تأتي قصة «التَّمرُّد» في رواية الإخوة كارامازوف قبل قصة «المفتش الكبير» مباشرة. وهي تشبه القصة السابقة من حيث إنَّ إيفان هو الذي يَقُصُّها على شقيقه الأصغر آليوشا كارامازوف، الذي هو راهب مبتدئ يعيش في دير خارج المدينة.
بدأ إيفان كلامه يقول: «يجب أن أعترف لك بهذا الأمر: فأنا لم أستطِع مطلقا أن أفهم كيف بمقدور المرء أن يحب الناس القريبين منه. إذ إنَّ الناس القريبين منه بالذات هم الذين تصعب محبتهم، بحسب رأيي، رغم أن المرء قد يحب الناس البعيدين عنه. لقد قرأتُ ذات مرة في مكان ما عن القديس يوحنا الرحوم، أنه عندما جاءه شَحَّاذ جائع ومُرتجف من شدة البرد، أضجعه يوحنا على سريره، وأحاطه بذراعيه، وأخذ ينفخ نفخات دافئة في فمه النتن والمُقرف من جراء مرض مريع ما. وأنا مقتنع بأنه فعل ذلك بدافع التعذيب الذاتي، التعذيب الذاتي للكذب، من أجل العمل الخيري الذي يفرضه الواجب، كوسيلة مفروضة عليه للتكفير عن الذنوب. غير أنه من المفروض أن يكون الإنسان المحتاج مخفيًّا عن أيِّ شخص يريد تقديم المحبة له، لأنه حالما يبيِّن وجهه، تتبدد المحبة.»
قال آليوشا: «هذه ملاحظة طالما ردَّدها الأب الشيخ زوسيما. إذ كان يقول إنَّ وجه الإنسان غالبا ما يكون عائقا لتقديم المحبة إليه من قِبَل الكثيرين غير المتمرسين في تقديم خدمات المحبة. ولكن مع ذلك، هناك قدر كبير من المحبة لدى البشرية، تكاد تشبه محبة المسيح. وأنا أحسُّ بذلك شخصيًّا، يا إيفان.»
فقال إيفان: «حسنا، بالنسبة إليَّ، فأنا لا أعرف أيَّ شيء عن تلك المحبة لحد الآن، ولا أستطيع فهمها، وما أكثر الناس الذين يشبهونني من هذه الناحية! والسؤال هو: أيرجع هذا إلى الخصال السيئة للناس أم أنه متأصِّل في طبيعتهم البشرية؟ وإني لأرى أن محبة المسيح للناس معجزة يستحيل تحقيقها على هذه الأرض. لقد كان المسيح الله. أمَّا نحن البشر فلسنا بآلِهَة. ولنفرض مثلا أني أعاني من آلام مبرحة. فليس بمقدور أيِّ شخص آخر معرفة مقدار آلامي على الإطلاق، لأنه شخص آخر وليس أنا. وأضِف إلى ذلك أن الإنسان قلما يكون على استعداد للاعتراف بآلام غيره (كما لو كان ذلك مسألة مُشرِّفة). فما سبب عدم اعتراف الإنسان بآلامي، في اعتقادك؟ — ربما لأن رائحتي كريهة، أو لأن وجهي غبي، أو لأني دست على قدمه مرة في أحد الأيام! على أن الآلام أنواع؛ فهناك آلام مُهينة ومُذِلَّة التي تحطُّ من قَدَري — كالجوع مثلا — وعلى الأرجح سيتصدَّق عليَّ أحد المُحسِنين؛ أمَّا إذا كانت معاناتي أرفع من ذلك، كالمعاناة الناجمة من جراء النضال لأجل فكر معين مثلا، فترى الإنسان الآخر قلما يعترف بها، ربما لأن وجهي يصدمه كونه ليس على الإطلاق الوجه الذي يتخيَّله للشخص الذي يعاني ويناضل في سبيل فكر معين. لذلك يحرمني على الفور من إحسانه، وذلك ليس بسبب شرور القلب أبدًا. فمن المفروض أن لا يظهر الشَّحَّاذون أنفسهم للناس، ولاسيَّما الشَّحَّاذين المؤدبين، بل يطلبون الصدقات من خلال إعلانات الجرائد. فمن الممكن أن يحب الإنسان إخوانه البشر القريبين منه حُبًّا نظريًّا مُجرَّدًا، وأحيانا عن بعد أيضا، أمَّا محبتهم عن قرب فهو أمر شبه مستحيل. غير أن الأمر يختلف لو كان على المسرح، أو في رقص الباليه، حيث يقوم الممثلون بدور الشَّحَّاذين لابسين أسمالا من حرير وقطع ممزقة من القماش، ويطلبون الصدقة راقصين برشاقة، فربما يعجبه المرء النظر إليهم عندئذ. ولكننا مع ذلك يجب أن لا نحبهم.
«ولكن هذا يكفي. فلم أرِدْ سوى أن أريك وجهة نظري. فقد كان في نيَّتي أن أُحدَّثك عن معاناة البشرية بشكل عام، وينبغي أن نقتصر على الحديث عن معاناة الأطفال. فسيقلِّل هذا من حجم حجَّتي في نقاشنا إلى عُشُر ما سيكون عليه. ومع ذلك، ينبغي أن نحصر حديثنا على الأطفال، رغم أنه يُضعِف موقفي. لأنه أولا: إنَّ الأطفال يمكن أن يكونوا محبوبين حتى عن قرب، مهما كانت وساختهم وقباحة منظرهم (رغم أن الأطفال في مخيِّلتي ليسوا قبيحي المنظر أبدًا). وثانيا: السبب الآخر الذي يجعلني لا أود التحدُّث عن الناس الكبار هو أنهم، إلى جانب كونهم مُقَزِّزين ولا يستحقون المحبة، فإنهم تحت العقاب وسوف يتحملون تبعات أعمالهم — لقد أكلوا التفاحة ويعرفون الخير والشرَّ، وقد أصبحوا ‹شبيهين بالآلِهَة.› ولا يزالون يأكلون منها. أمَّا الأطفال فلم يأكلوا شيئا من تلك الثمرة، ولا يزالون أبرياء.
