«ليس من السهل تعديل الاعوجاج في جذع شجرة البلوط الذي كان ينمو عندما كانت شجيرة.»
باستطاعة أطفال القرن الحادي والعشرين الإبحار في عوالم بعيدة بواسطة وحدات تحكم ألعاب الفيديو، لكنهم من ناحية أخرى غير مسلحين بفهم واستيعاب العالم الحقيقي خارج نافذة غرفتهم. فتصطادهم الخيارات الكثيرة لوسائل اللهو والترفيه المثيرة والآسرة فور توجيه أبصارهم نحوها.
ونعلم كوالدين وكمعلمين بأن استعمال التقنيات الحديثة زيادة عن اللزوم لها نتائج سيئة على الأولاد. وكلنا قد سمع بقصص مروعة عن الاعتداء الإلكتروني، والمواقع الإباحية المتاحة، والنصابين الجنسيين على الإنترنت. وباستطاعة الوالدين القيام بوضع ضوابط على ما يشاهده أولادهم وتقليل وقت حصولهم على الإنترنت، لكن، ماذا عن التقنيات عندما تصبح هي بحد ذاتها مضرّة للطفولة؟
وفي المملكة المتحدة، يلفت انتباهنا محرر قسم التربية في صحيفة ديلي تلغراف البريطانية كرايم باتون Graeme Paton إلى ظاهرة تنذر بالخطر، فيقول:
هناك أرقام متزايدة لأطفال تنقصهم مهارة تحريك الذراعين والأصابع اللازمة للّعب بالمكعبات وذلك بسبب «إدمان» الأولاد على استعمال حاسبات تابلت (الأجهزة اللوحية) والهواتف الذكية، وفقا لما يفيد به المعلمون.
ويتمكن العديد من الأطفال الذين لا تتراوح أعمارهم سوى ثلاثة أو أربعة سنوات من «ضرب» الشاشة بأصابعهم لتقليب الصفحات، لكن ليس لديهم سوى القليل بل حتى انعدام وجود المهارة في استعمال أصابعهم بعد قضاء ساعات متسمرين أمام الجهاز اللوحي الإلكتروني....
وحذر أيضا أعضاء من رابطة المعلمين والمحاضرين من أن بعض الأطفال الأكبر سنا غير قادرين على إكمال امتحان تقليدي باستعمال ورقة وقلم وذلك لأن ذاكرتهم قد تآكلت بفعل التعرض المفرط لشاشات الأجهزة الإلكترونية. فدعوا الآباء لاتخاذ إجراءات صارمة على استخدام الكومبيوتر اللوحي وأيضا إيقاف شبكة واي فاي للإنترنت ليلا وذلك للفت انتباههم إلى حجم هذه المشكلة.
لقد سألتُ التربوية روندا كيليسبي Rhonda Gillespie المتخصصة في تعليم أطفال الحضانة والأطفال الحديثي المشي التي عملت في حقل تعليم مرحلة الطفولة المبكرة على مدى عقود، سألتها عن رأيها في موضوع الأطفال والأجهزة الإلكترونية، فأخبرتني بقصتها عما رأته شخصيا كما يلي:
لقد رأيتُ أثرًا مُدمِّرًا على الأطفال على مدى السنوات العشرين الماضية. لأن الأجهزة الإلكترونية تهاجم الأساس الضروري للتنمية التربوية السليمة.
وعندما كنت طفلة، كان الحيّ الذي نسكنه آمنا ولعبت مع أصدقائي خارج الدار كل يوم. وكنا نستعمل الإبداع والخيال، وتعزيز مهاراتنا لحل المشاكل وتمتعت أجسامنا بالصحة الجيدة. أما الزمن الذي صار ابني يشبّ فيه، فنادرا ما كنت أرى أطفال الحيّ يلعبون خارج الدار. فتغير الاتجاه، وصار يُنظر إلى الهواء الطلق خارج الدار بأنه غير آمن.
واضطررت في ذلك الوقت إلى العودة إلى العمل بدوام كامل، مما يعني دوام نهاري طويل وبالتالي أوقات مسائية قصيرة للعب في الهواء الطلق خارج الدار والاستمتاع مع ابني. وأكبر غلطة قمت بها كانت شراء أول جهاز كومبيوتر لألعاب الفيديو له. فقمتُ في البداية بوضع قواعد لاستعماله وبتحديد وقت اللعب، ولكن مع تقدم الوقت، زادت ساعات استعمال لوحة أزرار التحكّم باللعبة.
