وكانت الفوضى والتمزق يعمّان البلاد في ذلك الوقت. وتلك الاضطرابات التي عقبت زمن الحرب العالمية الأولى التي دفعت والده الذي كان محررا صحفيا معروفا ولاهوتيا وخطيبا، ليقوم بمجازفة ويخطو هذه الخطوة المسيحية الخالصة، كانت قد دفعت أيضا الآلاف من الناس الآخرين لمناهضة التقاليد الاجتماعية والدينية المتزمتة لتلك المرحلة، والبحث عن طرق حياتية جديدة. فكانت تلك السنين بالنسبة للمؤلف هاينريش سنين تكوينية شكّلت بنيته الروحية. ثم إن التدفق المتواصل على مجتمعه المسيحي الصغير أثّر فيه بعمق، حيث كان يزورهم شتى أنواع الناس مثل شباب فوضويين Anarchists، ومتشردين، ومعلمين وفنانين ومفكرين أحرار من أصحاب الفكر الحرّ. فكل أولئك الناس نبذوا رياء العالم المسيحي والديانة المسيحية المؤسساتية التي أمست غير مجدية وبلا معنى، والعديد منهم شعروا بانجذاب إلى حياة التفاني والفرح التي وجدوها في مجتمع سانرز.
أما هاينريش فقد أحسّ بالدعوة الإلهية له ليتبع يسوع المسيح عندما كان عمره أحد عشرة سنة. فلبّى الدعوة ورهن حياته لاحقا عندما صار شابا ليقدم نذوره المؤبدة للخدمة ضمن المجتمع المتشارك للكنيسة، الذي عُرِف آنذاك باسم برودرهوف Bruderhof (وهي تسمية ألمانية تعني مكان الإخوة). وفي عام 1938م تمّ ترسيمه "خادم الكلمة" (أي قسيس)، ومن بعد عام 1962م ولغاية وفاته خدم كشيخ كنسي لحركة برودرهوف المسيحية المتنامية.
والرعية التي كانت في عهدة هاينريش لا يمكننا تسميتها بكنيسة عادية مثل بقية الكنائس، ولم تكن خدمته مشابهة مطلقا لعمل القسيس بالمفهوم التقليدي. بالإضافة إلى أنه لم يتحلَّ بشخصية جذابة، وما كان حاصلا على شهادة أكاديمية رسمية بعلم اللاهوت. لكنه كان "مرشدا روحيا" بحق، فكان يهتم من صميم قلبه بالسلامة الروحية والعملية للمجتمعات التي كانت في عهدته. فقد خدم أفراد مجتمع الكنيسة من إخوة وأخوات جاعلا نفسه قبل كل شيء بالمستوى نفسه معهم وتقاسم معهم الحياة اليومية بكل ما فيها من عمل وترفيه سواء كانت عند المآدب المشتركة أو اجتماعات مصلحة العمل أو اجتماعات العبادة.
وقد التجأ الناس إلى هاينريش طالبين النصائح في كل مجال من مجالات الحياة الروحية سواء كانت على الصعيد الشخصي أو على صعيد الجماعة. لكن نلاحظ بوضوح وجود عامل مشترك واحد يمرّ من خلال جميع ما كتب، ألا وهو التأكيد على أن: السيد المسيح وصليبه هما مركز الكون. ويصرّ باستمرار على أن الحصول على إيمان مسيحي حيّ غير ممكن ما لم يتمّ مقابلة السيد المسيح بصورة شخصية – وما لم يتمّ التواجه مع رسالته الخاصة بالتوبة والمحبة.
وبسبب تمركز المسيح عند هاينريش فقد وهبه ذلك شجاعة غير اعتيادية لمواجهة الخطايا. فلم يتسامح مع اللامبالاة بمتطلبات الإنجيل. لكنه حارب الشرّ في نفسه مثلما حاربه في نفوس الآخرين، ولم تكن المعارك موجهة ضد أي شخص مطلقا، بل ضد الخطايا. وجعله هذا عرضة للانتقاد في بعض الأحيان وتمّ وصفه بأنه عصبي المزاج وحادّ الطبع، لكن، وكما سأل هو بنفسه في إحدى المرات، كيف يمكن للمرء الذي يحب المسيح أن يبقى بكل فتور غير مبالٍ أمام الخطر الذي تتعرض له كرامة الكنيسة؟
وهذا ما جعله أيضا يدعو الناس إلى التوبة بكلام لاذع في بعض الأحيان قائلا:
ألا نستعد لكلمات المسيح لندعها تخترق أعماق كياننا – أم نستمر في وقاية نفوسنا منها ونقسّي قلوبنا تجاهها؟ فلا ندرك كم مرة وقفنا في طريق الله. لكن يمكننا أن نسأل الله أن يخترق أحشاءنا بكلمته الإلهية، حتى لو كانت مؤلمة.
وبذات الحميّة وبذات الإصرار التي دعا بهما الناس إلى التوبة، سعى أيضا إلى التحلّي بالرأفة والمغفرة تجاه الآخرين. فلو بحثنا عن الذين يأخذون على محمل الجد وصية يسوع المسيح "اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ" ووصية الغفران "سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ"، لوجدنا أن هاينريش واحد منهم.
