لم يكُن بإمكان أيِّ شخص ولا أيِّ جماعة من تأسيس أول مجتمع حياة مشتركة لكنيسة المسيح. فلم يكُن بإمكان لا الخطابات البليغة ولا الحماسة الملتهبة من إيقاظ الآلاف للمسيح الذين تأثروا كثيرًا في ذلك الوقت، ولم يكُن بإمكان هذه الأمور أيضًا من أن تُثمِر الحياة المُتَّحدة للكنيسة الأولى. وكان أصدقاء يسوع يعرفون ذلك جيدًا. أَلَمْ يأمرهم هو بنفسه، القائم من بين الأموات، بأن ينتظروا في أورشليم لإتمام الوعد العظيم؟
وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي. (لوقا 24: 49)
فقد عمَّد يوحنا المعمدان بالماء كل الذين سمعوا لكلامه. أمَّا الكنيسة الأولى، فكان يتعيَّن عليها أن تنغمس في الريح المُقدَّسة لروح المسيح وتمتلئ منه:
ولَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ. (أعمال 2: 1–2)
. . . . . . .
أوعز يسوع المسيح إلى تلاميذه في البقاء في أورشليم إلى أن يُلْبَسُوا قوة من الأعالي. فهكذا تمَّ تأسيس كنيسة المسيح، الذي لم يكُن بدوره ممكنًا إلاَّ بفضل حقيقة القيامة — قيامة يسوع المسيح من بين الأموات. فما أول شيء أعلنه الرُّسُل؟ لقد أعلنوا هذه البشرى التي مفادها أن هذا الطاهر الذي صلبتموه وقتلتموه قد أقامه الله من بين الأموات!
أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ اسْمَعُوا هَذِهِ الأَقْوَالَ: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ. هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمَا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ. (أعمال 2: 22–24)
. . . . . . .
في يوم الخمسين، أحسَّ رُسُل يسوع المسيح فجأة بقربهم من الناس الآخرين وزوال الحواجز النفسية، لأن الذين كانوا يستمعون إليهم أخذوا كلامهم على محمل الجدِّ، بسبب كلام الرُّسُل الذي أصدى لغتهم الأم، وأصدى أيضًا دعوتهم الإلهية الحقيقية. فقد تأثَّر الحشد بالروح القدس نفسه الذي تكلم بلسان رعاة الكنيسة؛ فقد كان للمستمعين التجربة الروحية الجارفة نفسها كما كانت للمتكلمين:
وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا صَارَ هَذَا الصَّوْتُ، اجْتَمَعَ الْجُمْهُورُ وَتَحَيَّرُوا، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ. فَبُهِتَ الْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هَؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟ فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا؟ فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلاَمِيُّونَ، وَالسَّاكِنُونَ مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، وَالْيَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَبُنْتُسَ وَأَسِيَّا وَفَرِيجِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ وَمِصْرَ، وَنَوَاحِيَ لِيبِيَّةَ الَّتِي نَحْوَ الْقَيْرَوَانِ، وَالرُّومَانِيُّونَ الْمُسْتَوْطِنُونَ يَهُودٌ وَدُخَلاَءُ، كِرِيتِيُّونَ وَعَرَبٌ، نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ اللهِ!» (أعمال 2: 4–11)
لم يكُن ذلك لا تنويمًا مغناطيسيًّا ولا إقناعًا بشريًّا. فقد سمح الناس لله بأن يعمل في نفوسهم؛ وتشدَّدوا في عزيمتهم بفضل روحه القدوس، وامتلئوا منه. ولم يتجسَّد في تلك اللحظة سوى روح الحياة الجماعية الحقيقية التي اتخذت شكلاً وبنية ملموستين؛ فقد وُلِدتِ الوحدة العضوية لجسد المسيح السِّرِّي، وهي مجتمع الحياة المشتركة للكنيسة...
أمَّا الحشود التي جاءت من شعوب مختلفة للاحتفال بيوم الخمسين فقد صرختْ بصوت واحد قائلة:
نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ اللهِ! (أعمال 2: 11)
فلم يأخذوا أيَّ شيء بعين الاعتبار غير أعمال الله العظيمة. فقد كان يوم الخمسين يُمثِّل، بكل ما تخلله من أحداث، أسلوب الله في تجسيد حكمه المستقبلي، وتحقيقه على أرض الواقع. وكان يوم الخمسين رسالة الله إلى جميع الشعوب عن حياة البِرِّ والطهارة والعِفَّة والمؤاخاة، وهو برهان عظيم على أعمال الله من أجل البشرية كلها، ومن أجل كل فرد على الأرض...
