المشاركة هي جوهر طبيعة الله
نحن نعيش حياة مسيحية مشتركة لأننا نعلم أنّ الله قد دعانا لنشهد للحياة وللسلام وللعدل ولملكوته. فالله محبة. ولطبيعته المثلثة (الثالوث الأقدس) ألآب والابن والروح القدس شركة واحدة ووحدة مع نفسه.
الحياة المسيحية المشتركة في الكنيسة الأولية
عندما حلّ الروح القدس على الرسل والكنيسة الأولية في أورشليم يوم العنصرة، شارك كل واحد منهم الآخرين بجميع أملاكه ومواهبه، والكل حاز على حاجته. وكانوا قلباً واحداً ونفساً واحدة، كأعضاء الجسم الحيّ. لذلك صاروا جسماً واحداً، روحه كانت روح الله. ونرى هذه الشهادة مدونة في الإنجيل في سفر أعمال الرسل الفصل الثاني العدد 44-47 كما يلي:
وكانَ المُؤمِنون كُلُّهُم مُتَّحِدينَ، يَجعَلونَ كُلَّ ما عِندَهُم مُشتَركًا بَينَهُم، يَبيعونَ أملاكَهُم وخَيراتِهِم ويَتقاسَمونَ ثَمَنها على قَدرِ حاجَةِ كُلِّ واحدٍ مِنهُم. وكانوا يَلتَقونَ كُلَّ يومٍ في الهَيكَلِ بِقَلبٍ واحدٍ، ويكسِرونَ الخُبزَ في البُيوتِ، ويَتَناولونَ الطَّعامَ بِفرَحِ وبَساطةِ قَلبٍ، ويُسبِّحونَ اللهِ، وينالونَ رِضى النّاسِ كُلِّهِم. وكانَ الرَّبُّ كُلَ يومِ يَزيدُ عَددَ الّذينَ أنعمَ علَيهِم بالخلاصِ.
وكذلك في الفصل الرابع من سفر الأعمال العدد 32-35:
وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً، لا يَدَّعي أحدٌ مِنهُم مُلْكَ ما يَخُصُّهُ، بل كانوا يتَشاركونَ في كُلِّ شيءٍ لهُم. وكانَ الرُّسُلُ يُؤدُّونَ الشَّهادَةَ بِقيامَةِ الرَّبِّ يَسوعَ، تُؤيِّدُها قُدرَةٌ عَظيمةٌ. وكانَتِ النِّعمَةُ وافِرَةً علَيهِم جميعًا فما كانَ أحَدٌ مِنهُم في حاجةٍ، لأنَّ الّذينَ يَملِكونَ الحُقولَ أوِ البُيوتَ كانوا يَبيعونَها ويَجيئونَ بِثَمنِ المَبيعِ، فيُلقونَهُ عِندَ أقدامِ الرُّسُلِ ليُوزِّعوهُ على قَدرِ اَحتِياجِ كُلِّ واحدٍ مِنَ الجماعَةِ.
المجتمع المسيحي كالجسم الحيّ
تُبيّن لنا كل الكائنات الحية أهمية الشركة والاعتماد والتكافل لكافة أعضاء أجسامها. وأجسادنا البشرية أقرب مثال إلى المجتمع المتشارك، فنحن نحيا مادامت جميع الأعضاء والخلايا تعمل وتتعاون معاً بوحدة ووئام. وحالما تنعدم الوحدة والعمل المشترك بينها يمرض الجسم، وإذا لم تُحلّ مشكلة التجزئة فسيموت الجسم. وإذا مشت الأرجل باتجاهات مختلفة، فستكون النتيجة طبعاً أنّ الجسم سيتمزق ويموت، وتموت معه الأرجل. وماذا سيحدث إذا اِدّعتْ الأيادي بأنّ الخبز الذي تحمله هو ملكها الخاص بها، لأنها هي التي صنعته؟!... فستكون النتيجة حتماً المرض وموت الجسم بأكمله. وستموت الأيادي أيضاً لانخداعها من قبل أنانيتها. فيمكننا وصف عمل مستفحل كهذا بالسرطانية. وبهذا المفهوم يمكننا أيضا وصف حالة البشرية اليوم بالسرطانية الكاملة: حروب وظلم وعنصرية وقتل الملايين من الناس ومن ضمنهم أطفال أبرياء باسم القومية والوطنية وحتى باسم الله.
