وعلى الغرار نفسه، لو تهيّجنا بسبب فكرة شهوانية، ولكننا رفضناها، فلم نقترف خطيئة في هذه الحالة. غير أن الحالة تختلف كثيرا، إذا تابعنا تلك الفكرة بمحض إرادتنا، واشترينا مجلة إباحية خليعة على سبيل المثال.
فالسؤال دائما: ماذا نفعل عندما تأتينا التجارب؟ لقد كتب مرة المُصلِح الكنسي الراهب مارتن لوثر Martin Luther في القرن الميلادي السادس عشر ما يلي:
تأتينا الأفكار الشريرة كالعصافير التي تطير وتحوم فوق رؤوسنا. فليس في يدنا أيّ حيلة حيالها. ولكن لو سمحنا لها بأن تبني أعشاشها على رؤوسنا، تحمّلنا عندئذ مسؤولية إيوائها.
بالنسبة إلى التجارب، لا يمكننا تفاديها أبدا، ولن تتركنا بسلام أبدا؛ حتى إننا يجب أن لا نتوقع هذا الأمر على الإطلاق، لأن الشيطان لن يتركنا بسلام أبدا. وقد حاول الشيطان الإيقاع بيسوع المسيح أيضا. فقد جاء المُجَرِّبُ إبليس – الذي كان بالتأكيد متنكرا بغير هيئته – إلى البَرِيّة، حيث كان المسيح قد صام أربعين يوما، منقطعا عن شتى أنواع الأكل والشرب، وأخذ إبليس يتكلم مع المسيح مستعينا بآيات من الكتاب المقدس في محاولة لإغوائه والإيقاع به، ولكن يسوع المسيح لم يعرفه إلّا بعد التجربة الثالثة، فقال يسوع له:
إِبتَعِدْ عنّي يا شَيطانُ! لأنَّ الكِتابَ يقولُ: للرّبِّ إلهِكَ تَسجُدُ، وإيّاهُ وحدَهُ تَعبُدُ! (متى 4: 10)
فلما رأى إبليس أن المسيح عرفه، تركه عندئذ؛ فجاء بعض الملائكة يخدمون المسيح ويقدِّمون له الطعام. (راجع متى 4: 1–11)
لقد بدت لي سابقا في إحدى المرات فكرة تَعرُّض يسوع المسيح إلى التجربة مثل أيّ إنسان عادي، وكأنها تجديف على الله. ولكن في الحقيقة لا مجال للشك في هذا الموضوع أبدا: فقد كان يسوع المسيح إنسانا، رغم أنه لم يقترف الخطايا مطلقا، لأنه كان معصوما منها. أما إدراك هذا الموضوع فله أهمية كبيرة لحياتنا الروحية، ولكن إدراك موضوع تعرُّضنا للتجارب له دور كبير أيضا في كيفية معاملتنا للناس الآخرين الذين يخوضون صراعات روحية شرسة، كما يعلِّمنا الإنجيل:
إِذَنْ، بِمَا أَنَّ هَؤُلاَءِ الأَوْلاَدَ مُتَشَارِكُونَ فِي أَجْسَامٍ بَشَرِيَّةٍ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، اشْتَرَكَ الْمَسِيحُ أَيْضاً فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ بِاتِّخَاذِهِ جِسْماً بَشَرِيّاً. وَهَكَذَا تَمَكَّنَ أَنْ يَمُوتَ، لِيَقْضِيَ عَلَى مَنْ لَهُ سُلْطَةُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُحَرِّرَ مَنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ يَسْتَعْبِدُهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ. نَعَمْ، كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يُنْقِذَ لاَ الْمَلاَئِكَةَ بَلْ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ. وَلِذَلِكَ كَانَ لاَبُدَّ أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، لِيَكُونَ هُوَ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ، الرَّحِيمَ وَالأَمِينَ، الَّذِي يَقُومُ بِعَمَلِهِ أَمَامَ اللهِ نِيَابَةً عَنِ الشَّعْبِ، فَيُكَفِّرَ عَنْ خَطَايَاهُمْ. وَبِمَا أَنَّهُ هُوَ نَفْسَهُ، قَدْ تَأَلَّمَ وَتَعَرَّضَ لِلتَّجَارِبِ، فَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يُعِينَ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلتَّجَارِبِ. (عبرانيين 2: 14–18)
