حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ، قَائِلاً لَهُمَا: «اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُلَّاهُمَا وَأْتِيَانِي بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: ‹الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا.›»...فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ. (متى 21: 1ب–3، 6)
لا فائدة من إعداد أنفسنا لاستقبال مجيء الله عن طريق إلقاء نظرة إلى السماء بعيون مشتاقة، متوقعين مجيء شيء غير عادي من هناك ويجذب انتباه العالم كله. فلا يمكننا إعداد أنفسنا لمجيئه إلاَّ بالدعم الحقيقي للرب، والجهاد الفعلي من أجله. فلا نكون مستعدين له إلاَّ بعد أن نكون عازمين قلبيَّا وروحيًّا هنا في هذه الأرض على أن نكون تلاميذ حقيقيين يريدون تقديم الحياة وفقًا للحقِّ الإلهي وعدله، وبمعونة روح الرب الآتي، الروح القدس. ويجب علينا أن لا ننغمس في مشاعر روحية وهمية أو في شتى أنواع التكهنات بشأن مجيء المسيح بفكرة أن هذه هي الطريقة السليمة لمقابلة الرب. فمِن الأفضل أن تفكروا في الكيفية التي يمكنكم بها الذهاب لمقابلة المسيح الآن، هنا على الأرض، وفي الكيفية التي يمكنكم بها أن تكونوا في خدمته في الأحوال التي هي عليها الآن.
وتُظهِر القصة الآتية مدى البساطة التي يمكن أن يكون عليها هذا الأمر: فقد أرسل يسوع المسيح تلميذين ليُحضِرا له أتانًا [أنثى الحمار] وجحشًا [ولد الحمار] لكي يمتطيهما. ولقد فعلا ذلك. ولأنهما فعلا ذلك بدون تفكير في الأمر وبدون أيِّ تلكؤ، فهما خادِمان في ملكوت الله. وبعدما سألهما صاحبهما: «ماذا تفعلان؟ فإنَّ هذه الأتان وهذا الجحش هما لي،» أجاباه: «دعنا نأخذهما، لأن الرب المعلم بحاجة إليهما،» عندئذ لم يتوقف صاحبهما ليفكر في الأمر، لكن بسبب احترامه ليسوع المسيح سلَّمهما للمعلم. وبهذا أصبح خادِمًا في ملكوت الله لأنه فعل ما طُلِب منه في تلك اللحظة — فإنَّ مساعدة كهذه هي المساعدة الحقيقية الوحيدة التي نُقدِّمها للمُخَلِّص على الأرض.
فيجب أن نكتب هذا ونحفره بعمق في قلوبنا. فكثيرًا ما أكرر وأقول، ابتعدوا عن الكثير من المشاعر الدينية العقيمة. فيجب أن نكون واقفين على الأرض عندما يأتي المُخَلِّص وليس عائمين في الهواء. أمَّا في هذه الأيام، فللأسف تُفعل الكثير من الأمور بفكرة أنه كلما زادت روحانيتنا، وزاد اعتقادنا بالظواهر الدينية الخارقة للطبيعة، كان ذلك أفضل. ولكن العكس هو الصحيح. فكلما تَعَلَّمْنا أكثر أن ننشد الحقَّ وأن نقوم بتطبيقه عمليًّا بأكبر قدر ممكن في الموقف الذي يضعنا فيه الله، حتى لو كان هذا في قذارة أفسد الناس وأفسد المؤسسات، كان ذلك أفضل. لأن المُخَلِّص لا يريد أن يأتي إلى حيث يعيش الناس، والى صراعاتهم وصعوباتهم، ليكون مجرد فكرة عندهم، بل يريد أن يكون واقعًا حيٍّا:
لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي، فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ. (متى 18: 20)
ففي مثل هذه الحياة، يجب أن نَشُقَّ الطريق لأجل مجيء الرب؛ ولكن، أتوجد طريقة يمكننا القيام بها لتحقيق ذلك بِغيرِ طريقة العمل وفقًا لطبيعة الرب ومشيئته؟ أمَّا طبيعته فهي بسيطة، وحقيقية، وصادقة.