بدا الأمر لي في البداية وكأن فيه فوائد كثيرة: فصار لابني اتصالات عديدة عبر الإنترنت مع أولاد من جميع أنحاء العالم، وبإمكانه التآلف مع أبناء جيله حتى لو حصل اتصالهم بالإنترنت عن طريق المصادفة. وأصبح لاعبا جيدا في بعض الألعاب الإلكترونية وزادت ثقته في النفس. وكنت اعتقد دائما بأنه سيأتي يوم يجد فيه أصدقاء يلعب معهم في الحيّ، لأنه كان يلاقي دائما صعوبة في الاندماج الاجتماعي، أما شركات ألعاب الفيديو فغالبا ما يروّجون منتجاتهم بأنها بمثابة مدّ جسور لبناء العلاقات. إلا أنني أشعر الآن بأنه حُرِم من فرصة تنمية القابلية لديه في إقامة علاقات سليمة.
وعمر ابني الآن سبعة عشر عاما. وله القابلية على إرسال رسائل ومحادثات نصيّة طوال اليوم، أما عندما يكون مع الناس فلا يعرف ماذا يقول أو كيف يبدأ بالمحادثة. ويقول بأنه يرتاح عند التحدث إلى الناس على الكومبيوتر ويفضله على التحدث المباشر مع الناس تحاشيا للمواقف المهددة أو المخيفة. غير أن الجانب الآخر من الموضوع هو أنه لم يتعلم كيفية التعامل مع تلك اللحظات المحرجة في الطفولة التي تشكل فرصا للنمو وللحصول على الخبرات. فلو لم يكن لديه خيار «أصدقاء» الإنترنت، فهل كان سيتعلم مهارات اجتماعية أفضل؟
إنّ أحد الأجزاء المهمة لمرحلة الطفولة هو تعلّم حل المشاكل، وصياغة أساليب ذاتية للتعامل مع المواقف المتنوعة وحلولا لقضايا الحياة اليومية. فبالرغم من أن الحياة أصبحت أسهل بفضل التكنولوجيا، إلا أنها عملت أيضا على جعل الأولاد يجهلون متطلبات عملية النجاح، وهي: العمل الجاد والدؤوب والصبر. لقد خلقنا جيلا يتوقع الحصول على كل شيء بشكل فوري ومن دون جهود. فأذكر على سبيل المثال عندما كنتُ في المدرسة، كنت أقضي عدة أشهر في كتابة تقارير ورقية عن بحوث معينة، مع العديد من الرحلات إلى المكتبة، وقضاء ساعات للدراسة وجمع البيانات بعد التحقق منها. أما الآن فباستطاعة ابني عمل التقرير نفسه في غضون ساعات قليلة، على جهاز الكومبيوتر، دون عنصر التحقّق أو الإثبات.
ثم إنّ سهولة منال شاشات الأجهزة الإلكترونية سبّبت انخفاضا كبيرا في خاصية المرونة لدى الأولاد وفي سرعة استجابتهم للمتغيرات، وأضعفت حرية الإرادة، وقلّلت الرغبة في العمل الشاق، وعملت على تلاشي مشاعر الافتخار بإنجاز أو إتمام مهمة ما. أما الاندماج الاجتماعي لدى الأولاد فهو آخذ في الانقراض.
جميعنا يعلم بمقدار الضرر الذي يصيب الصحة البدنية كلما زادت مشاهدة الشاشات والجلوس أمامها، لاسيما البصر والسمع والوزن. غير أننا يجب أن نفكر أيضا بالضرر الذي يصيب روح الطفل. فالكثير من الأطفال فقدوا القدرة على التواصل مع إنسان حيّ أمامهم لأن الأمر يتطلب منهم استجابة لفظية فيها تفكير ومشاعر وأخذ وردّ. وتتزايد أعداد الأطفال الذين يصلون مدارس التمهيدي من الذين يعانون من صعوبات في الكلام؛ وبعضهم لا يتكلم إطلاقا. ولما كانت هذه الحالة يمكن تشخيصها ضمن اضطرابات مرض التوحُّد، فكم من الأطفال جرى تصنيفهم على أنهم مصابين بهذا المرض عندما لم يكن لديهم ببساطة فرصة للتعلم على الاندماج البشري!