وللتغلب على هذه القوة القاتلة المشتِّتة لأعضاء الجسم الحيّ، يجب علينا أن نعيش كمجتمع أخوي بمحبة ومشاركة تامة وبكل ما تعنيه هذه الكلمات. وبحسب الكتاب المقدس وبحسب ما رأيناه من خلال تجربتنا الشخصية فإنّ هذا غير ممكن إلّا من خلال قوة المحبة التي يهبها الله من خلال يسوع المسيح. وبكلمة أخرى، لا ينبثق المجتمع الحقيقي ويتجسد على أرض الواقع وتراه العيون إلّا في حالة تحرّقنا شوقاً لاِتِّباع يسوع المسيح.
الحياة المسيحية المشتركة والمحبة للقريب
إنَّ ما يعنيه اِتِّباع المسيح هو محبة الله الذي لا نراه، ومحبته يجب أن تفوق كل شيء، وأيضاً محبة قريبنا مثل نفسنا (أيْ محبة الآخرين مثل نفسنا)، وهذا يشمل حتى أعدائنا. ولابد للوصية "أحِبَّ قَريبَكَ مِثلَما تُحبُّ نفسَكَ" أن تعني أن نكون على استعداد للعيش في شركة ومقاسمة مع الآخرين واِسترخاص كل غالٍ ونفيس من أجلهم. ولا تعني شركة كهذه الروحيات فحسب بل أيضاً الماديّات لأنه يجب أن يتمّ التعبير عن الحياة المسيحية بواقع مادي ملموس.
نرى في نهاية الموعظة على الجبل وبعد أن وضّح يسوع الطريق المؤدي إلى ملكوت الله، أنذر مستمعيه أنه إذا سمعوا كلامه وما عملوا به فقد بَنَوْا حياتهم على رمل سيجرفها السيل الآتي.
ممالك العالم وملكوت الله
المملكة هي منظمة تنظم عدداً من الإفراد ليكوّنوا شعباً واحداً. وتعني كلمة ملك في أصلها العبري: مستشار. ولكن هناك فرق كبير بين مستشار المحبة ومستشار الجزاء (أي الذي يعتمد منطق العقاب والثواب الخالي من المحبة). وهكذا نرى هناك فرق كبير بين ملكوت الله وأية مملكة أو جمهورية أو دولة من هذا العالم.
فملكوت الله هو جسم حيّ لمجموعة من البشر الذين لديهم نفس روحانية واحدة وملك واحد هو الله. لهذا السبب توجد علاقة عميقة بين ملكوت الله والمشاركة الكاملة. فلا يستطيع المرء أن يكون مواطناً في مملكة كهذه مجرد عن طريق الكلام أو الأفكار وإنما من خلال الأعمال فقط، أيْ بالاستماع والعمل بما يشير إليه الملك. إنّ روح المحبة في جسم ملكوت الله يعمل مثل الروح بالعضو الجسمي. حيث نرى الأعضاء على اختلافها وتعددها تسمح لنفسها لان تنقاد على المجرى نفسه بواسطة روح المحبة. وتعيش كل الأعضاء معاً في عِشْرَةٍ أخوية منسجمة، ولأنها تستمع إلى ذات المستشار ومستعدة لإطاعته ستستطيع عندئذ تحقيق الإجماع أيْ الاتفاق التام. وسنبقى كمواطنين في ملكوت الله مادمنا نعمل بما يقوله المستشار. وكل ما يبعدنا عن هذا الطريق هو الإثم، فيتحتم علينا عندئذ التوبة. ولا تَتضمّنْ هذه التوبة ترديد كلمات سحرية أو القيام ببعض المراسيم الدينية أو الإيمان ببعض التعابير اللاهوتية، وإنما تَتضمّنْ عمل ملموس تحسّ به الجماعة. فيجب أن تتغيّر قلوبنا وضمائرنا ومعها أيضاً أفعالنا.
لا تنتمي أيّة مملكة من ممالك هذا العالم إلى ملكوت الله، فهذا ما تيّنته لنا بوضوح حياة يسوع المسيح. فبعد معمودية السيد المسيح مباشرة حاول إبليس أن يجرّبه. فقد عرض إبليس جميع ممالك العالم على السيد المسيح وقال أنه يستطيع أن يهبها كلها للمسيح بمجرد سجود المسيح له، لأن إبليس كانت له الصلاحية لإعطائها لمن يشاء. ولم ينقض يسوع هذه الحقيقة الأخيرة، فمن هذا نفهم أن دول العالم يسيّرها أعداء الله، لأن الشيطان هو مستشارها والذي هو آب لجميع ملوك الظلام.
أما المجتمع الذي أساسه الله فهو يمثّل أيضاً سفارة ملكوت الله ويبيّن ماهية الملكوت من خلال الوحدة والعدالة اللتين يتسم بها.