إنَّ كل مَنْ ينتظر يسوع المسيح يمكن أن ينال فكرة واضحة للتمييز بين ما هو حقٌّ وباطلٌ:
لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ، فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ، وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ، فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ. لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ. لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهَؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ، هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. (رومة 2: 12–16)
وربما يرى المرء أن عادة معينة أو غيرها من عاداته التي تَعوَّد عليها لا ترضي الله. فإذا كَفَّ عنها وتغيرَّ وأصلح حياته، فإنه يُهيِّئ الطريق للرب الآتي بعمله هذا. وعندما تصمم قلوبنا على مثل هذا النوع العملي من الانتظار، سيرشدنا الله بالتأكيد في كل خطوة من خطوات الطريق. وفي الواقع، سيُسلَّم إلى كل أتباع يسوع المخلصين الكثير جدًا من الأعمال والخدمات والمُهِمَّات العملية ليقوموا بها، بحيث — لا تؤاخذوني بالقول — إنهم يكادون لا يجدون وقتًا يقضونه في صلوات طويلة أو الجلوس في الكنيسة:
اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ. (يعقوب 1: 27)
إنَّ مُهِمَّة تلاميذ يسوع المسيح هي أن يُجسِّدوا طبيعة يسوع عمليًّا. وإنَّ هذه الحقيقة على العموم ليست مفهومة، لأن يسوع سُمِيَ بمؤسس ديانة جديدة. ولكن هذه ليست رسالة الله للعالم. فلم يكُن هدفه مُطلقًا أن يعطينا ديانة جديدة كي نحيا بطريقة أكثر لياقة — فلو كان الأمر كذلك لكان موسى وناموسه كافيين.
وبوصية يسوع المسيح البسيطة إلى تلاميذه، فالمُخَلِّص يريد القول: «لا تجعلوا مني ديانة! فما جئتُ به من عند الله ليس ديانة، لأن كل الديانات جامدة. فهي لا تريد أن تتقدم، ولا تنوي أن تتغيَّر. إذ تقيم هذه الديانات أضرحة وتُنشِئ متاحف، وتؤسس هيئات استشارية، وبسبب كل هذه الأمور، فهي تشكِّل حجر عثرة للعالم.» وفي الحقيقة — ولنكن صريحين تمامًا — فإنَّ دياناتنا تُمَثِّل عائقًا ليس للعالم فحسب، بل لتاريخ البشرية أيضًا.
لا يوجد أمر خطير على تقدُّم سير ملكوت الله أكثر من الديانة بنظامها المؤسساتي الشكلي: لأنها هي التي تجعلنا وثنيين. وهذا ما صارت إليه الديانة المسيحية. ألا تعلمون أنه من الممكن قتل المسيح بديانة مسيحية كهذه؟! وقبل كل شيء، أيهما أهم — المسيح أم الديانة المسيحية؟ وسأقول ما هو أكثر من هذا: فيمكننا قتل المسيح بالكتاب المُقدَّس! أيهما أعظم: الكتاب المُقدَّس أم المسيح؟ نعم، وفي وسعنا قتل المسيح حتى بصلواتنا. فحينما ندنو إلى الله بصلواتنا الطافحة بالغرور وحب الذات، وحينما تهدف صلواتنا إلى جعل عالمنا الشخصي عظيمًا، تكون صلواتنا بلا جدوى.
إنَّ المُخَلِّص لن يسمح لنفسه بالتحجُّر في ديانة كهذه. ولهذا أخبرنا المُخَلِّص بقصة العذارى العشر، اللواتي كان بعضهنَّ حكيمات والأخريات جاهلات (متى 25: 1–13). وبهذا فكأنه يقول: «هناك البعض مَنْ يصنع دينًا مني وملاذًا مريحًا، وحالة من السعادة والهناء. إلاَّ أن البعض الآخر من الناس سيكونون مسيحيين مفعمين بالحياة، ومنفتحين دائمًا على التغيير والإصلاح، ويبحثون دائمًا عن شيء جديد، إلى أن يتم تجديد العالم بأكمله.» لهذا أسألوا أنفسكم: أأنتم على استعداد لبذل كل غالٍ ونفيس لأجله أم لا؟
أصدقائي الأعزاء يجب أن ندرك مدى أهمية تسليم ذاتنا تسليمًا كاملاً. فهناك أشكال كثيرة من الديانة المسيحية التي لا تخضع فيها القلوب لله، وهناك الكثير من صيغ التديُّن التي تترك الناس تمامًا مثلما كانوا عليه من قبل توبتهم واهتدائهم. إذ إنَّ الكيفية التي يُخدَم بها يسوع، ولقاء الله، لم تُفهَم لِحدِّ الآن. فيظن الناس أن ذلك يتم عن طريق الكنائس، والمواعظ، واجتماعات الصلاة، ولكن هذا لا يتم بهذه الطريقة. وقد تأصَّلتْ هذه الطريقة فينا لدرجة أنها باتت تكلفنا جهدًا كبيرًا لكي نتمكن من الانصراف عنها، ومن ثم الالتفات مرة أخرى إلى ما يهيئ الطريق تهيئة حقيقية لمجيء ملكوت الله.
