يوسف بن ألِعازَر Josef Ben–Eliezer فرد آخر من أفراد كنيستنا برودرهوف، وُلد في عام 1929م في مدينة فرانكفورت، ألمانيا، لأبوين يهوديين من أوروبا الشرقية. وقد هاجر والداه من بولندا، مثل آلاف غيرهما، هربًا من الاضطهاد والفقر. إلاَّ أن أسرتهما لم تَنْجُ من أيِّ منهما، لا من الاضطهاد ولا من الفقر. فيحكي لنا يوسف قائلاً:
حصلتْ أول مواجهة لي مع معاداة السامية عندما كان عمري ثلاث سنوات فقط. إذ كُنَّا نشاهد ذات مرة من نافذة منزلنا الواقع في شارع اوستئيندشتراسا Ostendstraße رتلاً من شباب هتلر وهم يسيرون وينشدون نشيدًا وطنيًّا مرعبًا، بحيث تمكنتُ أنا أيضًا من فهم معناه رغم صغر سني آنذاك، فكان النشيد: Wenn Judenblut vom Messer spritzt (بمعنى: عندما تسيل دماء اليهود من خناجرنا). ولا أزال أتذكَّر الرعب الذي كان يظهر على وجهي والديَّ.
وسرعان ما قررت أسرتنا مغادرة البلد، ورجعنا إلى بلدة روزفادوف المُطلَّة على نهر سان في بولندا في نهاية عام 1933م. وكان معظم سكانها من اليهود: من حرفيين، وخياطين، ونجارين، وتجار. وكان هناك قدر كبير من الفقر، ولكننا رغم تلك الظروف كُنَّا نُعتبر من الطبقة الميسورة. وعشنا في بلدة روزفادوف طوال الستة أعوام التي تلت.
وفي عام 1939م بدأت الحرب العالمية الثانية، وما هي إلاَّ أسابيع حتى دخل الألمانيون روزفادوف. واختبأ والدي وشقيقي الأكبر في العُليَّة، وكلما طرق أحدهم بابنا وسأل عنهما، قُلنا إنهما ليسا في المنزل.
ثم جاء الإعلان العام الرهيب: على كل اليهود التجمُّع في ساحة البلدة. ولم يُعْطَ لنا أيَّ مهلة سوى بضع ساعات. فأخذنا ما استطعنا حمله — مجرد وضعناه في صُرَّة من القماش لنتمكن من حمله على ظهورنا. وأجبرتنا قوات الأمن الخاصة النازية (وحدات إس إس) على المشي من ساحة البلدة إلى نهر سان، الذي كان يبعد عدة أميال عن القرية. وكان جنود بزيهم العسكري يركبون دراجات نارية بمحاذاتنا من كلا الجانبين. ولن أنسى أبدًا كيف توقف أحدهم وصرخ فينا لكي نسرع في مشينا؛ ثم جاء إلى والدي وضربه ضربة قوية.
وعند ضفة النهر، كان هناك جنود آخرون بزيهم العسكري ينتظروننا. فقاموا بتفتيشنا بحثًا عن الأشياء الثمينة — نقود، أو مجوهرات، أو ساعات. (ولحسن الحظ، لم يجدوا المبلغ الذي أخفاه والدي في ملابس أختي الصغيرة.) ثم أمرونا بعبور النهر إلى أرض لا نعلم إلى أيِّ بلد تنتمي. ولم نتلقَّ أيَّ تعليمات بما يجب علينا أن نفعله، لذلك وجدنا مأوى في قرية عبر النهر.
وبعد أيام قليلة سمعنا فجأة أن الألمانيين سيحتلون هذه المنطقة أيضًا. فانتابنا الذعر، فاشترى والدي بالأموال التي أخفوها، ومتشاركين مع أسرتين أو ثلاث، حصانًا وعربة لكي تحمل الأطفال الصغار والأشياء القليلة التي تَمكنَّا من حملها على ظهورنا.
وسافرنا شرقًا باتجاه روسيا، على أمل الوصول إلى الحدود قبل حلول الظلام، ولكننا وجدنا أنفسنا في غابة كبيرة عندما حلَّ الظلام. وهناك هاجمنا مسلحون وطلبوا مِنَّا تسليم كل ما نملك. لقد كانت لحظات مخيفة، ولكن كان هناك بعض الرجال في مجموعتنا مِمَّنْ كانت لديهم الشجاعة لمقاومتهم. وفي النهاية، انصرف عنَّا المسلحون آخذين معهم دراجة وبعض الأشياء الصغيرة الأخرى.