في يوم الخمسين، عندما وقف قتلة يسوع في حضرة المسيح الحيِّ، تواجهوا مع صدقٍ خالصٍ، ومع ضرورة مُلِحَّة على أن يكونوا صريحين مع أنفسهم. فتوجَّعت قلوبهم وأحسَّوا بعدئذ بحاجتهم الماسة إلى غفران خطاياهم. وعرفوا معنى الفقر الروحي الذي لا يُغنيه سوى استلام الروح القدس نعمةً إلَهِيَّةً. وكانت استجابة الناس الأولى لهذا التدفُّق العارم للروح القدس، والعلامة على فقرهم الروحي، وتحرُّقهم لإرشاد الرُّسُل، ورغبتهم العارمة ليكونوا أداة مُسخرة بيد الله، هو السؤال الذي فاض من قلوبهم، إذ قالوا:
مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟ (أعمال 2: 37)
ونتيجة لذلك، حدث تحوُّلٌ كاملٌ في الكيان الداخلي للناس، وإعادة صياغة شكل حياتهم. وهذا التَّغيُّر في القلب والسلوك بحدِّ ذاته هو في الواقع ما أعلنه يوحنا المعمدان أنه شرط أولي لمجيء الثورة العظيمة، أيْ بمعنى قلب كل شيء رأسًا على عقب. فلا يمكننا فصل الولادة الروحية الثانية الشخصية عن هذا التحوُّل الكُلي لحياة المؤمن بفضل المسيح، (لأنه نتيجة حتمية لتلك الولادة).
. . . . . . .
عندما نتكلم عن الحياة المشتركة، فإننا نعني بهذا جماعة تسيِّرها سيادة الله، وذلك تماشيًا مع نبوءات الأنبياء عن ملكوت الله.
ما ملكوت الله؟ إنه مجتمع مؤمن بالله، وقائم على عدله، أيْ بمعنى، عدالة بمرأى من الله ليتفحصها جيدًا، تلك العدالة الاجتماعية التي هي من إحدى مقومات الجماعة الأخوية. أحبِبِ الله! وأحبِبْ قريبك! (راجع متى 22: 37–40) فهذا ما تعنيه العدالة. أحبِبِ الله بأسلوب بحيث تصبح في وحدة معه. وأحبِبْ قريبك بأسلوب بحيث تصبح في وحدة معه. ويُصلِّي يسوع من أجل أن يتعرف العالم على شخصيته وعلى معنى المحبة أيضًا، وذلك بمجرد النظر إلى تلاميذه. ولا يمكن لهذا أن يتم إلاَّ إذا كانت هناك وحدة كاملة فيما بين تلاميذه. ففي وحدة الكنيسة المتشاركة، وفي وحدة ملكوت الله، يلتقي العدل والسلام والفرح وينسابون معًا.
فلأجل هذه الوحدة مات يسوع وقام من بين الأموات. لأن كل أقواله، وأفعاله وحياته، كانت لأجل الوحدة. ولهذا السبب نرى أن هذه الوحدة في الروح القدس كانت موجودة في اللحظة التي حَلَّ فيها الروح القدس على جماعة التلاميذ في يوم الخمسين. فهكذا صار المسيحيون الأوائل واحدًا. وكانوا مُتَّحِدين في تعليم الرُّسُل. لأنهم كانوا يعرفون أن الروح القدس حَلَّ على الرُّسُل وعليهم على حدٍّ سواء. ولهذا كانت هناك وحدة تامة بين الرُّسُل وبقية المسيحيين الأوائل بشأن فهم الحقيقة.
فإذا كُنَّا مُتَّحِدين مع الروح القدس نفسه، الذي بفضله أُعْلِنَ الله للمسيحيين الأوائل، فسنكون في وحدة تامة مع الكنيسة الرسولية ومع شهادتها، ومع كتابات الرُّسُل والأنبياء. فإنَّ نظرتنا إلى الكتاب المُقدَّس هي كالآتي: إنَّ الكتاب المُقدَّس يشهد لروح الوحدة التي يريدها الله.
. . . . . . .
