنسان خبير اجتماعي لمعالجة الاتجاهات غير المشجعة المذكورة أعلاه. ولكني ما زلت اعتقد أنها فكرة تستحق التفكير بها مليا. إنها فعلاً حكمة من النوع الخلّاق والتي بدونها لا يمكن أن نخرج أنفسنا من الحفر التي علقنا بها حاليا.
وبخصوص أمنية الآباء أن يكون أولادهم متألقين وفي الطليعة في كل الأمور، فذلك بالتأكيد علامة أخرى لرؤيتنا المشوهة للأمور - فهي انعكاس لتفكيرنا الذي نريد به أن ننظر إلى الأولاد على أنهم أشخاصاً بالغين صغاراً، مهما بلغ الاعتراض على مثل هذه النظرة المجحفة. وأنّ أفضل علاج لذلك، هو أن نتخلى عن جميع آمال الكبار تخلياً كاملاً، وأن ننزل عند مستوى أولادنا، وأن ننظر إليهم وإلى عيونهم مباشرة نظرة محبة. ففي هذه الحالة فقط سيتسنى لنا سماع ما يقولونه، ومعرفة أفكارهم، والتعرّف على رأيهم بالأهداف التي رسمناها لهم. وفي هذه الحالة فقط سنتمكن من أن نضع جانبا طموحاتنا وان نتعلم كما تقول الشاعرة جين تايسون كليمنت Jane Tyson Clement:
أيها الطفل العزيز، بالرغم من أنه ينبغي عليّ تعليمك الكثير،
ولكن ما الدنيا،
سوى أننا جميعنا
يُفترض بنا أن نكون فيها كالأطفال
لأب واحد، أبونا السماوي،
وما عليّ إلَّا أن أنسى ما تعلمته
عن نظام الكبار
وأنسى السنوات المرهقة التي أثقلتني
فأنتَ يجب أن تعلمني
أن أنظر إلى الأرض والسماء
كما تراها أنت بدهشة جديدة.
إنّ نسيان عقلية الكبار التي عندنا ليس بالأمر السهل أبدا، خاصة في نهاية يوم عمل طويل، عندما يبدو الأطفال أحيانا مصدر اِزعاج أكثر من كونهم هبة إلهية. فعندما يكون الأطفال حولنا، لا تسير الأمور دائما حسب المرام. فقد تتعرض الأثاث للخدش، أو تُداس الزهور، أو تُمزق الملابس الجديدة أو تُلوّث بالوحل أو تضيع الألعاب أو تنكسر. لأن الأولاد يريدون التعامل مع الأشياء واللعب بها مثلما يشاؤون، وأيضاً المرح والركض في الممرات؛ فهم بحاجة إلى حيز ومجال ليقوموا بأعمال صبيانية وشقيّة وضوضائية. وإجمالاً فهم ليسوا كالدمى الصينية الصغيرة الوديعة ولا هم أطفال راشدون في غاية الأدب والاحترام، بل عفاريت لا يمكن التنبؤ بما سيفعلونه بأيادٍ دَبِقة، وأنوف تسيل، وأحياناً بكاء في الليل، ولكن مع ذلك، لو أحببناهم حقاً، لوجب علينا الترحيب بهم كما هم عليه وعلى طبيعتهم.