«أتحب الأطفال يا آليوشا؟ إنني أعلم بأنك تحبهم، وستفهم إذن لماذا أحدِّثك عنهم. فلو كان الأطفال يعانون أيضا معاناة فظيعة على هذه الأرض، فإنهم يحصدون حتما تبعات خطايا آبائهم، ويجب أن يُعاقَبوا على ما اقترف آبائهم، الذين أكلوا التفاح؛ إلاَّ أن هذا المنطق هو منطق العالم الآخر، وهو منطق غامض بالنسبة إلى قلب الإنسان على هذه الأرض. فيجب أن لا يعاني الأبرياء لذنوب اقترفها غيرهم، ولاسيَّما أمثال هؤلاء الأبرياء! وقد تتفاجأ مني يا آليوشا، ولكني أنا أيضا أحب الأطفال كثيرا. ولاحظ — أن المتوحشين، والعنيفين، والجشعين، وآل كارامازوف، تراهم في بعض الأحيان يحِبُّون الأطفال كثيرا. فعندما يكون الأطفال صغارا جدا — لغاية سِنِّ السابعة مثلا — فإنهم يختلفون اختلافا كبيرا عن الكبار؛ إنهم مخلوقات مختلفة، كما لو أنها من جنس مختلف. وأنا كنتُ أعرف مجرما في السجن، الذي امتهن السرقة خلال حياته وأصبح لِصًّا، وقام بقتل عائلات بأكملها في المنازل التي تسلل إليها ليلا ليسرقها، بما في ذلك العديد من الأطفال. ولكنه عندما كان في السجن، كانت لديه عاطفة عجيبة نحو الصغار. فأمضى كل وقته عند نافذته، يراقب الأطفال يلعبون في ساحة السجن. وعلَّم طفلا صغيرا على المجيء إلى نافذته، وأقام علاقة صداقة رائعة معه ... ألا تعرف لماذا أخبرك بكل هذا يا آليوشا؟ إنَّ هذه المعاناة تَصْدَعُ رأسي، وأنا حزين جدا عليها.»
قال آليوشا وهو مضطربا: «إنك تتكلم بنغمة غريبة، وكأنك لم تتكلم بأسلوبك المعتاد.»
وتابع إيفان كلامه، وهو غير سامع لملاحظة أخيه على ما يبدو، فقال: «بالمناسبة، التقيتُ بشخص بلغاري في الآونة الأخيرة في موسكو، وأخبرني عن الجرائم التي يرتكبها الأتراك والشركس في كافة أنحاء بلغاريا خوفا من الانتفاضة الشعبية الشاملة للقومية السلافية. فهم يحرقون القرى، ويقتلون الناس، ويعتدون على النساء والأطفال، ويُسَمِّرون سجناءهم من آذانهم بالأسوار، ويتركونهم هناك على هذا الحال طوال الليل، ثم يعودون إليهم في الصباح ليشنقوهم — ويقترفون شتى أنواع الفظائع التي لا يمكن حتى تصوُّرها. ويتحدث الناس في بعض الأحيان عن القسوة الوحشية، ولكن هذا ظلم كبير وإهانة للوحوش؛ إذ لا يمكن للوحش أبدًا أن يكون بهذه القسوة كالإنسان، الذي يتفنن كثيرا في قسوته. فيكتفي النمر بتمزيق فريسته والتهامها، فهذا كل ما يفعله. فهو لا يفكر أبدًا في أن يُسَمِّر الناس من أذنيهم بالأسوار، حتى لو كان قادرا على ذلك. أمَّا هؤلاء الأتراك فأخذوا يتسلَّون حتى بتعذيب الأطفال؛ إنهم ينزعون بالسيف الأطفال قبل ولادتهم من أرحام أمهاتهم، ويقذفون أطفالا رضعا في الهواء ويتلقفونهم بأسنة حرابهم على مرأى من أمهاتهم، اللواتي يُعدُّ حضورهن أهم عنصر من عناصر المتعة. وإليك مشهد آخر أظن أنه حريٌّ بالاهتمام. فتخيَّلْ أُمًّا ترتجف جزعا وهلعا وفي يديها طفل رضيع صغير؛ وحلقة من الأتراك الغزاة يحيطون بها. وقد خططوا للقيام بتسلية لكي يَلْهُوا؛ فأخذوا يلاعبون الطفل، ويضحكون معه لجعله يضحك. ونجحوا في إضحاكه. وفي تلك اللحظة يصوَّب إليه أحد الأتراك مسدسه على بعد أربع بوصات من وجهه. فيضحك الطفل بسرور، وهو يمد يديه الصغيرتين نحو المسدس، فإذا بالتركي يضغط على الزناد ويهشم جمجمة الصبي. فَنٌّ رفيعٌ، أليس كذلك؟ على فكرة، الأتراك مغرمون بشكل خاص بالحلويات، كما يقولون.»
سأل آليوشا: «إلى ماذا تريد أن تنتهي يا أخي؟»
فقال إيفان: «أعتقد أنه إذا كان الشيطان غير موجود، وإذا كان الإنسان قد خلقه، فلا شك أن الإنسان قد خلق الشيطان على صورته هو.»