إننا نتعارض كُليًّا مع النظام الحالي للمجتمعات التقليدية في البلاد. فنحن نُمثِّل نظامًا مختلفًا، وهو نظام كنيسة المسيح المتشاركة كما كان عند الكنيسة الرسولية الأولى في أورشليم بعد حلول الروح القدس، حيث أصبح جميع المؤمنين قلبًا واحدًا وروحًا واحدة. فكانت وحدتهم على الصعيد الاجتماعي منظورة للجميع، وذلك بفضل تآخيهم التام. أمَّا على الصعيد الاقتصادي، فكان ذلك معناه التَّخلِّي عن جميع الممتلكات الخاصة بهم وتشكيل جماعة ذات حياة كُليَّة المشاركة، وخالية من أيِّ إكراه. وهكذا نحن مدعوون لتمثيل الأمر نفسه في وسط العالم اليوم، الذي بطبيعة الحال سيسبب لنا الكثير من المصادمات مع الآخرين. هذا من ناحية، أمَّا من الناحية الأخرى، فليس بودنا تحميل هذا العبء على أيِّ شخص مهما كان، ما لم يثمِّن هو بنفسه (أو هي بنفسها) عظمة ملكوت الله، ويضعه قبل كل شيء آخر، ويحسُّ روحيًّا بأنه متأكد من عدم وجود أيِّ طريق آخر غيره ليمضي فيه.
. . . . . . .
نحن نحتفل بعيد يوم الخمسين، وهي مناسبة حلول الروح القدس على المسيحيين الأوائل وبداية الحياة المسيحية الكُليَّة المشاركة، لأن هذه المناسبة تعني لنا أن الله قد أعاد الفردوس إلينا في وسط بيئة مضطربة ومعادية. فقد باشر يسوع هذه المعركة الروحية مع الظلم الذي تسببه عبادة المال، ومع النجاسة الجنسية، ومع القتل والحروب. فقد وُضِعت كنيسة يسوع المسيح في وسط هذا العالم بالذات لتكون مكانًا يجري الالتزام فيه بالسلام والفرح والعدل، ومكانًا للمحبة والوحدة والوئام. فهذه هي الدعوة الإلهية للكنيسة. ولهذا السبب شرح لنا بولس الرسول أن الحياة وفقًا لملكوت الله لا تعني الامتناع عن هذا النوع من الطعام أو ذاك، بل تعني عدلاً وسلامًا وفرحًا في الروح القدس، (راجع رومة 14: 17). وهذا ما حدث بالفعل في أورشليم! وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الأمر ذاته قد حدث قبل ذلك الوقت في زمن حياة يسوع الأرضية مع جماعته الصغيرة جدًا، أيْ جماعة التلاميذ الاثني عشر. أمَّا في أورشليم فقد حدث ذلك الأمر في يوم الخمسين مع الآلاف من الناس مصحوبًا بقوة قديرة، بحيث أصبح يَشعُّ إلى كافة أرجاء عالم عصرهم.
ولم تُفقَد هذه الرسالة مُطلقًا عبر القرون التي تلت. فقد أشرق نورها في آسيا الصغرى؛ وتغلغلت بعيدًا كجنوبي فرنسا، وجنوب غربي مناطق جبال الألب، وشمالي أفريقيا، وهضاب شمالي إيطاليا، وعلى طول نهر الراين، وبعيدًا إلى الشمال كبعد هولندا وإنجلترا، وإلى شرقي جبال الألب، ومورافيا، وبوهيميا. فإنَّ هذه الحياة المشتركة ذات المقاسمة الكُليَّة قد أشرقت بشعاعها في كل قرن من قرون الزمان. فقد أضرم الله هذه الشرارة المُقدَّسة مرة بعد أخرى، وأبقى نارها دائمة الاتِّقاد، وجعلها تنتشر وتكبر إلى لهب مُقدَّس. ولم تنطفئ مُطلقًا، لأن الروح القدس لا ينسحب من عمله في الأرض، حتى تحتفل الخليقة كلها بنصرة ملكوت الله، وحتى يسود العالم كله السلام والعدل والفرح بالمحبة وبالوحدة.
. . . . . . .
إنَّ السبيل الوحيد للعالم لكي يفهم رسالة يسوع المسيح هو من خلال وحدة كنيسته. ولكن يجب أن تُتَرجم وحدة الكنيسة هذه إلى حياة كُليَّة المشاركة والتضامن. وقد تكلم يسوع عن الوحدة المطلقة فيما بينه وبين أبيه السماوي (الله الآب). وصلاته لأجل أن يكون لنا الوحدة نفسها، (راجع يوحنا 17: 21–22). والآن، ألا يزال عندنا في حياتنا المشتركة ما هو لي وما هو لك؟ كَلاَّ. فما هو لي هو لك، وما هو لك هو لي. لأنه في الحياة المسيحية الخاضعة لروح الكنيسة، أيْ الروح القدس، يصبح كل ما لدينا مُلكًا للجميع. فلدينا، أولاً، وقبل كل شيء، شركة في القيم الروحية للحياة المشتركة. ولكننا إذا كُنَّا نتشارك في كنوز الروح القدس، التي هي أعظم الأمور، فكم بالحَريِّ المشاركة في الأمور الأقل شأنًا؟
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «ثورة الله»