وفي برنامج كسر الدائرة Breaking The Cycle الذي أقيمه في مجالس المدارس لترويج المسامحة والغفران بين الطلاب، أتكلم أحيانا مع بعض الطلاب في عمر المراهقة وأرى بأنهم لا يعرفون حتى من هم يكونون – أي بمعنى ما هو حقيقي عن أنفسهم وما هو وهمي. فقد أمضوا سنوات نشأتهم متقمصين مختلف «الشخصيات الشهيرة» أو يستعملون «أيقونات» لشخصيات جبارة وهمية لتمثيلهم عند المحادثات عبر الإنترنت وكعلامة مميزة لهم – تلك الأيقونات التي تمثل مختلف العوالم الخيالية الوهمية – ولو تمكنوا من جعل هؤلاء الأبطال الصوريين الوهميين أكثر بريقا وجرأة مما يأمله أي إنسان عادي، لوجب علينا أن لا نتفاجأ بالنتيجة من أنهم سوف يكرهون أنفسهم عندما يقارنون أنفسهم مع هؤلاء الأبطال الوهميين ويصطدمون بواقعهم الحقيقي. وهذا يؤدي إلى اليأس والاكتئاب، وفي حالات كثيرة جدا، إلى الانتحار.
إنّ خطورة الإدمان على ألعاب الفيديو، وفي العديد من المستويات، هي كخطورة تعاطي المخدرات أو الكحول. ويمكن لها أن ترغم الأطفال وتدخلهم في عوالم مظلمة شريرة بشكل غير مسبوق، مع صعوبة الخروج منها. فلا غرابة من العدد الكبير لحالات إطلاق النار في المدارس التي ينفذها أشخاص شغوفون بألعاب الفيديو. ويبدو أنهم غير قادرين على التفريق بين ألعاب الفيديو العنيفة والدموية وبين النتائج المترتبة عن جرائم القتل في العالم الحقيقي، وغير قادرين على الشعور بالأسف على أفعالهم أو التعاطف مع ضحاياهم. فمن جهة ترانا غالبا ما نُصدم عند سماعنا لخبر عن التجنيد القسري للأطفال في جيوش دول العالم الثالث. غير أنه قد يصعب علينا رؤية ميليشيات الشباب وهم ينشئون في عقر دارنا، متأثرين بالوحشية الدموية نفسها التي عند الأطفال في جيوش دول العالم الثالث البعيدين عنا كل البعد.
ونرى الآن الجيل الأول من لاعبي الفيديو بلغوا سن الرشد وخرجوا من مرحلة التربية، ولم يتغلب الكثير منهم على إدمانهم على ألعاب الفيديو. فبمجرد وصول الآباء البيت من العمل يختفون في عالم الخيال العنيف ليلعبوا تلك الألعاب. لأنهم عندما كانوا في مرحلة البلوغ وقعوا في فخ هذه الألعاب؛ ويقضون ساعات في عالم مشابه لعالمنا تماما لكنه وهمي ويسرق ويضيّع منهم الوقت الذي من المفروض أن يقضوه على التواصل مع واقع أطفالهم – مثل لعبة المطاردة بالركض أو رمي الكرة ومسكها أو قراءة قصة قبل النوم.
إنّ التكنولوجيا الإلكترونية تؤثر على الناس من جميع الأعمار، والسبب بكل بساطة هو أنها تحوّل اهتماماتنا ومراعاتنا للآخرين من مشاعر إنسانية إلى مشاعر آلية جامدة مثل المكائن. وتخرب بالأخص الأطفال الصغار، الذين اعتادوا على الاعتماد على الكبار المقربين منهم للاسترشاد بهم ولاتخاذهم كقدوة لهم في حياتهم. ويتطرق التربوي كيم جون بين Kim John Payne إلى هذه النقطة في كتابه الذي يحمل عنوان Simplicity Parenting أي بمعنى (بساطة الدور التربوي للوالدين) فيقول:
إنّ عالم الحواسيب الراحل ورائد علم الذكاء الاصطناعي الأستاذ الجامعي الأمريكي في معهد ماساتشوست للتكنولوجيا جوزيف فايسنباوم Joseph Weizenbaum أخذ يتساءل عن مدى ملاءمة تكنولوجيا الحاسوب للأطفال الصغار. وصار يتساءل مشككا عما إذا كنا فعلا نريد تعريض أطفالنا الصغار إلى عقول اصطناعية بدون قيم إنسانية ليس فيها منطق سليم أيضا. فكان جوزيف يؤمن بوجود صفات بشرية فائقة مثل الاندماج والاستجابة والتفاعل لا يمكن أبدا أن تنسخها المكائن والأجهزة؛ والمثال الذي ضربه على ذلك كان كالآتي: «تلاقي عيون الأب والأم بعدما يلقيان نظرة إلى طفلهما النائم في سريره.»