فسأل آليوشا: «أتقصد كما خلق الإنسان الله، إذن؟»
قال إيفان ضاحكا: «إنك تجيد قلب الألفاظ، كما يقول بولونيوس في مسرحية هاملت،» وتابع إيفان كلامه يقول: «إنك تحوِّل كلماتي ضدي. حسنا، أنا مسرور بذلك. ألا فاعترف مع ذلك أن إِلهَكَ طيِّب إذا كان الإنسان قد خلقه على صورته كمثاله. لقد سألتني الآن ‹إلى أين أريد أن أنتهي؟› كما ترى، إنني مولع بجمع بعض الحقائق، وهل تصدق، فأنا أقوم أيضا بنَسخ قصص من نوع معين، أقتطفها من الجرائد أو من الكتب، وقد جمعتُ بالفعل كمية كبيرة منها. وبطبيعة الحال، يشكِّل الأتراك نسبة من هذه القصص، ولكنهم أجانب. وأنا أملك كذلك وقائع كثيرة عن حالات محلية في روسيا تفوق الوقائع التي قام بها الأتراك. فأنت تعلم بأننا الروس نُفضِّل الضرب — خاصة بالسوط والعصا — وهذا شيء نتميز به. أمَّا تسمير الناس من آذانهم فهو غير وارد عندنا، لأننا أوروبيون، قبل كل شيء. ولكن السياط والعصا معنا دائما، وما من أحد يستطيع أن ينتزعها مِنَّا. ويظهر أن الناس في البلاد الأجنبية قد عدلت عن هذه الأساليب. فإما أن العادات أصبحت أكثر إنسانية، وإما أن القوانين سُنَّتْ بحيث أنهم لا يجرؤون على جلد الناس الآن. ولكنهم يستعيضون عنها بأشياء أخرى، وبأساليب أخرى، ويجعلونها وطنية كأساليبنا الوطنية. وهي وطنية لدرجة كبيرة بحيث أنها يستحيل تطبيقها عمليًّا في بلادنا، رغم أني أعتقد أنه يجري تطعيم أفكارنا بها، منذ أن باشرت الحركة الدينية لدى الطبقة الأرستقراطية من مجتمعنا.
«إنني أملك كتيبا شائقا مترجما عن الفرنسية، يروي قصة إعدام مجرم قاتل في مدينة جنيف، وقعت قبل خمس سنين، والقاتل شاب اسمه ريتشارد في الثالثة والعشرين من عمره، فيما أظن، الذي تاب واهتدى إلى الإيمان المسيحي عند منصة الإعدام. وكان ريتشارد طفلا غير شرعي قام أبواه بتسليمه وهو في السادسة من عمره إلى بعض الرعاة في الجبال السويسرية. فربَّوه الرعاة لكي يعمل لهم. فشبَّ الصبي كحيوان صغير متوحش فيما بينهم. ولم يعلِّمه الرعاة أيَّ شيء، وأرسلوه يحرس القطعان منذ بلغ السنة السابعة من عمره حيث نادرا ما كانوا يُلبِسونه أو يُطعِمونه، في البرد والمطر، وكانوا يعاملونه هذه المعاملة دون تردد ودون أن يشعر ضميرهم بأيِّ عذاب. وعلى عكس ذلك تماما، فقد ظنوا بأنهم لديهم كل الحقِّ لمعاملته بهذه الطريقة، لأن الصبي ريتشارد كان قد أُهْدِيَ إليهم كما يُهْدَى شيء من الأشياء، ولم يروا حتى ضرورة إطعامه لقاء ما يقوم به من عمل. وقد وصف ريتشارد بلسانه كيف كان حاله في تلك السنوات، وكأنه الابن الضال الذي يحدَّثنا عنه الإنجيل، الذي كان يشتهي أن يأكل من ثمار الخرُّوب التي كانت تُعلَف بها الخنازير المُسَمَّنة لغرض بيعها. ولكن الرعاة لم يعطوها له، وكانوا يضربونه لو سرق من طعام الخنازير. وهكذا عاش ريتشارد سني طفولته وشبابه إلى الساعة التي شب فيها عن الطوق، وشعر بأنه أصبح قويا وقادرا على أن يصبح سارقا.
«وبدأ هذا المتوحش يجني رزقه في مدينة جنيف من العمل بأجر يومي. وكان ينفق ما يجنيه في الشرب والسكر، وعاش كوحش شرس. وانتهى به الأمر إلى قتل وسلب رجل عجوز. وقد أُلقي القبض عليه، ومَثَلَ أمام القضاء، وحُكِم عليه بالإعدام. فالناس في تلك البلاد ليسوا عاطفيين. وسرعان ما وجد نفسه في السجن محاطا بالقساوسة، وأفراد من أخويات مسيحية، وسيدات من الأعمال الخيرية، وما شابه ذلك. فعلَّموه القراءة والكتابة في السجن، وشرحوا له الإنجيل. وناشدوه، وحاولوا إقناعه، ولم يملُّوا من الاستمرار في الكلام معه، إلى أن اعترف أخيرا بجريمته اعترافا صادقا. فاهتدى إلى الإيمان المسيحي. وقد وجَّه إلى المحكمة رسالة يصف فيها نفسه بأنه كان وحشا، ولكن الله أنعم عليه في النهاية بنوره وأظهر له نعمته. وأصبحت مدينة جنيف بأكملها في حالة من الإثارة تجاهه — جميع الجمعيات الخيرية والدينية لمدينة جنيف. فهرع إلى السجن جميع الناس من الطبقة الأرستقراطية ومن الفاضلين من الطبقات الاجتماعية الراقية في المجتمع، وقبَّلوا ريتشارد وحضنوه، وقالوا له: ‹أنت أخونا، لقد حلَّت عليك النعمة.› أمَّا ريتشارد فلم يفعل شيئا سوى أنه كان يبكي بمنتهى المشاعر، ويقول: ‹نعم لقد حلَّت عليَّ النعمة! لقد كنتُ طوال طفولتي وشبابي سعيدا بتناول طعام الخنازير، ولكني وجدتُ الآن شيئا أعظم، فقد وجدتُ النعمة الإلهية. وها أنا أموت في الربِّ.› فيجيبه الآخرون: ‹نعم يا ريتشارد، مُتْ في الربِّ؛ لقد سفكتَ دما، فيجب أن تموت. ورغم أنها ليست غلطتك بأنك لم تعرف الربَّ، أيام كنتَ تحسد الخنازير على علفها، وأيام كنتَ تُضرَب لسرقتكَ للعلف (وهو خطأ كبير جدا من جانبك، لأن السرقة مُحرَّمة)؛ ولكنك سفكتَ دمًا، فيجب أن تموت.› وفي اليوم الأخير، كان ريتشارد قد ضعف ضعفا شديدا، ولم يفعل شيئا سوى البكاء وتكرير هذه العبارة في كل دقيقة: ‹هذا أسعد يوم في حياتي، فإنني ذاهب إلى الربِّ.› وصاح القساوسة والقضاة والسيدات من الجمعيات الخيرية: ‹نعم، هذا أسعد يوم في حياتك، لأنك ذاهب إلى الربِّ!› وتبع الجميع عربة السجن في موكب إما مشيا وإما بعرباتهم إلى منصة الإعدام. وأخذ الصياح يتعالى من كل مكان عند منصة الإعدام قائلا: ‹مُتْ أيها الأخ، مُتْ في الربِّ، لأنه حتى أنت قد حلَّت النعمة عليك.› وجُرَّ ريتشارد إلى منصة الإعدام تغمره قبلات إخوته وأخواته المسيحيين، وأُخِذ إلى المقصلة. فقطعوا رأسه بصورة أخوية، لأن نعمة الله قد حلَّت عليه. نعم، فهذه سمة مميزة.