كان كاتب الرسالة الإنجيلية يهدف إلى أن تكون هذه النقطة واضحة للقارئ، بحيث أنه ذكرها ثانية في الإصحاح الرابع عدد 15 كالآتي:
ذَلِكَ لأَنَّ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ الَّذِي لَنَا، لَيْسَ عَاجِزاً عَنْ تَفَهُّمِ ضَعَفَاتِنَا، بَلْ إِنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ لِلتَّجَارِبِ الَّتِي نَتَعَرَّضُ نَحْنُ لَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ بِلاَ خَطِيَّةٍ. (عبرانيين 4: 15)
لم يقترف يسوع المسيح أيّ خطيئة مطلقا، حتى عند أشرس معركة خاضها في حياته – عند بستان الجسمانية (أو جثسيماني) الذي يقع شرق أورشليم قرب سفح جبل الزيتون – حيث كان يسوع بالتأكيد يصارع قوى الظلمة التي هي أكبر من قدرتنا على تصوّرها. فقد جاءته بجيوش كاملة من الأرواح الشريرة التي كانت تقاتل في سبيل الفوز بقلبه واستمالته – ولكنه لم ينصرف مطلقا عن محبته لأبيه السماوي. فقد ظلّ مطيعا ووفيّا له.
وبالنسبة إلينا نحن البشر، سوف يظلّ الصراع الروحي ضد الظلمة موجودا في قلوبنا ما دمنا على قيد الحياة. وهذه هي الحقيقة المريرة التي تعني أننا لا يسعنا أبدا التغلب على الشرّ المُحدِق بنا ومضايقاته بقوانا البشرية. والمسألة ليست أفكار ومشاعر وصور فحسب، بل أرواح محارِبة – وقد دعاها القديس بولس الرسول في الإنجيل بأنها: «أصحابَ الرِّئاسَةِ والسُّلطانِ والسِّيادَةِ» في هذه الآية:
فنَحنُ لا نُحارِبُ أعداءً مِنْ لَحمٍ ودَمٍ، بَلْ أصحابَ الرِّئاسَةِ والسُّلطانِ والسِّيادَةِ على هذا العالَمِ، عالَمِ الظَّلامِ والأرواحِ الشِّرِّيرَةِ في الأجواءِ السَّماوِيَّةِ. (أفسس 6: 12)
سنحتاج إلى الصلاة من أجل أن يسترنا الله في كل مرة نتعرَّض للتجربة؛ وحينما تأتينا التجارب رغم صلواتنا، ينبغي أن نسأل الله أن يرينا حلَّا ومخرجا من كل واحدة منها. ومع ذلك، لا داعي لأن تخور عزيمتنا ونفقد الأمل ونقع في اليأس، مثلما يشهد لنا الإنجيل:
لَمْ يُصِبْكُمْ مِنَ التَّجَارِبِ إِلاَّ مَا هُوَ بَشَرِيٌّ. وَلَكِنَّ اللهَ أَمِينٌ وَجَدِيرٌ بِالثِّقَةِ، فَلاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تُطِيقُونَ، بَلْ يُدَبِّرُ لَكُمْ مَعَ التَّجْرِبَةِ سَبِيلَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لِتُطِيقُوا احْتِمَالَهَا. (1 كورنثوس 10: 13)
لن يتعين على أيّ مِنّا خوض مثل تلك المعركة الشرسة والعصيبة التي قاتل فيها يسوع المسيح لأجلنا على الصليب. فقد أخذ على عاتقه في تلك المعركة العبء الكامل لحالنا البشري، ومن ضمنه التجربة، لأجل تحريرنا بالفداء المجاني الذي قدّمه لبني البشر. فالتجربة ليست خطيئة.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «التحرر من الأفكار الأثيمة»