ولما كان هاينريش شيخا كنسيا لمجتمعات برودرهوف المسيحية، قضى ساعات كثيرة في قراءة الرسائل التي كانت تتدفق إليه يوميا آخذا بنظر الاعتبار محتواها والصلاة من أجلها وحتى إعادة قراءة بعض منها، وكانت رسائله الجوابية تعكس مدى التواضع الذي كان يجيب به. وعندما كان يُسأل سؤال أو يُطلب منه طلبا كان يقدم إما مشورة وإما تعزية وإما توبيخا بل حتى لوم عنيف، لكنه لم ينتقد أو يقلل من شأن من كان يلجأ إليه مطلقا. لذلك كان يلتجئ إليه المئات من الناس سنة بعد سنة، وكان يوجههم دائما ليمضوا إلى الأمام نحو المسيح – ليخرجوا خارج نطاق انشغالهم الذاتي بخطاياهم أو حتى خارج قداستهم البشرية الزائفة.
وكان هاينريش يعلم جيدا أنه لا يعرف جميع الأجوبة والحلول. فغالبا ما كان يقول أنه بحاجة إلى أن يفكر في موضوع المسألة أو يود الصلاة من أجل حلّها، أو مجرد يشعر بأنه لا يعرف ماذا يفعل بشأنها. وكان يردّ على من أراد أن يشرح له آية صعبة أو تناقض واضح أو معنى فقرة غامضة في الكتاب المقدس كالآتي قائلا:
لقد فكرت بهذه الكلمات عدة مرات، لكن أنا شخصيا لا أفهمها تماما. لنتركها لله. فسوف يبين لنا الله الجواب في يوم ما.
ولم يحاول أن يفسّرها إن لم يكن يعرف تفسيرها. وبالرغم من أنه قد استفاض في قراءة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد في البيت، إلا أن تعليمه كان تعليم القلب، ومعرفته كانت معرفة بالروح البشرية، وفهمه لطرق الله كان وليد محبته لله وليسوع المسيح وللكنيسة.
وأهم كل شيء كان له قابلية الاستماع: فكان يستمع إلى إخوانه وأخواته في الكنيسة، واستمع إلى أصدقاء وغرباء ومنتقدين وأهم من كل شيء الاستماع إلى الله. قال مرة:
أريد أن استمع بقلبي الروحي إلى صوت الله وهو يتكلم من خلال أخوية الكنيسة.
أريد أن أشهد ليسوع المسيح في زماننا هذا.
أريد أن أصبح فقيرا...فقيرا إلى روح الله.
أريد أن أكون مطيعا وأن أذهب حيثما ترسلني الكنيسة،
وأن أعمل بمشيئة الله.
لقد تأثرت كتابات هاينريش بصورة رئيسية بكتابات والده ايبرهارد آرنولد (مؤسس حركة برودرهوف المسيحية Bruderhof)؛ وكتابات القسيس الألماني يوهان كريستوف بلومهارت Johann Christoph Blumhardt وابنه القسيس كريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt اللذان تميزا برؤيتهما الحيّة عن ملكوت الله على أنه واقع حاضر، وقد أيّدهما الله بقوات وعجائب كثيرة؛ وتأثر أيضا بكتابات اللاهوتي والفيلسوف الألماني مايستر ايكهارت Meister Eckhardt الذي كان من الآباء الروحانيين وكانت له الكثير من الكتابات المفيدة بشأن العلاقة مع الله، حيث نرى تعمّقه الروحي ينعكس في ميول هاينريش إلى الحياة الروحية المسيحية المتعافية التي لا تقتصر على علاقة مع الله فحسب بل أيضا على علاقة مع أخينا الإنسان وعلى حياة عملية منظورة وذلك عندما ينكسر الإنسان لله ليمتلئ من الروح القدس وحرارته وغيرته فتتقدس روحه وحياته ويثمر حياة جديدة نقية ويحيا وفقا لمشيئة الله وإرشاده.
ثم إنه قد تأثر أيضا بشخصيات أخرى أمثال ديتريش فون هيلدابراند Dietrich von Hildebrand، وهو فيلسوف ولاهوتي كاثوليكي ألماني دعاه البابا بيوس الثاني عشر بصورة غير رسمية بــ "طبيب الكنيسة للقرن العشرين"، بالإضافة إلى الطبيب النفساني الألماني الكاثوليكي فريدريش فون جاجرن Friedrich von Gagern، والطبيب النفساني السويسري–الفرنسي تشارلز بودوان Charles Baudouin، الذين قرأ كتبهم واعتاد أن يشير إليهم، ويدرج اقتباسات لهم. ويساهم كل هؤلاء الكتّاب في إضفاء رؤية واسعة على رسالة هاينريش بحيث لا يمكننا تجاهلها – تلك الرؤية التي ترفع أعيننا من تفاهات الحياة اليومية لنرى واقعا أعظم منا شخصيا، ذلك الواقع الذي غالبا ما نهمله.
وإليكم اقتباس له شخصيا بهذا الشأن:
ما أعظم الهبة التي نتمكن بفضلها رؤية ولو جزء يسير من رؤية يسوع المسيح العظيمة – ورؤية ما هو خارج نطاق حياتنا الصغيرة! مما لا شك فيه أن نظرتنا لها محدوديتها. لكن يمكننا على الأقل أن نسأله ليدعونا إلى الخروج من عوالمنا الصغيرة ومن تمركزنا حول ذواتنا والأنانية، ثم إننا يمكننا على الأقل أن نسأله ليجعلنا نتحسس بالتحديات الموجودة في عملية تجميع الحصاد العظيم – حصاد جميع الأمم وجميع الناس، بما في ذلك أجيال المستقبل.
هذا المقال مقتطف من كتاب
"التحرّر من الأفكار الأثيمة"