وعند استعمال الطفل الصغير وبعمر مبكر للشاشات ثنائية الأبعاد لأجهزة الكومبيوتر، ألا يتضارب ذلك فعليا مع أنظمة التعلُّم المعقدة للطفل الصغير، تلك الأنظمة الخاصة بالعلاقات والاستكشاف الحسي والمشاعر؟ فلا أؤمن بأن أجهزة الكومبيوتر يجب أن تكون جزءا من الحياة اليومية للطفل الصغير. أما لو تعلم الأطفال منذ نعومة أظفارهم استعمال جوجل Google أولا وطرح الأسئلة ثانيا (أو حتى عدم طرحها بالمرة)، فما مقدار حب الاستطلاع الذي سيتولّد في داخلهم؟ وماذا عن سرعة تفكيرهم، وعن إبداعهم؟ وما مدى إصرارهم على البحث عن أجوبة لتساؤلاتهم؟
من الملفت للنظر، أننا نادرا ما نجد منزلا من دون تلفزيون أو كومبيوتر، حتى لدى أفقر العائلات. وربما لا يكون هناك ما يكفي من الغذاء في الخزائن، ولكن يُعتبر التلفزيون إلزامي. وعلى الرغم من أن الأهالي الكادحين قد يعللون سبب حيازتهم للتلفزيون أو للكومبيوتر بأنهم لا يملكون الإمكانية المالية لتشغيل مربية بيتية لأطفالهم للإشراف عليهم عند غيابهم عن البيت، ثم يقولون إنّ أطفالهم، بمشاهدتهم للتلفزيون وللكومبيوتر داخل البيت، سيكونون على الأقل في مأمن من كل خطر خارجي. غير أننا علينا أن نتساءل، أي خطر هذا هم في مأمن منه؟ فالكثير مما يتلقوه من التلفزيون أو الكومبيوتر يمكن له تسميم روح الطفل.
ولا توجد وسيلة سهلة لتخفيف العبء الذي تضعه التكنولوجيا على الأطفال. ولو أحببناهم فعلا فلا يمكننا الوقوع في فخ الاستسلام لمجرد أننا لا نعرف من أين نبدأ. ومن إحدى الطرق لاتخاذ الإجراءات إعطاء الأطفال المزيد من «المساحة البيضاء.» فالمساحة البيضاء في أي كتاب هي الفراغ بين السطور المطبوعة، وفي الهوامش، والفسحة الإضافية في بداية كل فصل. وهي تسمح للكلمات بأن «تتنفس،» وتعطي العين مكانا للراحة. وعند قراءة كتاب فلا ينتبه القارئ إلى هذه المساحات البيضاء بالرغم من وجودها، لكن لو اختفت فسوف يلاحظها مباشرة. وهي المفتاح للتصميم الجيد للصفحة.
ومثلما يتطلب الكتاب مساحات بيضاء، فهكذا الأطفال يحتاجون أيضا إلى مساحات من الفراغ من اجل النمو، في مجال محمي من هجمات عصر المعلومات. والمسألة لا تحتاج إلى دهاء لرؤية الآثار المترتبة على عدم وجود المساحة البيضاء. فعندما يجري إغراق الأطفال بوسائل الترفيه، والأشياء المادية، والضغوط الدراسية النظرية، في ظل حياة أسرية غير مستقرة باستمرار، فتشبه المسألة كما لو أن قوة بطاريات مصابيحهم تنضب. فيبهت ضياؤهم تدريجيا، وهم أنفسهم لا يعلمون سبب ذلك. فبطبيعة الحال، لو حرمناهم من الوقت، والمجال، والمرونة اللازمة لنموهم بالسرعة المناسبة التي تلائمهم، لما كان في وسعهم إعادة شحن بطارياتهم.
ويذكرنا الفيلسوف الصيني العريق لاوتسو Lao–Tzu بما يلي: «ليس طين الخزف هو الذي يعطي الجرّة الفائدة المرجوة منها بل حيز الفراغ الموجود في داخلها.» أي بمعنى كلما كبر حيز الفراغ داخل الجرّة زادت فائدتها. وهكذا الأمر مع التربية؛ فلو شبّهنا التحفيز والإرشاد بطين الخزف، فيمكننا إذن تشبيه الوقت الذي يحتاجه الطفل ليكون بمفرده بدون استرشاد هو الفراغ المفيد داخل الجرّة. فالساعات التي يقضيها الطفل مع نفسه في أحلام اليقظة أو فترات الهدوء، والأنشطة غير المبرمجة – ويفضل أن تكون في الهواء الطلق في الطبيعة – تغرس في نفسه الشعور بالأمان والسكينة والاستقلال، وتمنحه الهدوء النفسي اللازم لمواجهة إيقاع الحياة في كل يوم. إذ يزهو الأطفال بالهدوء. فإذا لم يكن هناك ما يلهي الأطفال عن فعاليتهم الرئيسية، فنراهم ينغمسون كليّا بما يفعلونه، غير واعيين تماما بكل ما يحيط بهم. وللأسف، أصبح الهدوء من الكماليات بحيث نادرا ما تتوفر لهم مثل هذه الفرصة للتركيز بدون إزعاج.