عندما يتحدث يسوع المسيح، يكون كلامه مُتعلِّقًا دائمًا بمسألة اجتماعية، ومسألة تخصُّ البشرية. فالذي صنعه يسوع كان تأسيس قضية الله على الأرض، من أجل إقامة مجتمع جديد لِيَضُمَّ في النهاية كل الأمم — على نقيض المجتمعات التي صنعناها نحن البشر، تلك المجتمعات التي لا يمكن فيها تكوين حتى عائلات حقيقية؛ حيث لا يعرف الآباء كيف يهتمون بأولادهم؛ وحيث تتشكل روابط الصداقة ومن ثم تتمزق؛ وباختصار، حيث الكل يعيش في حالة حزن وعذاب. ولمواجهة هذا النظام الاجتماعي التعيس والمُتهرِّئ، يريد يسوع المسيح بناء مجتمع جديد. ورسالته لنا: «أنتم تنتمون إلى الله لا إلى تلك المجتمعات التي يصنعها البشر.»
قرأتُ قبل مدة قصيرة كتابًا صغيرًا لقسيس روسي حيث يقول فيه إننا لا نحتاج إلى كنائس أو إلى كاتدرائيات — فإنَّ حظيرة للحيوانات ستقوم بالغرض نفسه. غير أن هذا الكلام لا علاقة له بالموضوع. إذ إنَّ يسوع المسيح ليس مؤسِسًا لديانة جديدة أو لشكل جديد أو حجم جديد لبناية الكنيسة؛ وإنما هو يُجدِّد الحياة. ويجب علينا محبة كلام الله الذي يقوله للبشرية؛ وإذا أردنا أن نحبه، وجب علينا أن نفهم أولاً أن هذا الكلام الحيَّ هو أعظم بكثير من القراءة الحرفية الخالية من الروح للكتاب المُقدَّس. ولا يمكن تكبيل كلام الله بالسلاسل والقيود كما لو أنه مدوَّن في إسمنت مُتصلِّب. فعندما تتجمد كلمة الله وتؤخذ بدون الروح، يمكن حتى لأفضل المسيحيين أن يبرروا كراهيتهم تجاه إخوانهم البشر، بل حتى يقتلونهم ويفصلون أنفسهم عنهم بكل شراسة.[1] لا أبدًا! فإنَّ كلام الله هو الكلام الذي يدعو إلى الالتزام برسالة الإنجيل المليئة محبة ومغفرة وعمل ومقاسمة، ومع ذلك فهو كلام التحرُّر من قيود الخطايا والظلمة.