المجتمع المسيحي كسفارة
أنّ الذين يعيشون حياة مسيحية كليّة المشاركة هم سفراء لملكوت الله، ويطـيعون حكومتـهم أي يطـيعون ملكـهم ومستشارهم. وهم يمثلون ملكهم ولكنهم لا يعلمون أو يتكهنون بما سيفعله الله أو يأمر به. فربما يطلبون منه مساعدة ولكنه هو الذي سيقرر بأمر ما يجب فعله. إنه يعرف أفضل من منتسبي سفارته عن ماذا أو متى يجب فعل أمرٍ ما. فالمجتمع المسيحي هو جمعية حيّة مكونة من أعضاء من دول وخلفيات مختلفة ولديهم مواهب متعددة، فهو سفارة المملكة القادمة في وسط ممالك العالم.
تاريخ إسرائيل – كتحذير لنا
يسلط الكتـاب المقـدس ضوءاً مثيراً على الموضوع. فبعد أن أصبحت عائلة إبراهيم قوماً ومن ثم وبعد عدة سنوات جرى استعبادهم في مصر على يد الفراعنة، تضرعوا إلى الله الذي سمع صراخهم وحرّرهم من العبودية. ومن الجدير بالذكر، لم تكن هناك أية "حرب تحرير" لأنه لم يكن لليهود أسلحة، في حين كان المصريون مسلحين بأفضل أسلحة عصرهم. فلم يتحقق النصر بفضل اليهود أنفسهم وإنما بفضل الله. وبعد أن اثبت الله أنه أقوى من الدولة المصرية، عرض الله على اليهود اتفاقية والتي من خلالها وعدهم بأن يكون هو بنفسه مستشارهم وحاميهم وملكهم إذا استمعوا إليه وعملوا بمشيئته. فبذلك سيتمكن مواطنو ممالك العالم أن يروا أي نـاس يـودُّهـم الله. فقَبَلَ اليهود هذه الاتفاقية طوعياً، ولكن الله أنذرهم بما سيحصل لهم إذا لم يسمعوا لمشورته. غير أنَّ الشيطان استطاع أن يُقنع الناس بالاعتقاد بأنّ الخلاص من أعدائهم كان بفضلهم هم وليس بفضل الله. وبعد أن توالت الأجيال بعثوا شيوخهم إلى النبي صموئيل يطلبون إقامة ملك عليهم لإدارتهم وقيادتهم في المعارك ليصبحوا شعباً "كسائر الشعوب". وبقلق توجّه صموئيل إلى الله وطلب منه جواباً للناس. فأجـاب الله أنّ الناس: "يرفُضونَني أنا كَمَلِكٍ علَيهِم". ومن ثم قال الله لصموئيل أن يخبر الناس بالعواقب الوخيمة المترتبة عن اختيارهم لنهج إقامة ملك بشري عليهم، "وأنتُم تكونونَ لَه عبيدًا". "في ذلِكَ اليومِ تصرُخونَ إلى الرّبِّ، كي يُنقِذَكُم مِنَ المَلِكِ الذي اَختَرتُموهُ لأنفُسِكُم، فلا يُجيبُكُمُ الرّبُّ". وبالتالي قال الله لصموئيل على مَضَضٍ "إسمَعْ لهُم وأقِمْ علَيهِم مَلِكًا". ولكن، أكانت هذه رغبة الله الحقيقية والأصلية، أم إنها مجرد إرادته النسبية؟!... فعلى ضوء ما نهتدي إليه من حقيقة يوم الحساب عندما سيجازي الرب الصالحين ويعاقب الطالحين فإنّ إرادة الله النسبية تتضمن السماح لنا أن نفعل ما تشاءه أنفسنا فنعرف بعدها عواقبها الوخيمة، وبذلك يعطينا الله الفرصة للرجوع عن المعصية والتحلي بالتوبة والمصالحة.