«لقد تُرجم هذا الكتيب إلى اللغة الروسية عن اللغة الفرنسية، من قِبَل بعض المُحسِنين الروس الذين يحتلون مكانة عالية في المجتمع ويتعاطفون مع اللوثرية، وقد وُزِّع مجانا لتنوير وتثقيف شعبنا. وإنَّ حالة ريتشارد هذا شائقة ومثيرة للمسامع بما تتصف به من طابع قومي. فرغم أن قطع رأس إنسان أمر غير وارد في بلادنا، وذلك لأنه أصبح أخانا ولأن نعمة الله قد حلَّت عليه، إلاَّ أننا لدينا تَخَصُّصُنا في هذه الأمور، الذي هو ليس أفضل بكثير من قطع الرؤوس. فنحن في بلادنا نضرب ضربا قاسيا مبرحا، وقد أصبح هذا نوعا من تقليد تاريخي ومتعة مألوفة طبيعية مشروعة. لقد صوَّر الشاعر الروسي نكراسوف في إحدى قصائده، شقاء حصان كان الفلاح يضربه بالسوط على ‹عينيه الوديعتين.› فلابد وأن شاهد مثل هذا المشهد الكثير من الناس. فإنه مشهد يتميز به الروس. وإنَّ ذلك الحيوان المسكين الضعيف الذي كان يَجُرُّ عربة مثقلة بأحمال فوق طاقته، قد سقط في الوحل، ولم يستطِع أن يتخلص منه. فيأخذ الفلاح يضربه ثم يضربه وهو يرفع سوطه في الهواء ويهوي به على الحيوان بضراوة وحشية وقسوة ويضاعف ضرباته دون أن يشعر بما يفعل، قائلا: ‹مهما تصبح ضعيفا أيها الحيوان، يجب عليك أن تَجُرَّ العربة حتى الموت!› وأخذ الحيوان يتخبَّط، فما كان من الفلاح، وقد استبد به غضب أعمى، إلاَّ أن أخذ يجلده على عينيه الباكيتين، اللتين تتضرعان طالبتين الرأفة والرحمة، ويضربه على ‹عينيه الوديعتين› العزلاوين اللتين لا تملكان ما تدفعان به عن نفسهما الأذى. واستطاع الحيوان بوثبة مستميتة قصوى أن يتخلص من سقطته فيقف على قوائمه فيستأنف سيره مرتعشًا مجللاً بالخزي والعار، لا يكاد يستطيع أن يتنفس، يتقدم بخطى متقطعة مقهورة تبعث الشفقة في القلب — إنَّ قصائد نكراسوف هذه تُحدِث في النفس أثرا رهيبا. ولكن هذا مجرد حصان، ونحن نعلم أن الله قد وهب لنا الخيول لنضربها، أو هذا على الأقل ما علَّمنا إياه التتر، الذين أورثونا السوط بمثابة ذكرى تُذكِّرنا بهم.
«غير أن البشر يمكن أن يتعرَّضوا للضرب أيضا. فإنني أعرف حالة، عن سيَّد مرموق مثقف تعاون مع زوجته في ضرب ابنته الصغيرة بعصا من خشب البتولا وهي طفلة في السابعة من عمرها. لقد دوَّنتُ الواقعة بجميع تفاصيلها. فقد فرح الأب بأن العصا كانت مغطاة ببقايا غصينات، فقال: ‹إنَّ العصا تلسع أكثر،› وأخذ يلسع ابنته بالضرب. وأنا أعلم علم اليقين بأن هناك أشخاصا يسكرون من الضربات التي يكيلونها، ويبلغون من النشوة بها إلى حدِّ اللَّذَّة الجسدية، ويتمتعون بالضرب تمتعا وحشيا متزايدا. فضُرِبت الصبية دقيقة، فخمس دقائق، فعشر دقائق، ضربا ما ينفك يزداد قوة وضراوة. والصبية تصرخ وتبكي، ثم تقول مختنقة الصوت بدموعها: ‹بابا، بابا!› وبمصادفة شيطانية غير عادية، رُفِعت القضية إلى المحكمة. واستعان الأبوان بمحام. ويسمي الشعب الروسي المحامي منذ زمن طويل: ‹ضمير للاستئجار.› وأخذ المحامي يحتج أمام المحكمة للدفاع عن موكله، قائلا: ‹ما هذا إلاَّ حادث عادي من حوادث الحياة العائلية. أب يؤدِّب ابنته، وإنه من العار علينا أن تُرفع هذه القضية إلى المحكمة!› وقد تأثَّر المحلفون أشد التأثُّر بأقوال المحامي، وأعلنوا حكمهم بالبراءة. وضج الجمهور فرحا حين سمع الحكم ببراءة الجلاَّد. ولسوء الحظ أني لم أكن هناك، وإلاَّ اقترحتُ إنشاء صندوق إعانة، تكريما لهذا الأب الجلاَّد! ... هذه لوحة جميلة يا آليوشا.