ولكونكم ناسًا أحرارًا، فإنَّ ولائكم الوحيد هو لله، وواجبكم هو العمل الدؤوب ليتدخل الله في هذا المجتمع البائس، والضائع، والواقع تحت اللعنة. والآن قارنوا كلام الله هذا مع ديانتنا المسيحية الحالية. فاليوم، هناك مسيحيون يعتقدون أنهم (بعد مماتهم أو عند عودة يسوع) سيطيرون مع المُخَلِّص إلى السماء، ويضحكون على هؤلاء الذين تركوهم ورائهم. أمَّا أنا فليس بمقدوري فهم موقف الذين يُسَمُّون أنفسهم مُتَدَيِّنين ويعتبرون أنفسهم أفضل من الآخرين أو معفيين من تأديب الله. فمثل هذا النوع من الديانة زائف، لأنه يفصلني عن البشر الآخرين. ولا أريد أن يكون لي أيُّ علاقة به! لقد دخل يسوع المسيح مباشرة إلى صميم الحالة البشرية بكل بشاعتها، وتآلف مع الناس، ولم يفصل نفسه عَنَّا نحن البشر. وأريد على المنوال نفسه أن أمضي جنبًا إلى جنب مع أدنى الناس في الجحيم ولا أفصل نفسي عنهم. وشغفي أن أرى مَنْ سيُعتبَر بارًّا وصالحًا في النهاية. وأتساءل: أليس يسوع أعظم من بِرِّنا؟
لذلك، أرجو أن لا تستاؤوا مني إذا قلتُ لكم إنَّ الناس اليوم يفكرون في ملكوت الله على أنه فائق للطبيعة للغاية، وهو غريب تمامًا على حالتنا البشرية. فهم يؤمنون بهبوط شيء ما من السماء في يوم من الأيام، الذي سوف يُغيِّر كل شيء على الفور كمفعول السحر، وأمَّا في هذه الغضون، فيحقُّ لحياتنا بالاستمرار كما هي عليه، ما دمنا مهتمين بفرائضنا الدينية. فإنَّ الوضع قد تجاوز حدَّه، بحيث يمكنكم رؤية ناس مُتَدَيِّنين جدًا يعيشون ومن حواليهم ظروف معيشية غير عادلة وغير معقولة بشكل مريع، ولا يُحرِّكون إصبعًا لتغيير وتحسين أيِّ شيء فيها. وسيأتي يوم حين يُطلق على إيمانهم هذا دَجلاً. وأنتم تعلمون جيدًا أن يوم المُخَلِّص يأتي إلى أمثال هؤلاء كَلِصٍّ:
وَأَمَّا الأَزْمِنَةُ وَالأَوْقَاتُ فَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا، لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحْقِيقِ أَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ هَكَذَا يَجِيءُ. (1 تسالونيكي 5: 1–2)
ومع ذلك، فإنَّ المُخَلِّص يأتي أيضًا منتصرًا.
لذلك، إذا أردنا إصلاح ما في داخلنا على قدر استطاعتنا لكون يسوع يحيا فينا، وإذا أردنا أن لا نسعى إلاَّ لِمَا هو صالح، فإنَّ الطريق عندئذ يكون مُعبَّدًا بصورة صحيحة أمام الرب يسوع. وحتى لو بقي الكثير عندنا مما يحتاج إلى إصلاح بحيث لا يقدر أحد غير الرب على إصلاحه في النهاية، فإنِّنا سنبيِّن من خلال موقفنا هذا أننا ناس لا ينتظرون ويترجون خلاصهم الشخصي فقط بأسلوب متمركز حول الذات وأناني، وإنما نحن بالأحرى تستحوذ علينا الحماسة لتمهيد الطريق لله، حتى لو كان ذلك مجرد عمل ضئيل جدًا.
وأؤكد لكم أن كل شيء — نعم، كل شيء — الذي يأتي من ملكوت الله يجب إعداده هنا على الأرض أولاً. فيجب أن يصبح هذا الإعداد عمليًّا بشكل متزايد حتى يمكن في النهاية أن يكون مفهومًا بوضوح. ويجب أن نبذل جُهدًا لأجل الله حيثما نسكن، وحيثما نعمل، لكي تكون الغاية في كل ما نفعله إكرام الله. عندئذ لن نشغل أنفسنا بموعد عودة المُخَلِّص سواء كان غَدًا أو بعد ألف عام. فنحن نحيا سَلَفًا لأجل مجيئه. ويصبح ملكوت الله قضيتنا، ويتزايد ظهوره لنا في الحياة بأكثر وضوح وتأكيد، لأننا بموقفنا هذا نتمكن من أن نحيا شيئًا مُقدَّسًا وساميًا من عند الله.