أمضت أسرة يوسف سنوات الحرب في سيبيريا. ونجح يوسف بأعجوبة في الهروب إلى فلسطين عام 1943م. وبعد الحرب العالمية الثانية، التقى يوسف بيهود نجوا من معسكرات الاعتقال النازية. فيقول:
بدأتْ الدفعات الأولى من الأطفال الذين تَمَّ تحريرهم من معسكري الاعتقال بيرغن بيلسن Bergen–Belsen وبوخنفالد Buchenwald بالوصول إلى فلسطين في عام 1945م. وارتعبتُ مما سمعته عما مرَّ به هؤلاء الأولاد، الذين لم يكُن عمر بعضهم سوى اثنتي أو ثلاث أو أربع عشرة سنة. وكان مظهرهم وكأنهم طاعنون في السِنِّ. فأمسيتُ مُنذهلاً أمام كل هذا.
وصارعتُ معنويًّا مع موضوع الاحتلال البريطاني للبلد طوال الثلاث سنوات التي تلت. وامتلأتُ بالكراهية للبريطانيين، وخاصة بعدما بدأوا بوضع قيود على هجرة الناجين من الهولوكوست إلى فلسطين. وقُلنا إننا نحن اليهود لن نذهب مرة أخرى كالغنم للذبح، على الأقل ليس بدون خوض قتال ضارٍ. وشعرنا بأننا نعيش في عالم من الوحوش، وبأننا يجب أن نكون كالوحوش مثلهم للبقاء على قيد الحياة والدفاع عن وجودنا.
وعندما انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين، دارت حروب أكثر بين اليهود والعرب من أجل الأرض. والتحقتُ بالجيش لأنني كنتُ مقتنعًا بأنه لم يَعُدْ بإمكاني السماح لنفسي بأن أُسْحَقَ بالأقدام ...
وأثناء حملاتنا العسكرية على رام الله واللد، أمرتْ كتيبتي الفلسطينيين بالمغادرة خلال ساعات. ولم نسمح لهم بأن يرحلوا بسلام لكننا هاجمناهم بدافع الكراهية المطلقة. فضربناهم واستجوبناهم بوحشية. حتى إنَّ بعضهم قُتِل. ولم تكُن لدينا أوامر بفعل هذا، ولكننا تصرفنا بمبادرتنا الذاتية. فقد أطلقنا العنان لأوطأ غرائزنا البشرية وأحقرها.
وفجأة، وَمَضَتْ أمام عيني طفولتي في زمن الحرب في بولندا. واسترجعتُ في ذهني تجربتي عندما كنتُ طفلاً في العاشرة من عمري وأنا أُطرَد من موطني. فها هم الناس أيضًا هنا أمامي — رجال ونساء وأطفال — يفرُّون بكل ما يمكنهم حمله. وكان هناك خوف في عيونهم، ذلك الخوف الذي كنتُ أعرفه أنا شخصيًّا جيدًا. فأصبحتُ حزينًا للغاية، ولكنني كنتُ تحت الأوامر، وواصلتُ في تفتيشهم عن أشياء ثمينة. وعلمتُ بأنني لم أَعُدْ ضحية، لكنني الآن أملك القوة والنفوذ.
وسرعان ما ترك يوسف الجيش، ولكنه ما زال غير سعيد. ونبذ الديانة اليهودية، ثم نبذ الدين بِرُمَّتهِ، وحاول أن يعطي معنىً للعالم من خلال تفسير شروره بالمنطق. غير أن هذا الأسلوب لم ينجح معه ولم يُعطِه لا السلام الروحي ولا الفرح الروحي. وفي النهاية، جاء إلى أحد مجتمعات برودرهوف المسيحية، حيث يحيا جميع أفرادها حياة المقاسمة والفقر والتعاون والسلام والتكريس المؤبد، فقال:
لقد اختبرت هنا واقعية الغُفران أول مرة في حياتي. وأسأل نفسي: «كيف لا يمكنني أن أغفر للآخرين مع أنني أنا نفسي بحاجة إلى الكثير من الغُفران باستمرار؟» والأهم من هذا كله، فأنا مليء بالأمل بأنه في يوم ما لَعَلَّ الروح القدس نفسه الذي خَلَّصني يتملَّك على الناس في جميع أنحاء العالم.
اقرأ قصته الكاملة في كتاب: «مسيرتي في البحث»
القصة مذكورة في كتاب: «لماذا نغفر؟»