«ولكن لا يزال لديَّ أشياء أفضل عن الأطفال. لقد جمعتُ الكثير، الكثير عن الأطفال الروس، يا آليوشا. وإليك قصة بُنيَّة في الخامسة من عمرها، التي كانت مكروهة من والدها ووالدتها، اللذين كانا ‹من أكثر الأشخاص استحقاقا للتقدير في المجتمع ومن الناس المحترمين المثقفين وذوي نشأة كريمة.› فاستمع يا آليوشا، يجب أن أؤكد لك ثانية أن حُبَّ تعذيب الأطفال دون سواهم هي سمة مميزة للعديد من الناس. أمَّا بالنسبة إلى موقف هؤلاء الجلاَّدين من شتى أنواع الأعمال الخيرية والإنسانية فتراهم يتصرَّفون بكامل اللطف والإحسان في تعاملهم، كما يليق ذلك بأوروبيين مثقفين ومهذبين ومليئين بالإنسانية؛ ولكنهم مولعون جدا بتعذيب الأطفال، حتى أن هذا التعذيب هو في الحقيقة ولعهم بالأطفال إلى حدٍّ ما. إذ إنَّ مجرد منظر هؤلاء الأطفال العُزَّل هو الذي يغري الشخص المُعذِّب، وإنَّ مجرد الاطمئنان الملائكي الذي يتحلَّى به الطفل الذي لا ملجأ له ولا اشتكاء، هو الذي يشعل النار في الدم الوغد لذاك الشخص المُعذِّب. وبطبيعة الحال، هناك شيطان مُخبَّأ في داخل كل إنسان — شيطان الاغتياظ والاستشاطة، شيطان التلذُّذ بسماع صرخات ضحيته، شيطان انفلات الفوضى، شيطان المرض الذي يفرز الرذيلة.
«لقد أنزل الأبوان المثقفان في ابنتهما المسكينة ذات السنوات الخمسة أنواعا من التعذيب لا يتصورها الخيال. فكانا يضربانها ويجلدانها ويركلانها دون أيِّ سبب، حتى أصبح جسم البنية المسكينة كله كبقعة زرقاء واحدة. وشيئا فشيئا توصلا إلى صور من القسوة فيها كثير من التفنن — فكانا يحبسانها طوال الليل في البرد والصقيع على انفراد، ولأنها لم تطلب أن تؤخذ في الليل لقضاء الحاجة — (وكأن طفلا في الخامسة من عمره يستطيع دائما أن يستيقظ من نومه الهادئ العميق في الوقت المناسب للذهاب إلى المرحاض)، فكانا يلطَّخان لها وجهها بغائطها نفسه، ويجبرانها على أن تبلعه، وكانت أمها، هي التي تفعل ذلك، نعم أمها بنفسها! وكانت هذه الأم تستطيع أن تنام بعدئذ نوما هادئا دون أن تهِزَّها صرخات طفلتها السجينة في ذلك المكان الموبوء! أتستطيع أن تتخيَّل يا آليوشا تلك الكائنة الصغيرة التي لا تزال عاجزة على أن تفهم ما يجري لها؟ أتستطيع أن تتخيَّلها تلطِم صدرها المختنق بقبضتها الصغيرة في غياهب الظلام والبرد، وهي تذرف دموعا وديعة وبريئة ومتضرعة إلى ‹الله الرؤوف› من أجل أن يحميها؟ أتفهم ذلك أيها الصديق والأخ، أنت الراهب المبتدئ التقيُّ والمتواضع؟ أتفهم لماذا يوجد هذا العمل المُخزي ولماذا يُسمَح به؟ لقد سمعتُ أنه بدون هذا العمل المُخزي لا وجود للإنسان على الأرض، وإلاَّ لما عرف الخير والشرَّ! ولكن، لماذا ينبغي أن يتعلَّم الإنسان تلك المعرفة اللعينة عن الخير والشرِّ إذا كان ثمنها يكلف غاليا؟ لماذا؟ فإنَّ كل ما في العالم من معرفة لا يكفي للتكفير عن دموع تلك الطفلة التي تتوسل إلى ‹الله الرؤوف› لكي ينجدها! وأنا لن أقول شيئا عن الآلام التي يعانيها الكبار؛ فإنَّ الكبار قد أكلوا الثمرة المُحرَّمة، واللعنة عليهم، وليأخذهم الشيطان جميعا! أمَّا الأطفال الصغار الأبرياء، فما ذنبهم؟ أُلاحِظُ أنني أعذبك بهذا الحديث يا آليوشا. فإنَّ في وجهك حزنا وشقاء. وسأتوقف عن الحديث إن شئتَ.»
تمتم آليوشا يقول: «لا عليك. فإني أحب أن أتألم أنا أيضا.»
قال إيفان: «لن أَقُصَّ عليك سوى قصة أخرى واحدة، لأنها قصة تثير الفضول والدهشة كثيرا، ولأنها تتسم بطابع مميز حقا، وقد قرأتُها منذ زمن قصير في إحدى المجلات عن الآثار الروسية. لقد نسيتُ الاسم، فيجب أن أبحث عنه. لقد وقعت هذه القصة في أحلك عهود الرق والأقنان، عند بداية هذا القرن، وليحيَ مُحرِّر الشعب! وكان يعيش في ذلك الزمان جنرال له علاقات أرستقراطية، وصاحب عقارات وأراض شاسعة — وهو واحد من أولئك الرجال (وقد أصبحوا قِلَّة نادرة حتى في ذلك الزمان على ما أظن) الذين يعتقدون حين يحالون على التقاعد أنَّهم بما قدَّموا للدولة من خدمات قد أصبح لهم على رعاياهم الأقنان حقُّ الحياة والموت. فكان يوجد من أمثال هؤلاء في الماضي.