لذلك، فليفكِّرْ كل شخص هكذا: بأيِّ طريقة يمكنني إظهار الطاعة، من باب المحبة ليسوع الرب؟ نعم، بأيِّ طريقة يمكنني إظهار الطاعة اليوم بالذات؟ وهناك فرح عظيم في السماء عندما يقوم أحد الأشخاص بعمل بشيء صالح لله. ويمكن أن يكون هذا الشيء صغيرًا جدًا، ولكن ثماره الصالحة تكون منظورة بشكل مؤثِّر عندما لا يفكر الإنسان إلاَّ في أن يكون مُطيعًا، نعم، مُطيعًا لأيِّ وصية حقيقية تؤثر في القلب. فالسماء كلها مُتحمِّسة لمثل هؤلاء التلاميذ. وكفانا ناسًا يُصلُّون ويحضرون الاجتماعات الروحية وخدمات الصلاة. ولدينا عدد كبير زائد على اللزوم من الذين يتجادلون حول ما يعتقدونه حقًّا أو باطِلاً. أمَّا الفعلة، فليس لدى السماء كفاية منهم! فلا يوجد ناس كثيرون يستوعبون أن ما يُفتَقَر إليه بالدرجة الرئيسية هو ليس المعرفة أو التعاليم أو المواعظ. فإنَّ ما يُفتَقَر إليه هو الحياة الصحيحة، وهذه الحياة لن تتحقق إلاَّ بعد أن يتبنى الناس معًا موقفًا أكثر صدقًا وأصالة إكرامًا لله.
ويجب أن يكون هذا الموقف موقفنا. فيجب أن تلتهب الحماسة في داخلنا، لا لمجرد الحصول على شيء من الانتعاش الروحي، بل للقيام بعمل ذي شأن للمسيح، عمل صحيح وحقيقي أمامه وأمام سلطانه. فهَلُمُّوا بنا يا أيها الأصدقاء لنسعى جاهدين بكل حماسة وهِمَّة. فهذا هو الطريق الذي سنمضي به لاستقبال ملكوت الله. آه، كم أتمنى لو كان بإمكاني توضيح هذه النقطة لكل مَنْ يقرأ هذا الموضوع! فيتوقف الأمر كثيرًا على الرغبة الداخلية الشديدة لتلاميذ يسوع المسيح في أن يجري منهم ينبوعٌ غنيٌّ بالحيوية، وبالحياة المليئة بالحركة والعطاء والخدمة، الذي يمكن أن يزدهر بفضله كيانهم كله، ويبقى خاضِعًا لهم باستمرار، لغاية اللحظة التي يتمكنون فيها من الانتساب كُليًّا وتمامًا إلى الرب.
للأسف، إنَّ التلمذة للمسيح صعبة، ولهذا السبب كان لدى يسوع عدد قليل جدًا من التلاميذ. فقد قال الرب يسوع:
لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا! (متى 7: 21–27)
فكل مَنْ لا يتبع أيَّ وصية، وأيَّ كلمة تأتيه في الحقِّ، لن يحصل على الملكوت. فلن يدخل الإنسان الملكوت ما لم يكُن مُطيعًا! فإنَّ أكثر ما يضرُّ ملكوت الله هو قلة الراغبين في أن يكونوا مُطيعين. فبدلاً من طاعة الرب، نرى أن كل شخص يُنمِّي طرازه الخاص عن الأمور الروحية. فهناك الآن ألف تعبير للأمور الروحية: أيْ باختصار، شتى أنواع التديُّن المظهري. ولكن أين ذاك الذي يطيع وصية إلَهِيَّة بسيطة عندما تأتيه في الحقِّ، ومن ثم يخضع لها؟ وأين ذاك الذي يسمح لنفسه بأن يجتاز المصاعب والأخطار من أجل الله ويسوع المسيح، ومع ذلك يبقى أمينًا، كبطرس الرسول؟ فيعلم شخص كهذا في قلبه أن «يسوع هو الطريق! وسأتبعه سواء واجهتُ موتًا أو حياةً! فإنَّ يسوع المسيح هو المنتصرٌ، رغم أن هذا يتعارض مع كل أفكاري ومزاجي، ولكنني سأبقى مع الرب يسوع المسيح.»
