في سنة 1899 وفي السنوات التي تلت، ظهرت حركة للشبيبة في مناطق مختلفة من ألمانيا. وكنا آنذاك بالكاد قد خرجنا من مرحلة الطفولة ومازلنا في ريعان شبابنا. وكان اشتياقنا هو الخروج من الأوضاع الملتوية غير الصحيحة للكنائس والمدارس. وبالرغم من أنّ النضال من أجل الحياة الطاهرة النزيهة ومن أجل الحرية أخذ أشكالا مختلفة في أماكن مختلفة، إلا أنه كان نضالا متماثلا في جوهره. والذي كان يدفعنا هو اشتياقنا للعيش ككائنات بشرية طبيعية، وأيضا العيش مع الطبيعة.
وكلٌ من النظام الجامد للتقاليد الاجتماعية ونظام الفوارق الطبقية كانا يبدوان لنا بأسرهما مثل استعباد للإنسانية الحقيقية. فلذلك أردنا الانصراف عن محيطنا الاجتماعي والتوجّه إلى الطرق الخارجية والحقول والغابات والجبال. فبذلنا كل ما في وسعنا لهَجْر المدن. ماذا كنا نبحث عنه في الطبيعة؟ الحرية، وعلاقات الصداقة والمودة، والعِشْرة والمجتمع الحقيقي. فخرجنا كلنا معا، ولم نكن معزولين كالنُسَّاك، ولكننا بحثنا معا عن الحياة في الهواء الطَّلْقِ في الطبيعة الرائعة.
في ألمانيا وبعد الحرب العالمية الأولى، صار الشباب يمْقُت المدن الكبيرة باعتبارها أماكن نجسة لكل من الجسد والروح. فكانوا يرون المدن الكبيرة كمقرّات يقبع فيها حب المال وعبادته؛ وكانوا يتحسّسون بأجوائها الفاترة والسامّة. ووجدوا أنّ الناس لا يعيشون بحسب ما يريده الله. فلم يكن للعائلات سوى ولدين أو ولد واحد وفي كثير من الأحوال بدون أي ولد. ورأوا أنّ جوّ المدينة الكبيرة بأكمله مشبّع بجرائم القتل والانحلال والتفسّخ. فقد ضلَّت وانحرفت المدن كثيرا عما أراده الله للبشر. ولهذا السبب هجر الشباب المدن الكبيرة. ولم تكن هذه الحركة كفلسفة جان جاك روسو بالرجوع إلى الطبيعة، لكنها مقاربة لها. فأرادوا العودة إلى أماكن يتمكنون فيها من أن يكونوا قريبين من خليقة الله، حيث يتمكنون فيها من أن يحسّوا من جديد أن الله قد نفخ نفخته الحيّة على البشر والنباتات والحيوانات. فقد أرادوا أن يهجروا النتانة والقذارة والدخان وأيضا حماقة أعمال الإنسان.
وقد أعادتهم أرواحهم إلى الطبيعة ثانية، لكي تتحالف نفوسهم مع الروح العاملة هناك. فكانوا يرون أنّ الروح العاملة في الطبيعة وروح الله القدوس هما روح واحد ولا فرق بينهما. فقد خلق الله أولا الأرض والنباتات والحيوانات، ثم خلق بعدئذ الإنسان. وكانوا جميعا في وئام وانسجام. فلذلك أخذت هذه الأمور تسير جنبا إلى جنب من جديد في حركة الشبيبة.
أن تكون بسيطا، وعلى حقيقتك، ومن غير تكلّف، أو تصنّع أو تزييف - هي أمور في غاية الأهمية عندنا منذ أولى بدايات انبثاق حياتنا المشتركة. فأردنا أن نعيش قريبين من الخليقة والطبيعة. ونود أن نكون بسطاء في إيماننا بالله وفي فهمنا لخليقته إلى درجة كبيرة بحيث لا يقوى أي تأثير متديّن مهما كان نوعه على أن يبعدنا عن الأسلوب البسيط والطفولي للحياة.
وقد أدركنا أن الحياة في المجتمع المسيحي للكنيسة المقدسة غير ممكنة ما لم تكن طبيعية وبسيطة تماما. وكنا نعلم أنّ الحياة المشتركة يمكن لها أن تضيع إذا تمّ تهميدها وتسكينها وجعلناها تغفو وحوّرناها إلى نوع معين من التديّن المزيف، وأيضا إذا تَبنَّينا لهجة مليئة بالكلمات الدينية التي لا تصدر من صميم أعماقنا، والتي لا تأتي بصدق من قلوبنا.