«كان ذلك الجنرال يعيش في أراضيه التي يسكنها ألفان من الأقنان. وكان يعيش حياة من الأبهة، ومُهيمنا على إخوانه البشر الفقراء كما لو كانوا اتِّكالِيِّين ومغفلين. وكان يملك بضعة مئات من كلاب الصيد التي لها ما يقرب من مئة خادم يجرون وراءها على خيولهم، لابسين زِيًّا واحدًا. ففي ذات يوم، كان قِنٌّ صغير هو صبي في الثامنة من عمره يتسلَّى برمي الأحجار، [قِنٌّ وجمعه أقنان، ومعناه عبد كان أبواه مملوكين لأسياده،] فاذا به يصيب بأحدها قدم الكلب المُفضَّل لدى الجنرال سهوا وغفلة. وسأل الجنرال مستطلعا: ‹لماذا يعرج هذا الكلب الذي هو خير كلابي؟› فقيل له إنه قد جُرِح بحصى رماها ذلك الصبي. فقال الجنرال وهو يحدِّق في الصبي من أعلى إلى أسفل: ‹إذن أنتَ الذي فعلها.› ثم أضاف: ‹خُذوه!› فأُخِذَ الصبي — أُخِذَ من أمه، وحُبِسَ في غرفة طوال الليل. وفي وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فإذا بالجنرال يمتطي صهوة جواده، وقد أحاط به كلاب الصيد، وأتباعه، وخدمه الذين يجرون وراء الكلاب يطاردون الفرائس، والصيَّادون، وقد امتطوا صهوات خيولهم جميعا في موكب صيد كامل. وأمر الجنرال بجمع الخدم في الحوش لتلقينهم درسا، وجُعلت أم الصبي الجاني في أول صف من صفوفهم.
«أُخرِج الصبي من الحبس. وكان ذلك في صباح كالح بارد يملؤه الضباب، يوم من أيام فصل الخريف، صباح يبشِّر بصيد وافر. وأمر الجنرال بأن تُخلع عن الصغير ثيابه؛ فخُلعت حتى صار عاريا. وكان يرتعش مُصفَرًّا من الخوف، ولا يجرؤ على البكاء…فأمر الجنرال: ‹اجعلوه يركض،› فأخذ الخدام المُطارِدون يصيحون على الصبي: ‹اُركض! اُركض!› فأخذ الصبي يركض ... فإذا بالجنرال يقول صائحا: ‹عليه!› مهيبًا بجميع كلابه أن تطارد الصبي. فانطلقت الكلاب وأمسكت به لتمزق جسم الصبي إربًا إربًا على مرأى من أمه! ... وأنا أعتقد بأنه تم لاحقا إعلان عدم قدرة الجنرال على إدارة ملكياته في المقاطعة واعتقاله أيضا. فما رأيك؟ ماذا كان يستحق؟ أن يُعدم رميا بالرصاص؟ أن يُعدم إرضاء لمشاعرنا الأخلاقية؟ هلا أجبت يا آليوشا!»
قال آليوشا بصوت خافت وهو يرفع عينيه نحو أخيه ويرسم على شفتيه المرتعشتين ابتسامة صفراء: «نعم كان يجب رميه بالرصاص.»
فصاح إيفان مُنشرِحا: «مرحى! فلو كنتَ أنتَ أيضا تقول كذلك، فأنت راهب جيد! إذن هناك شيطان صغير كامن في قلبك يا آليوشا كارامازوف!»
قال آليوشا: «إنَّ ما قلتُه كان شيئا من السُّخف، ولكن —»
صاح إيفان مُقاطِعا إياه: «هذه هي النقطة على وجه التحديد: تلك الكلمة ‹ولكن› … فاعلم أيها الراهب المبتدئ أن السخافات ضرورية للغاية على هذه الأرض. إذ إنَّ العالم قائم على سخافات، وربما بدونها لا يحصل شيء. ونحن لا نعلم سوى ما نعلم!»
«ماذا تعلم؟»
استأنف إيفان كلامه قائلا في هذيان: «لستُ أفهم شيئا. ولا أريد أن أفهم أيَّ شيء الآن. أريد أن أكتفي بالوقائع. لقد قررتُ منذ زمن طويل أن لا أحاول تأويلها. فلو حاولتُ أن أفهم، لشوَّهتُ الوقائع فورا، وأنا أحرص على أن أبقى في الواقع ولا أخرج منه.»
صاح آليوشا يقول بمرارة: «لماذا تُجرِّبني؟ هلا قلتَ لي ماذا تعني في نهاية الأمر؟»
«طبعا، سأقول لك؛ ذلك ما كنتُ أريد الوصول إليه منذ البداية. فأنتَ عزيز عليَّ يا آليوشا، ولا أريدك أن تمضي هكذا، ولن أسلِّمك لتعاليم صاحبك الراهب الشيخ زوسيما.»