أقول لكم إنَّ يسوع المسيح سوف يأتي مُنتصِرًا، وسوف يَصرعُكم بدون رحمة، حتى لو عقدتُم كل آمالكم على ملكوت الله، ما لم تكونوا ناسًا مطيعين لله. كما يخبرنا الإنجيل:
وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي سَارْدِسَ: «هَذَا يَقُولُهُ الَّذِي لَهُ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ وَالسَّبْعَةُ الْكَوَاكِبُ. أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّ لَكَ اسْمًا أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيِّتٌ. كُنْ سَاهِرًا وَشَدِّدْ مَا بَقِيَ، الَّذِي هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَمُوتَ، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَعْمَالَكَ كَامِلَةً أَمَامَ اللهِ. فَاذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمِعْتَ وَاحْفَظْ وَتُبْ، فَإِنِّي إِنْ لَمْ تَسْهَرْ أُقْدِمْ عَلَيْكَ كَلِصٍّ، وَلاَ تَعْلَمُ أَيَّةَ سَاعَةٍ أُقْدِمُ عَلَيْكَ.» (الرؤيا 3: 1–3)
وحتى لو كنتم ضعفاء فلا يهم هذا ما دام كل واحد منكم يقول: «سأتبعك! سأتبعك! سأتبعك! وسأذهب مباشرة إلى الحقِّ حيثما أراه، ولن أتوقف أو أتردد لأفكر في الأمر. وسأخدم يسوع إكرامًا لله!» فبهذه الطريقة فقط سيكون هناك حلقة من التلاميذ حول يسوع بحيث يمكنه أن يعتمد عليهم. فهو لا يحتاج إلى ناس أقوياء، أو مغرورين بثقتهم بالنفس، أو جسورين، أو مُتعلِّمين لا يعتمدون إلاَّ على التعليم الدنيوي، أو شجعان لا يعتمدون إلاَّ على القوة البشرية في تحقيق الأمور في العالم. فإنَّ المسيح يحتاج إلى ناس متألمين، الذين يخشون من أن يصبحوا غير مطيعين لوصاياه. فهؤلاء هم الناس الذين يحتاجهم الرب يسوع لأنهم خُدَّامٌ. أمَّا بقية الناس الآخرين الذين لديهم تقوى مُتصنِّعة ويحسون بأمان كبير بها، فيصعب تسخيرهم ليصبحوا خدامًا لله في أكثر الأحوال. ولكن أولئك الذين يخافون الله ويحيون بارتعاش في حضرته، الذين يُهِزُّهم كلام الحقِّ في صميم كيانهم ويذهلهم، ومع ذلك يستجيبون له، ويقولون له بفرح: «نعم!» ويتخذون الإجراءات العملية ووضع وصايا الرب موضع التطبيق العملي — فإنهم في الحقيقة شعب الرب.
لذلك، يجب علينا أن نتعلم تسليم أنفسنا لله بطريقة بسيطة جدًا، وعملية جدًا، وننكب على العمل والخدمة بكامل الغيرة: «سأسلِّم نفسي لله، وسأجعل قضية الله من أهم اهتمامات روحي، لكيما تتحقق على هذه الأرض.» فنحن نريد أن نحيا بطريقة معينة بحيث يتسنى لأمرٍ منظورٍ وذي شأنٍ أن يحدث على هذه الأرض ليتمجَّد الله، أمر لا يستطيع البشر صنعه.
ولَعَلَّ الله أن ينعم علينا بأن ندرك هذه النقطة ونكون واثقين منها. فهي سهلة جدًا، وبسيطة جدًا، وواضحة جدًا، بحيث يمكن لأيِّ طفل أن يفهمها. وليصبح كل إنسان مُطيعًا في المكان الذي هو فيه. واستمعوا! استمعوا أيها الأولاد عندما يُقال لكم شيءٌ حقٌّ، فتحمَّسوا لتفعلوه. وأنتم أيها الشباب والشابات، إذا كنتم تعلمون أن شيئًا ما حقٌّ، فافعلوه! وأنتم أيها الشيوخ من رجال ونساء، إذا رأيتم أن هناك شيئًا حقًّا، فافعلوه! وأيُّ شخص آخر بيننا، سواء كان مريضًا أو معافًى، ذا منزلة عالية أو واطئة، غنيًّا أو فقيرًا — فإذا علمتَ أن هناك شيئًا حقًّا، فافعله إذن! ولا تفكر كثيرًا في الأمر. وإنما فكر فقط في هذا: أهو حقٌّ، أم باطلٌ؟ فإذا كان حقًّا، فافعله بدون تردد. عندئذ تكتشف، أنه من خلال الحقِّ الذي اتبعته عمليًّا، أنك بدأت بمعرفة وفهم المسيح
هذا المقال مقتطف من كتاب «في انتظاره فعل»
[1] مثلما نرى أن هناك مسيحيين يؤمنون بنظرية الحرب العادلة التي تبيح قتل أولئك الذين يعتبرونهم «أشرارًا.»