فكيف يمكننا، نحن كآباء ومقدمي الرعاية، أن نجد طرقا مبتكرة لإعطاء الأطفال المزيد من الهدوء والمجال؟ هناك بعض المدارس التي يقف فيها بعض المعلمين على باب غرفة الصف مع حقيبة، لنزع جميع الهواتف والحواسيب اللوحية طيلة مدة الدرس لمساعدة الطلاب على التركيز على الدراسة. وهناك أيضا مدارس أخرى ترسل رسائل لأولياء أمور الطلاب تطلب منهم تحديد وقت أقل للترفيه لأولادهم بعد ساعات الدوام المدرسي. ويوعزون طلبهم هذا إلى أن الطلاب سيكمّلون على الأرجح واجباتهم المدرسية وسينامون جيدا. كما يوضحون أنه كلما قلّ تلقيمهم بالعنف من التلفزيون أو ألعاب الفيديو أو الإنترنت قلّ على أثره العراك والتجادل والبلطجة في المدرسة.
وأعرف آخرين تفاوضوا مع إدارة المدرسة لإزالة التكنولوجيا من الفصول الدراسية – وهي معركة شاقة الآن لاسيما أن أجهزة الكومبيوتر صار يُنظر إليها بأنها لا يمكن الاستغناء عنها. وأعتقد أن هؤلاء المعلمين لديهم حجة سديدة: لأن الأولاد يقضون ساعات طويلة في البيت مُسَمّرين أمام هذه الشاشة أو تلك، فلو قامت المدرسة بعمل الشيء نفسه والسماح لهم بالجلوس أمام الكومبيوتر أثناء النهار في المدرسة أيضا، فهل سيفيد ذلك تعليم الأولاد أو صحتهم البدنية؟ وإذا كانت النتيجة أن يصير الولد مضطرب داخليا ولا يهدأ، وذا سلوك عدواني، وعديم التركيز، فهل سترتقي المدرسة بأهدافها التربوية من خلال كل ذلك؟
في مدينة لوس ألتوس Los Altos في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، يداوم أولاد المدراء التنفيذيين لكبريات شركات التكنولوجيا المتخصصة في مجال الحاسوب مثل شركة جوجل Google، وشركة أبل Apple، وشركة هوليت–باكارد Hewlett–Packard الأمريكية، يداومون كلهم في مدرسة تربوية نموذجية خالية من الحواسيب تسمى مدرسة فالدورف Waldorf School وهي مدرسة قائمة على الفلسفة التربوية لمؤسسها النمساوي رودلف شتاينر Rudolf Steiner. وهو مؤسس علم طبائع البشر Anthroposophy. ويلقى أسلوب تعليمه اليوم قبولا واسعا في عدد من دول العالم لاسيما أوروبا والولايات الأمريكية المتحدة، وتوجد مدرسة فالدورف في مصر أيضا. ويشدد نهجه التربوي على دور الخيال في التعلّم، ويسعى إلى الدمج الكلي للتنمية الفكرية والعلمية والفنية للتلاميذ، ولا يقتصر على المواد العلمية وإنما على المواد العملية والفنية التي يزاول فيها التلاميذ مهارات جديدة ويتعلمون الموسيقى والرسم والرقص. ومن أهداف هذا النهج هو إيقاظ جوانب النشاط البدني والسلوك والمشاعر الإنسانية والنظام الفكري والمعرفي للذهن والجانب الاجتماعي والروحي في داخل كل تلميذ. أي بكلمة أخرى تنمية جميع أبعاد الطفل ومكونات كيانه. فتكتب صحيفة نيويورك تايمز تقريرها عن تلك المدرسة كما يلي:
تشمل الأدوات التعليمية الرئيسة لهذه المدرسة كل شيء ما عدا الأجهزة الإلكترونية، فنجد فيها أدوات تعليمية لأعمال يدوية مثل: أقلام وورق وصنارات حياكة وفي بعض الأحيان طين لصنع الفخار. فلا يمكن إيجاد أي كومبيوتر هناك. ولا شاشات على الإطلاق. فهي غير مسموح بها في الصفوف، حتى أن المدرسة تستقبح استعمالها في البيوت.