قال إيفان ذلك وصمت للحظة، وفجأة أصبح وجهه حزينا جدا، ثم أردف يقول: «أصْغِ إليَّ الآن! لقد اخترتُ لأمثلتي أطفالا لمجرد جعل قضيتي أكثر وضوحا. ولن أقول شيئا عن سائر الدموع الإنسانية التي تتبلل بها الكرة الأرضية من قشرتها إلى مركزها. فإنني أحصر موضوع مناقشتنا عن قصد. فما أنا إلاَّ حشرة صغيرة من الحشرات. وإنني لأعترف ذليلا كل الذل بعجزي عن فهم لماذا أوضاع العالم على هذه الشاكلة. وأفترضُ أن اللوم يقع على الناس أنفسهم؛ لقد وُهِبت لهم الجنة، ولكنهم آثروا أن ينالوا الحرية، واختطفوا النار من السماء، رغم عِلمهم بأنهم سيصبحون غير سعداء، فلا داعي إذن إلى أن نشفق عليهم ونرثي لحالهم. وكل ما أعرفه بفهمي الإقليدي الأرضي البائس، هو أن هناك معاناة وأنه لا يوجد من هو مذنب بذلك؛ وأن جميع المسببات والتأثيرات ينحدر بعضها من بعض، ببساطة وبشكل مباشر؛ وأن كل شيء يجري ويجد نسبته — غير أن ذلك مجرد هراء إقليدي. فأنا أعرف ذلك، وأنا لا أوافق أن أحيا وفقا له! فما التعزية التي أنالها من عدم وجود أيِّ مذنب، ومن أن جميع المسببات والتأثيرات ينحدر بعضها من بعض ببساطة وبشكل مباشر، ومن معرفتي بها؟ فيجب أن أحصل على العدالة، وإلاَّ سأُدمِّر نفسي. وهذه العدالة التي أطالب بها، ينبغي أن لا تكون عدالة موجودة في زمان ومكان لامتناهيَين وفي مكان بعيد عَنَّا، ولكن ينبغي أن تكون هنا على الأرض، حتى أتمكن من رؤيتها بنفسي. فقد آمنتُ بها. وأريد أن أشهدها، فإذا كنتُ ميِّتًا ساعة تحقيقها، فأنا أتمنى أن أُبعث حيًّا ثانية، لأنه إذا حدث كل ذلك في غيابي، فسوف يكون هذا أمرا غير عادل بحقِّي بالمرة. ومن المؤكد أنني لم أذُقْ أيَّ معاناة، فأنا ببساطة قد أُمَهِّدُ الطريق، بجرائمي ومعاناتي، للوئام المستقبلي لشخص آخر. فإني أريد أن أرى بعينيَّ الحَمَلَ يَربُض إلى جوار الأسد في هدوء وسلام، وأن أرى الضحية قائمة من بين الأموات وتعانق قاتلها. وأريد أن أكون حاضرا عندما يفهم الجميع فجأة سِرَّ هذا العالم. فكل ديانات العالم مبنية على هذا الاشتياق، وأنا شخصيًّا إنسان مؤمن.
«ولكن الأطفال ما ذنبهم؟ وكيف نسوغ عذاب الأطفال؟ تلك مشكلة لا أجد إلى حلِّها سبيلا. وأعود فأقول لك للمرة المئة: هناك مشاكل كثيرة في هذا العالم، ولكنني اخترتُ مشكلة الأطفال فقط، لأنها تتيح لي أن أعبَّر عما يشغل بالي ويَقُضُّ عليَّ مضجعي تعبيرا واضحا. وقُلْ لي: إذا كان على جميع البشر أن يتألموا من أجل أن يدفعوا ثمن تمهيد الطريق بآلامهم للوئام الأبدي، فما ذنب الأطفال بكل هذا؟ أخبرني من فضلك! فلماذا يتعذب الأطفال ولماذا ينبغي أن يدفعوا ثمن تمهيد الطريق بآلامهم لذلك الوئام؟ فذلك أمر لا سبيل إلى فهمه إطلاقا. ولماذا يجب عليهم هم أيضا تقديم مواد لتمهيد الطريق من أجل وئام المستقبل؟ فقد أُسلِّم بتضامن البشر في الخطيئة، وتضامنهم أيضا في التكفير عنها؛ ولكن لا يمكن أن يكون هناك مثل هذا التضامن مع الأطفال في موضوع دفع الثمن. وإذا كان صحيحا حقا أنه يجب عليهم تقاسم المسؤولية عن جميع جرائم آبائهم، فإنَّ مثل هذه الحقيقة ليست من هذا العالم، ولا يمكنني فهمها على الإطلاق! ورُبَّ مازح خبيث يعترِض بقوله إنَّ الطفل كان له أن يكبر ومن ثم سيرتكب الخطيئة، ولكنه كما ترى لم يكبر بعد، فقد مزقته الكلاب إربًا إربًا، وهو في الثامنة من عمره.
«آه يا آليوشا، أنا لا أُجدِّف! فأنا أفهم طبعا حجم ثورة الكون التي سوف تحصل، حين تدوي معا أصوات كل شيء في السماء والأرض لكي تُرنِّم ترنيمة تسبيح واحدة، وحين يهتف جميع الأحياء وجميع من كانوا أحياء قائلين: ‹أنت عادل، يا ربُّ، لأنك كشفت لنا طرقك.› وسوف تحتضن الأم عندئذ الجلاَّد الذي أمر الكلاب بتمزيق ابنها، وسوف يهتف الثلاثة عندئذ بدموع: ‹أنت عادل، يا ربُّ!› عندئذ، سوف يحصل طبعا الناس على تاج المعرفة، وسوف تنجلي جميع الأسرار. ولكن ما يستوقفني هنا بصورة فجائية هو أنني لا أقبل بذلك الوئام. فما دمتُ في هذا العالم، فإني أسارع إلى اتخاذ التدابير الخاصة بي. ولكن، كما أنت تعرف يا آليوشا، ربما يحدث ذلك حقا، فلو عشتُ لغاية تلك اللحظة، أو قمتُ من بين الأموات لرؤيتها، فربما أنا أيضا أهتف مع بقية الناس، وأرى الأم التي تحتضن الشخص الذي عَذَّب طفلها، وأقول: ‹أنت عادل، يا ربُّ!› ولكنني لا أريد أن أهتف يومئذ. فما دام يوجد لديَّ وقت، فإني أريد الاستعجال في حماية نفسي، وعليه أرفض موضوع الوئام السامي برمته. إذ لا يستحق هذا الوئام دموع طفلة واحدة مُعذَّبة، تلك الطفلة التي كانت تلطم صدرها بقبضة يدها الصغيرة وتتضرع إلى ‹الله الرؤوف› في غرفة خارجية نتنة بدموعها التي لا يُكفِّر عنها شيء! نعم، إنَّ هذا الوئام لا يستحق ذلك، لأن تلك الدموع لم يُكفَّر عنها. ولكن لابد من التكفير عنها، وإلاَّ فلا يمكن أن يكون هناك أيُّ وئام. ولكن كيف؟ وبماذا يمكن التكفير عنها؟ أهو ممكن؟ أهو القصاص الانتقامي الذي سينزل بالجاني؟ ولكن ما نفع هذا القصاص الانتقامي؟ وما نفع جَهَنَّم للظالمين؟ وما فائدة جَهَنَّم، لأن هؤلاء الأطفال تعرضوا بالفعل للتعذيب وأين عسى أن يكون الوئام إذا كانت ثمة جَهَنَّم؟ فأنا أريد أن أغفر، وأن أصالح. ولا أريد المزيد من المعاناة.