وإليكم النص الكتابي لهذه الحقيقة من سفر صموئيل الأول الفصل الثامن العدد 1-22:
ولمَّا شاخ صَموئيلُ أوكَلَ إلى بَنيهِ القضاءَ لإِسرائيلَ. فكانَ اَبنُه البِكْرُ يوئيلُ، واَبنُهُ الثَّاني أبيَّا، قاضِيَينِ في بِئرِ سَبعَ. ولم يَقتَدِيا بِأبيهِما، فسَعيا وراءَ المكاسِبِ، وقَبِلا الرَّشوةَ، واَستَهانا بِالعَدالةِ. فاَجتمَعَ شُيوخ بَني إسرائيلَ وجاؤُوا إلى صَموئيلَ في الرَّامةِ وقالوا لَه: ((أنتَ شِختَ، وبَنوكَ لا يقتَدونَ بِكَ، فأقِمْ علَينا مَلِكًا يقضي بَينَنا كما هيَ الحالُ في جميعِ الأُمَمِ)). فاَستاءَ صَموئيلُ مِنْ قولِهِم: ((أقِمْ علَينا مَلِكًا يقضي بَينَنا)). فصلَّى إلى الرّبِّ. فقالَ لَه الرّبُّ: ((إسمَعْ لِكلامِ الشَّعبِ في جميعِ ما يقولونَ لكَ. فهُم لا يرفُضونَكَ أنتَ، وإنَّما يرفُضونَني أنا كَمَلِكٍ علَيهِم. فكما عامَلوني مُنذُ أخرَجتُهُم مِنْ أرضِ مِصْرَ إلى هذا اليومِ إذْ تركوني وعبَدوا آلِهةً غريبةً، هكذا يُعامِلونَكَ أنتَ أيضًا. فاَسمَعْ لِقولِهِم، ولكِنْ أنذِرْهُم وأخبِرهُم بِحُقوقِ المَلِكِ علَيهِم)). فأخبَرَ صَموئيلُ شُيوخ الشَّعبِ الذينَ طَلَبوا مِنهُ مَلِكًا بِجميعِ ما كلَّمَه بهِ الرّبُّ، وقالَ لهُم: ((هذِهِ حُقوقُ المَلِكَ علَيكُم: يأخذُ بَنيكُم ويُجنِّدُهُم لِخيلِهِ ومركباتِهِ وللجري أمامَ مركبَتِهِ. ويتَّخذُ مِنهُم قادةَ ألفٍ وقادةَ خمسينَ وفلاَحينَ وحصَّادينَ وصُنَّاعًا لآلاتِ حربِهِ وأدَواتِ مركباتِهِ. ويتَّخذُ بَناتِكُم عطَّاراتٍ وطبَّاخاتٍ وخبَّازاتٍ. ويأخذُ أفضَلَ حُقولِكُم وكُرومِكُم وزيتونِكُم ويُعطيها لِرجالِهِ. ويأخذُ ضَريبةَ العُشْرِ مِنْ زرعِكُم وكُرومِكُم ويُعطيهِ لِحاشيتِهِ وسائِرِ رِجالِهِ. ويأخذُ عبيدُكُم وجواريَكُم ونُخبةَ بقَرِكُم وحميرِكُم ويستَخدِمُها. ويَجبي ضَريبةَ العُشْرِ مِنْ ماشيتِكُم، وأنتُم تكونونَ لَه عبيدًا. في ذلِكَ اليومِ تصرُخونَ إلى الرّبِّ، كي يُنقِذَكُم مِنَ المَلِكِ الذي اَختَرتُموهُ لأنفُسِكُم، فلا يُجيبُكُمُ الرّبُّ)). فرفَضَ شُيوخ الشَّعبِ أنْ يَسمَعوا لِصَموئيلَ وقالوا: ((كلاَ، بل يَملِكُ علَينا مَلِكٌ. ونكونُ نحنُ أيضًا كسائِرِ الشُّعوبِ، فيَقضي بَينَنا ويكونُ قائِدَنا ويُحارِبُ حُروبَنا)). فسَمِعَ صَموئيلُ هذا الكلامَ ورَدَّدَهُ على مَسامِعِ الرّبِّ. فقالَ لَه الرّبُّ: ((إسمَعْ لهُم وأقِمْ علَيهِم مَلِكًا)). فقالَ صَموئيلُ لِشُيوخ بَني إِسرائيلَ: ((إنصَرِفوا الآنَ كُلُّ واحدٍ إلى مدينَتِهِ)).
تحديات الحرب
نرى من خلال الحروب الحالية التي تجري الآن بين دول العالم، حيث مئات الجنود مستعدون لبذل حياتهم لما يعتقدونه بأنه عادل وأيضاً من اجل تطلعات شعوبهم، نرى أنهم بهذا الأسلوب يحاولون أن يخدموا سيِّدين. وسينتهي بهم المطاف دائماً إلى الموت وذلك بسبب حصيلة اهتمامات شعوبهم الأنانية. وطبعاً يستطيع الله بجبروته أن يمنع كل هذا ولكنه يسمح بذلك لكي يهزّنا وليسألنا: "إلى أي هدف تريدون تكريس حياتكم التي وهبتها لكم؟" فيكون جواب الذين يعيشون الحياة المسيحية الكلية المشاركة دائماً هو: "أن نعيش لله ولسلامه ولعدله". فبذلك فهم شهود للحياة ولملكوت الله.
لمزيد من التأمل في هذا الموضوع اِقرأ كتاب "أسباب حياتنا المشتركة"