لقد هرعت بقية المدارس في أرجاء البلاد بتجهيز صفوفها بأجهزة الكومبيوتر، والكثير من صناع القرارات يثنون على هذه الخطوة وعلى هذا التوجه الإلكتروني ويقولون أنه من الحماقة فعل خلاف ذلك. إلا أن الرأي المعاكس لهذا يمكن إيجاده عند بؤرة الاقتصاد التكنولوجي الإلكتروني، حيث نرى أن بعض الأهالي والتربويين في مدينة لوس ألتوس لديهم رسالة مفادها: أنه لا يمكن الخلط بين الكومبيوترات والمدارس…
والمعلمة كاثي وحيد Cathy Waheed التي كانت سابقا مهندسة حاسبات، تحاول أن تجعل من التعليم أمرا شيّقا للتلاميذ وأيضا ملموسا ومليئا بالمشاعر والأحاسيس إلى حد كبير. وكان الدرس الذي قدمته للتلاميذ في العام الماضي يدور حول الكسور وذلك بجعل الأطفال يجزئون الطعام إلى أجزاء – مثل تفاح وتورتيلا مكسيكية وكعك كاتو أو تورتة – أي بمعنى إلى أرباع أو أنصاف أو أسداس. وقالت: «تناولنا جميع وجباتنا ولمدة ثلاثة أسابيع وذلك عن طريق تجزئة الطعام.» ثم أضافت قائلة: «وعندما أحضرتُ لهم قطعا كافية من الكعك لإطعام كل فرد فيهم ويستمتعوا بتناوله، فماذا تعتقدون، هل سأفوز بعد ذلك بانتباههم لي عندما أشرح الدروس لهم؟» …
ويقول المعلم السابق والأستاذ الجامعي في التربية في جامعة فرمان Furman University بولس توماس Paul Thomas ما يلي: «إنّ التعليم تجربة إنسانية. أما التكنولوجيا فتصرف انتباهنا عما نحتاجه من قراءة وكتابة وحساب وتفكير ناقد.»....
وفي الوقت الذي يقول المدافعون عن تكديس الصفوف بالأجهزة الإلكترونية إنّ الأطفال يحتاجون إلى وقت للكومبيوتر ليتنافسوا في العالم العصري، نرى أن أهالي تلاميذ فالدورف يناقضونهم ويقولون: لماذا الاستعجال بتعليم الأطفال الصغار كل هذا، مادام تعلُّم مهارات الكومبيوتر سهلا ويقدرون على أن يتعلموه بسرعة عندما يكبرون؟
فنرى هنا في مدرسة فالدورف أن الأشخاص التنفيذيين لكبريات شركات التكنولوجيا في العالم يفضلون حماية أولادهم الصغار من أجهزة الكومبيوترات، فكم بالحَري بقية الأهالي والمعلمين، فيلزمهم أن يستمعوا إلى ذلك. غير أنه حتى لو لم ترغب المدارس في رمي تقنياتها الإلكترونية المبجلة إلى النفايات، فهناك نشاطات في الطبيعة يمكن أن تفعل المعجزات لإرساء الثقة بالنفس لدى الطفل. وفي بعض الأحيان، فإنّ كل ما يحتاجه الأطفال هو فرصة ليتعرّفوا بأنفسهم على أن العالم الحقيقي فيه إثارة أكثر من العالم الافتراضي. وتحكي لنا لوري رانكين Laurie Rankin، التي تعمل ضمن برنامج المؤسسة الخيرية الدولية لتوجيه الأطفال التي تحمل اسم Big Brothers Big Sisters (أي بمعنى إخوة كبار وأخوات كبيرات)، هذه القصة فتقول:
كنت أقود مرة مجموعة من الأولاد في نزهة طويلة سيرا على الأقدام في منطقة كاتسكيلس Catskills الجبلية في ولاية نيويورك – وكنا محظوظين بطقس رائع وبإقبال جيد. وأتذكر بالأخص الصبي لانس Lance، بعمر 13، الذي وصل والسماعات على أذنيه، وهو يسمع موسيقى صاخبة، وأبلغني بطريقة شرسة قائلا: «لا أريد أن أكون هنا.» فقلت له: «شكرا لانضمامك إلينا!» أما شقيقته الصغرى جيس Jess، بعمر 11، فكانت هادئة لا تتكلم وخجولة. وعندما مررنا بصخور كبيرة بمحاذاة ممر الغابة، اقترحتُ عليها فكرة الاستمتاع بالقيام بمحاولة تسلق تلك الصخور لو رغبت في ذلك. إلا أنها أجابت بخجل: «لا، لا أستطيع أن أفعل ذلك،» لكني واصلت تشجيعها على القيام بالمحاولة، وتسلقتْ أخيرا بحذر كبير وبمساعدتي إلى أعلى صخرة من تلك الصخور. وكانت على وشك أن تقف بطولها، لكنها خافت بعد ذلك، ونزلت بسرعة إلى الأسفل، وعلى وجهها ابتسامة عريضة.