«فإذا كانت دموع الأطفال أمرا لابد منه ولا غنى عنه، لإكمال مقدار الألم الذي سيكون ثمنا للحقيقة، فأنا أحتج على أن الحقيقة لا تستحق مثل هذا الثمن. فلا أريد أن تحتضن الأم ذلك الظالم الذي ألقى ابنها إلى الكلاب! فليس من حقِّها أن تغفر له! فلتغفر له عما أصابها هي شخصيًّا مثلا، ولتغفر للشخص المُعذِّب عن الآلام الفائقة التي أصابت قلبها كوالدة للطفل. أمَّا آلام طفلها المُعذَّب فليس من حقِّها أن تغفر له عنها؛ وليس من حقِّها أن تغفر للمُعذِّب، حتى لو غفر له الطفل! فإذا كان الأمر كذلك، أي إذا لم يكن من حقِّ الضحايا أن تغفر، فأين الوئام؟ وهل يوجد في العالم كله كائن له الحقُّ في أن يغفر وقادر على أن يغفر؟ فأنا لا أريد وئاما. ولا أريده حبًّا بالإنسانية. وأُفضِّل أن تبقى آلام هذا العالم بغير تكفير. فأنا أُفضِّل البقاء بآلامي غير مُكفَّرة وبغيطي خائبا، حتى لو كنتُ مُخطِئًا. وعلاوة على ذلك، فإنَّ ما مطلوب للوئام هو ثمن باهظ للغاية؛ فإنَّ دفع كل هذا الثمن الباهظ للدخول إنما هو يتجاوز إمكانياتنا. ولذلك أسارع فأرُدُّ تذكرة دخولي، وإذا كنتُ إنسانا صادقا، فأنا مُلزم بأن أرُدَّها بسرعة، وهذا ما أقوم به. وهذا ليس معناه أنني لا أقبل بالله، يا آليوشا، وإنما أقتصرُ على أن أُعيد إليه تذكرتي بكل احترام.»
قال آليوشا بصوت رقيق وهو يخفض عينه: «هذا تمرُّد.»
فقال إيفان بانفعال: «تمرُّد؟ يؤسفني أنك تسميه بهذا الاسم. فمن المستحيل على المرء أن يحيا في تمرُّد، وأنا أمرؤ يحرس على أن يحيا. فأخبرني أنتَ بنفسك، وأتحداك — وأجبني عن هذا السؤال: تخيَّلْ أنك كنتَ تصنع وتهندس بُنية وخطة لمصير البشرية بهدف جعل الناس سعداء في نهاية أمرهم، ومنحهم الراحة والسلام في نهاية الأمر، وأن التعذيب لغاية الموت لكائن صغير واحد هو ضرورة لا مناص منها لخطتك — مثل تلك الطفلة الصغيرة التي تلطم صدرها بقبضتها — وتأسيس ذلك الصرح على دموع غير مُكَفَّرة، فهل توافق على أن تكون المهندس المعماري لمثل هذا الصرح بهذه الشروط؟ قُلْ لي، وقُلْ لي الحقيقة.»
أجاب آليوشا بصوت هادئ: «لا، أنا لا أوافق.»
فسأله إيفان: «وهل يمكنك المصادقة على فكرة جعل الناس، الذين تبني لهم ذلك الصرح، يوافقون على قبول سعادتهم على حساب دم غير مُكَفَّر لطفل صغير؟ وسيبقون سعداء إلى الأبد عند قبولهم لهذا الأمر؟»
فأجاب آليوشا فجأة والشرر يتطاير من عينيه: «لا، لا يمكنني المصادقة عليها يا أخي. ولكنك قُلتَ منذ لحظة: هل في الكون كائن في وسعه ومن حقه أن يغفر؟ غير أن هناك كائنا قادرا على أن يغفر كل شيء، جميع الخطايا لجميع الناس، لأنه قَدَّم دمه البريء فِداءً للجميع ولكل شيء. لقد نسيتَه أنتَ، وهو الذي يُبنى عليه الصرح، وهو الذي يهتف به الناس: ‹أنت عادل، يا ربُّ، لأنك كشفت لنا طرقك!›»
فقال إيفان: «آه صحيح! إنك تتكلم عن ذاك الذي بلا خطيئة وعن دمه! لا يا آليوشا أنا لم أنسَه؛ ولكن بالعكس، فكنتُ أتساءل طوال الوقت كيف لك أنت بنفسك أن تنتظر هذه المدة الطويلة قبل أن تذكره في حديثنا، فأمثالك في العادة يبرزون هذه الحجَّة منذ بداية المناقشة. وهل تعلم يا آليوشا أنني نظَّمت قصيدة قبل عام تقريبا؟ لا تضحك! فإذا وافقتَ على أن تُضَيِّع في صحبتي عشر دقائق أخرى، قلتُ لك هذه القصيدة.»
«أنتَ كتبتَ قصيدة؟»
ضحك إيفان قائلا: «أوه، لا، أنا لم أكتبها، فأنا لم أكتب بيتين من الشعر في حياتي. ولكني ابتكرتُ هذه القصيدة النثرية من خيالي وتذكَّرتُها الآن. لقد كنتُ سارحا في الخيال عندما نظمتها. وستكون أنت أوَّل قارئ لقصيدتي — أي بمعنى، أول من يسمعها.» ثم قال إيفان مبتسما: «لماذا يضيِّع المؤلف فرصة استماع مستمع واحد؟ أتريدني أن ألقيها عليك؟»
ردَّ آليوشا قائلا: «كلَّي آذان صاغية لك.»
فقال إيفان: «تُدعى قصيدتي ‹المفتش الكبير›؛ إنها شيء تافه، ولكني أريد أن ألقيها عليك.»
هذه المقالة مقتطفة من كتاب: «الإنجيل في روايات دوستويفسكي»