ومثلما هو الحال مع اللغة، فهكذا هو الحال مع كل شيء آخر. ومن أهم تركة ورثناها من حركة الشبيبة الألمانية هي موقف الإنسان نحو الطبيعة وبدائعها. ولم تكن الرومانسية وحدها التي جعلتنا نبتهج في المروج والزهور، والغابات والجبال. فمن خلال معايشتنا للطبيعة ساعدنا ذلك للتقرّب من البدايات، أي من الخليقة بحد ذاتها. ولا نريد التعامل مع أي شيء لا ينبع مباشرة من أعماق النبع ولا يتسم بالشفافية.
وعليه، فإنّ أمنياتي القلبية لحياتنا المشتركة هي أن تكون نابعة من صميم القلب مباشرة، تماما كما قد وُهبت لكل منّا؛ وأن نطرح عنّا كل تقوى كاذبة وكل رياء، وأن نسمح لما هو طبيعي أن ينمو ويزدهر. ونسأل الله أن يرزقنا حياة تملؤها هذه الحيوية الروحية النابعة من داخل الكيان، ويجعلنا أحياء كالنباتات والنجوم والحيوانات؛ ومليئين بالحياة مثل ولادة طفل ومثل نموه. ولعل تلك العطية توهب داخل كل منّا. عندئذ سنعرف معنى الوفاء الحقيقي.
وينبغي أن نثمّن العمل في الأرض، لاسيما في الفلاحة وتربية الحيوانات الإنتاجية، وذلك بسبب قرب هذا العمل من الطبيعة، وأصالته الجوهرية. فهو يمدّنا بالخبز اليومي من يدي الله، ذلك الخبز الذي يقوينا لتنجح قلوبنا وأفكارنا في القيام بكل ما مطلوب منها.
أنّ تركنا للكنائس الرسمية (التقليدية) لا تعني أننا تخلينا عن إيماننا المسيحي، بل تعني أننا تخلينا عن أسلوب الحياة الذي لا يتوافق مع إيماننا.
أما تحفُّظنا في استعمال أقدس كلمة في الوجود، لذاك العظيم والجبار، فهو شيء حسن. فلا نحب استعمال هذا الاسم القدوس بدون ضرورة؛ بل نستعمله بأقل قدر ممكن. صحيح أننا مدعوون لنشهد لهذا الاسم القدوس، لكن ليس بأسلوب يشبه رمي اللُّؤلؤ إلى الخنازير:
لا تُعطوا الكِلابَ ما هوَ مُقَدَّسٌ، ولا تَرموا دُرَرَكُم إلى الخنازيرِ، لِئلاَّ تَدوسَها بأَرجُلِها وتلتَفِتَ إلَيكُم فتُمزِّقَكُم. (متى 7: 6)
لن تتخلى البشرية أبدا عن اشتياقها إلى العيش في محبة قلبية بعضها مع بعض في فردوس جديد مفعم بالحياة. فالفرح ببدائع الطبيعة، والعمل في مجال الطبيعة، والمحافظة على الحياة الروحية وتعميقها، وتلمُّس قرب الله، والإبداع في أعمال المحبة والخدمة - كلها أمور يشتاق إليها كل إنسان اِشتياقا فائقا.
لقد قال لنا الناس: "أنتم من محبي الطبيعة، وتودون الرجوع إليها!" كلا، لم يكن هذا ما نرمي إليه. بل بالعكس، فإنّ إدراكنا يتزايد تدريجيا عن جسامة خراب الطبيعة الذي حصل في الخليقة القديمة.
وما كانَ خُضوعُها لِلباطِلِ بإرادَتِها، بَلْ بإرادةِ الّذي أخضَعَها. ومعَ ذلِكَ بَقِيَ لَها الرَّجاءُ أنَّها هِيَ ذاتُها ستَتَحَرَّرُ مِنْ عُبودِيَّةِ الفَسادِ لِتُشارِكَ أبناءَ اللهِ في حُرِّيَّتِهِم ومَجدِهِم. فنَحنُ نَعلَمُ أنَّ الخَليقَةَ كُلَّها تَئِنُّ حتّى اليوم مِنْ مِثلِ أوجاعِ الوِلادَةِ. (رومة 8: 20-22)
فلا نريد الرجوع إلى الطبيعة القديمة (ولهذا قد رفضنا دائما مذهب التَّعَرِّي Nudism) لكننا نرى أنّ الله يعمل من وراء كواليس الطبيعة.