ولاحظتُ أخاها لانس كان يراقب ما يجري. وتوقفنا عند الصخرة التالية، وفي هذه المرة تسلقت جيس من تلقاء نفسها إلى الأعلى ورفعت ذراعيها إلى الأعلى كعلامة الانتصار. وأنزل لانس السماعات إلى عنقه، واقترح على أخته توخي الحذر. ولما وصلنا إلى كومة أخرى من الصخور الكبيرة تسلق هذه المرة لانس مع أخته، وصار يقترح عليها مسك الأيادي واختيار مواقع لمواضع القدم ومن ثم الاحتفال معا بالانتصار عند القمة.
إنّ رؤية هذا الفريق من الأخوة يفوز بالثقة بالنفس في ذلك اليوم إنما هو شيء رائع حقا. فالتوترات التي قد تصادفهما من جراء شدائد ومآزق أخرى في حياتهما – مثل قراءة مقطع معين بصوت عالٍ في الصف، أو التحدّث مع أحد البالغين حول اقتراف إساءة معينة – ستخف وطأتها عليهما لأنهما قهرا بضعة صخور.
وفي رحلة العام التالي، كان لانس أول من خرج من السيارة. فلم يكن هناك أي أثر للسماعات. وكان متحمسا جدا ليريني ما كان عنده في حقيبته مثل بعض القفازات ليرتديها الأطفال عند تسلق الصخور وحبل لمساعدتهم لو كانوا خائفين. فقد تحوّل صبي العام الماضي إلى شاب وقائد للمجموعة.
لا يعيش جميعنا بقرب الغابات وجداول المياه مثلما قد يتمنى بعضنا، لكن المعلمين المبدعين يمكن لهم أن يفعلوا الكثير من القليل. ويتذكر صديقي دانا وايزر Dana Wiser كيف وجدت معلمة ابنته وسيلة لإعطاء تلاميذها المساحة البيضاء والمجال الحرّ خلال النهار فيقول:
عندما كانت ابنتي ماري Mary في الصف الأول، كانت محظوظة بسبب حكمة معلمتها في التعامل مع الأطفال ومع عالم الطبيعة. وشجعتْ كل طفل لتبنّي شجرة من مجموعة الأشجار الموجودة حول ملعب الأطفال. وكانت الشجرة المحبوبة لماري شجرة الجميز، فكانت قوية وعالية، وذات جذع متين بحيث كان باستطاعة ماري الاختباء وراءها. فدرس كل طفل شجرته التي تبناها، متتبعا شكل أوراقها وقشرها اللحائي. أما وقت الهدوء الذي قضوه مع أشجارهم فكان رائعا بشكل استثنائي، فلو حصل أمر في المدرسة وعكّر نهار ماري، فما كان عليها سوى زيارة شجرتها، مستمدة العزاء من قوة الشجرة والسلوان من ظلها. وصارت تحب طوال حياتها جميع أنواع الأشجار، وخصوصا الجميز؛ وعلاوة على ذلك، هناك شيء من قوة الطبيعة الشافية يحيا في قلبها كهدية من شجرتها المحبوبة.
يمكن للمساحة البيضاء وعالم الطبيعة أن يكونا مصدر شفاء للأطفال المضطربين. إلا أن تأثيرهما يكون أفضل، مثل معظم العلاجات، لو تم التعامل معهما كحل وقائي يؤخذ في الوقت المناسب لتفادي تفاقم الأحوال. فباستطاعتنا استباق الأحداث وصنع تغييرات قبل استفحال الأمور. فهل يمكنكم الاستغناء عن التلفزيون؟ هل تعلمون بوجود آلاف من الأسر في عدد كبير من الدول تستغني عن التلفزيون، وبالتالي قد حصدت نتائج مشجعة؟ وأنا شخصيا، باعتباري قد نشأت بدون تلفزيون، وجدت الأمر هيّنا جدا عندما أبقيه خارج بيتي، ومحافظا على أولادي من الإعلانات التجارية التي يقوم العالم بإعلامهم بها بدون رحمة، بالإضافة إلى الحفاظ عليهم من أمور أخرى، وأيضا من المزيد من الأجهزة الإلكترونية المتقدمة التي يحاول المجتمع إقناعهم بأنه «لابد من الحصول عليها.»
فلو فضّلت عدة عائلات متجاورة التحرّر من الشاشات، فقد يشكلون حركة عارمة. عندئذ سوف يتيسر للأولاد أن يلعبوا معا، ولن يشعر الكبار كما لو أنهم وحدهم الذين لا يتماشون مع تيار الزمن.
وفي بيتي، كما هو الحال في العديد من البيوت، فإنّ أجهزة الكومبيوتر هي مجرد أدوات للبالغين للقيام بعملهم؛ ولا نلتفت إليها طلبا للترفيه. ولم يتعلم أولادي الطباعة على الآلة الكاتبة إلا في مرحلة الدراسة المتوسطة، عندما كانت بحوثهم الدراسية طويلة جدا بما يكفي لتبرير هذا الجهد. وبإمكان الوالدين دعم البحوث التي يجريها أولادهم، والعمل كفريق واحد للبحث على الإنترنت لو تطلب الأمر، بل حتى الذهاب معا إلى المكتبة لاستعارة وتبادل الكتب. وهذه فرصة ثمينة للفت انتباههم إلى حقيقة ما موجود في شبكة الإنترنت وهي أن كل إنسان له أن يقول ما يريده لكن لا يعني ذلك أنه على حقّ.
أما أخبار العالم فينبغي أن تكون جزءا من تعليم الطفل، لكنها لا تحتاج إلى أن تكون مصحوبة بالصور. فهي صعبة حتى علينا نحن الكبار للتعامل مع الألم والمعاناة التي نراها في الأخبار كل يوم بدون أن تنهكنا أو تقسي قلوبنا، فكيف الحال بالنسبة إلى الصغار إذن؟ فلو خصص البالغون شيئا من الوقت للحصول على معلومات كافية عن الأحداث الجارية أو الاستماع إلى إذاعة الراديو الرسمية، لأمكنهم توصيل بعض الموضوعات الصعبة بطريقة تحترم عمر الطفل ومستوى تفهّمه. وسيفضي هذا الأمر بدوره إلى فرصة لمزيد من النقاش في الأسرة حول معاناة العالم وما يمكن عمله للتخفيف من حدتها.
وبطبيعة الحال، فإنّ النقطة الحاسمة في الموضوع هي وقتنا، أي بمعنى أن المشكلة في عدم إخبار أطفالنا عن معاناة العالم وكيفية تحسينها هي أننا ليس لدينا وقت لقضائه معهم والتحدّث عن هذه المواضيع. ففي جدول حياتنا – نحن الكبار – المكتظ اكتظاظا غير معقول، ترانا لسنا متأكدين من توافر وقت للعمل واللعب مع أولادنا، أو للجلوس والتحدّث معهم عن الأخبار. أما في المدارس، فالوضع مماثل، لأن التزام المعلمين بالمواعيد اللعينة للمناهج المدرسية المقررة تقيّدهم وتمنعهم من حرية القيام بفعاليات إيجابية مناسبة ومفيدة للتلاميذ مثل أخذهم إلى الهواء الطلق خارج الصف ليتآلفوا مع الأشجار، على سبيل المثال.
إلا أننا عندما نفكر في البدائل، فيستحق الأمر خلق الوقت لقضائه معهم، الآن ومن دون تأجيل. فليس لنا سوى هذه السنين القليلة معا. وقد يتأسف مجتمعات البلاد على الظاهرة الواسعة الانتشار لضياع الشباب والمراهقين غير المبالين الذين لا يعرفون معنى الرحمة، لكن عندما لا يقوم أهالي الأطفال والمقربون منهم بإرشاد أرواح الأطفال وحمايتهم، فماذا نتوقع أن تكون النتيجة؟
لقد حان الوقت لنلقي نظرة فاحصة على جميع الأجهزة الذكية في حياتنا التي يدعوها الجميع أجهزة ادّخار الوقت. وعندما نجلس ونرسل رسائل نصية على مقعد بجانب ملعب الأطفال وأطفالنا يلعبون لوحدهم، فوقت مَنْ ندّخر؟ وعندما نرسل بريد إلكتروني آخر، أو نقرأ مقالة أخرى، أو نلعب جولة أخرى من لعبة فيديو بينما يلعب أولادنا من حوالينا بمفردهم، فإننا كما لو نقول لأولادنا بأن هناك شيء آخر أهم منهم. وبإمكاننا التحدّث عن الإدمان التكنولوجي عند الأولاد بقدر ما نشاء، لكن المشكلة تبدأ في البيت عندما نستعمل نحن الكبار أيضا الأجهزة الإلكترونية.
فلنضع هواتفنا الذكية جانبا ولننسجم ولنتناغم مع تلك العجائب الحية التي تتنفس، وهي بانتظارنا لنراها ولننتبه إليها. ولنطفئ القوة الكهربائية، ونأخذ طفلنا بيده، ونريه أن العالم الحقيقي هو مكان رائع حقا.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «اسمهم اليوم»