فمُنذُ خلَقَ اللهُ العالَمَ، وصِفاتُ اللهِ الخَفِيَّةُ، أي قُدرَتُهُ الأزلِيَّةُ وأُلوهِيَّتُهُ، واضِحَةٌ جَلِيَّةٌ تُدرِكُها العُقولُ في مَخلوقاتِهِ. فلا عُذرَ لهُم، إذًا. (رومة 1: 20)
السَّماواتُ تَنطِقُ بِمَجدِ اللهِ والفَلَكُ يُخبِرُ بِعَمَلِ يَدَيهِ. فيُعلِنُهُ النَّهارُ لِلنَّهارِ، واللَّيلُ يُخبِرُ بِهِ اللَّيلَ بِغيرِ قولٍ ولا كلامِ ولا صوتٍ يسمَعُهُ أحدٌ. في الأرضِ كُلِّها بانَ مُقامُها، وفي أقاصي الدُّنيا زَمانُها. للشَّمسِ أُقيمَ مَسكِنٌ فيها. (مزامير 19: 1-4)
وبتأمُّلنا الطبيعة بمجملها كنّا نشعر باِلتئامها الروحي وتماسكها ووحدتها التي شاءها الله رغم معارضة القوى الشيطانية والشريرة. فمحبة الله متجسدة في تلك الوحدة. ونرى الحياة الخلّاقة التي مصدرها الله ظاهرة فيها، من خلال عملية التكاثر في الطبيعة. أما الذي نعبده فهو ليس الأشياء وليس الطبيعة بل سرّ الله الخالق.
لقد كان هذا الأمر يشكِّل أيضا خطرا في حركة الشبيبة في ألمانيا. فقد أخذ بعض الناس يبجلون الخليقة بحد ذاتها. فقد جعلوا من جمال الطبيعة وأيضا من جسد الإنسان أساطيرا عاطفية رومانسية. وقد أدى ذلك في بعض الحالات إلى عبادة الطبيعة. والخطوة التي تلتها كانت إنكار الخالق وتفضيل المخلوق، تماما كما تفعل الاشتراكية القومية اليوم.
نرى في الطبيعة أيضا أنّ الخير والشرّ متواجدان جنبا إلى جنب، والمتمثلان في النور والظلّ. فلا تعطينا الطبيعة نورا خالصا وإنما مناوبة بين النور والظلمة. والحياة الإنسانية لها ساعاتها المضيئة وساعاتها المظلمة. لذلك لابد من وجود وحي عن الحقّ خارج نطاق كتاب الطبيعة. هذا وأنّ كتاب الطبيعة مهم، إلا أنه لا يكفي. وأفضل نصيحة نقدمها للشخص الذي لم يؤمن للآن بيسوع المسيح هو التفتيش في تاريخ الجنس البشري عن ذاك الذي قد أنكشف فيه بأكثر جلاء حقّ الله ونوره. ونحن نؤمن بأنّ ذاك الشخص هو يسوع المسيح.
هوَ صُورَةُ اللهِ الّذي لا يُرى وبِكْرُ الخَلائِقِ كُلِّها. بِه خَلَقَ اللهُ كُلَّ شيءٍ في السَّماواتِ وفي الأرضِ ما يُرى وما لا يُرى: أأصحابَ عَرشٍ كانوا أمْ سِيادَةٍ أمْ رِئاسَةٍ أمْ سُلطانٍ. بِه ولَه خَلَقَ اللهُ كُلَّ شيءٍ. كانَ قَبلَ كُلِّ شيءٍ وفيهِ يَتكوَّنُ كُلُّ شيءٍ. هوَ رأسُ الجَسَدِ، أي رأْسُ الكَنيسَةِ، وهوَ البَدءُ وبِكرُ مَنْ قامَ مِنْ بَينِ الأمواتِ لِتكونَ لَه الأوَّلِيَّةُ في كُلِّ شيءٍ، لأنَّ اللهَ شاءَ أنْ يَحِلَّ فيهِ الملءُ كُلُّهُ وأنْ يُصالِحَ بِه كُلَّ شيءٍ في الأرضِ كما في السَّماواتِ، فبِدَمِهِ على الصَّليبِ حُقِّقَ السَّلامُ. (كولوسي 1: 15-20)
ثم إننا نعلم أنّه لا يوجد فيه غير النور، وأنّ محبته وكلمته يعطياننا نورا كاملا، وأنّ هذا النور هو بالحقيقة المحبة. فلهذا نعرف الله على أنه محبة. الله محبة؛ والذي يمكث في المحبة يمكث في الله والله فيه.
مَنِ اعتَرَفَ بِأنَّ يَسوعَ هوَ ابنُ اللهُ ثَبَتَ اللهُ فيهِ وثَبَتَ هوَ في اللهِ. نَحنُ نَعرِفُ مَحبَّةَ اللهِ لنا ونُؤمِنُ بِها. اللهُ مَحبَّةٌ. مَنْ ثَبَتَ في المَحبَّةِ ثَبَتَ في اللهِ وثَبَتَ اللهُ فيهِ. (1 يوحنا 4: 15-16)
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «ثورة الله»