قام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بإخراج وترويج فيديو دعائي، الذي أُخرِج بأسلوب استعراضي مقصود، ونُشِر في فبراير عام 2015م، وعرض فيه كيف قطع مقاتلو التنظيم رؤوس 21 رجلاً مسيحيًّا، بملابسهم البرتقالية، على أحد الشواطئ الليبية.
وكان الرجال المسيحيون يصلُّون ليسوع المسيح في لحظاتهم الأخيرة، كما يبيِّن الفيديو – مثلما صلَّى المسيحيون الأوائل قبل عدة قرون، عندما استشهدوا على أيادي المُضطهِدين الرومانيين، وعلى أيادي غيرهم عبر التاريخ. غير أن الاستشهاد الطوعي لهؤلاء الواحد والعشرين في يومنا الحالي هو الذي أخذ يقلق ويزعزع العقلية المعاصرة، لأن خبر استشهاد أحد القديسين القدامى الذي عادة ما كان يقوِّي الناس روحيًّا، تحوَّل الآن إلى خبر مُروِّع، عندما أخذت فيديوهات الواحد والعشرين قبطيًّا تطفو في أعالي صفحات يوتيوب.
لقد تراجع تهديد تنظيم الدولة نسبيًّا، منذ عام 2015م، وأصبحت عناوين صحف لأعمال وحشية جديدة تحل محل تلك المذبحة الفظيعة في الوعي العام، على الأقل في أمريكا وأوروبا. أمَّا في موطن المسيحية القبطية المصرية، الذي جاء جميع الشهداء منه، ما عدا واحدًا منهم، فلم تُنسى تلك المذبحة. وعندما كانوا على قيد الحياة، كانوا مجرد عمال أجانب في ليبيا جاءوا من قرى فقيرة، مثل الملايين من أمثالهم في كافة أرجاء العالم الذين ليس لديهم ما يميزهم به؛ وكان العديد منهم آباء لهم زوجات وأولاد صغار في بيوتهم. ولكن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية كرَّمت الشهداء الواحد والعشرين وجعلتهم قديسين، وأخذت المعجزات تُنسب إلى شفاعتهم.
ولكن، ما الذي يجعل من الإنسان المعاصر شهيدًا؟ وللإجابة على هذا السؤال، سافر الأديب الروائي الألماني مارتن موسى باخ Martin Mosebach إلى قرية العور المصرية التابعة لمطرانية سمالوط، لكي يقابل عوائل شهداء ليبيا، ولكي يتعرف بشكل أفضل على طبيعة الإيمان والثقافة التي قامت بصنع إيمان كإيمان هؤلاء الشهداء. وقد نشرت دار المحراث كتابه بالإنجليزية في فبراير 2019م في إنجلترا، بعد أن نُشِر بالألمانية، وحقق أفضل أرقام للمبيعات في ألمانيا، عند صدوره في عام 2018م. ويحمل الكتاب عنوان:
The 21: A journey into the land of Coptic Martyrs
ويصف الكاتب الألماني مارتن موسى باخ في كتابه كيف بدأ بمشروعه، كما يلي:
هناك عدد كبير جدًا من الشهداء التاريخيين الذين لا نعرف عنهم سوى القليل من التفاصيل غير الدقيقة عن استشهادهم؛ أمَّا تلك القوائم المملة للشهداء والقديسين والمُطوَّبين التي تُعرف باسم Martyrologium Romanum فقد بقيت مُبهمة في سجل القديسين الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، إلى أن قام الفن المسيحي بتحويلهم إلى صور منظورة ومحسوسة أثارت مشاعر التعاطف معهم في داخل النفوس.
أمَّا عن الواحد والعشرين قبطيًّا فتختلف الأمور: ليس بسبب وجود فيديو عن آلامهم فحسب، بل إن هذا الفيديو له المقصد والتأثير المشابهين للعمل الفني، ما عدا أنه عمل سافل جدًا – فهو يضمُّ أمرين في آن واحد: الأول أنه وثيقة، والثاني أنه تلفيق مُحرِّك للمشاعر واستعراضي بشكل مُنمَّق...
كان بإمكان الواحد والعشرين على الأرجح إصداء كلمات بولس الرسول: «فَإِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ أَبْرَزَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ آخِرِينَ كَأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِالْمَوْتِ. لأَنَّنَا صِرْنَا مَنْظَرًا لِلْعَالَمِ، لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ.» (1 كورنثوس 4: 9) ولكنهم قبل أن يصبحوا أدنى الناس في سبيل الله والعالم، عاش كل واحد منهم حياة غير ملحوظة مزارعًا فقيرًا. فهل كان هناك أيُّ شيء في قراهم الذي ربما يدلُّ على حدوث كل هذا؟
في فبراير ومارس عام 2017م، أيْ بعد عامين من المجزرة، سافرتُ إلى صعيد مصر، لزيارة البيوت التي غادروها، عندما توجهوا إلى ليبيا بحثًا عن عمل.
وإحياء للذكرى الرابعة لاستشهادهم، تحدَّث الكاتب موسى باخ وأسقف أبرشية لندن للكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأنبا أنجيلوس، في ثلاث مدن أمريكية، في فبراير 2019م: في مدينة نيويورك بتاريخ 11 فبراير، وفي أمسية مع الصحفية إلايزا كريسولد Eliza Griswold من مجلة النيويوركر New Yorker؛ وفي مدينة واشنطن دي سي Washington, D.C. بتاريخ 12 فبراير، في مؤتمر في نادي الصحافة الوطني National Press Club مع مؤسسة الحرية الدينية Religious Freedom Institution؛ وتحدثا أيضًا في إنجلترا في لندن بتاريخ 14 فبراير، عند إحياء ذكرى مسكونية في منطقة وستمنستر Westminster.
وها إنَّ المعركة وتقديم الشهادة والتضحيات في الحياة المسيحية مستمرة. وقد قال يسوع المسيح: «وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي.» (متى 10: 38) والحياة المسيحية المقدسة نضال مستمر إلى الأبد، فقال المسيح: «وَلَكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ.» (متى 10: 22) وقال أيضًا: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.» (متى 7: 21) فلنُصلِّ كل يوم إلى الرب ليقوينا أن نعمل بمشيئته ووصاياه المقدسة، ونشهد له من خلال جميع تفاصيل حياتنا اليومية، ومن خلال الحياة المقدسة لكنائسنا التي ينبغي أن تشهد لملكوت الله. لأن تقديم الشهادة هو جوهر الاستشهاد.
وصلاتنا إلى الرب هي من أجل أن لا ننكر المسيح في كل لحظة من حياتنا. فقد قال المسيح: «وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.» (متى 10: 33) وهؤلاء الشهداء لم ينكروا المسيح. فلهم إكليل الحياة، إذ يقول الرب: «كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ.» (رؤيا 2: 10)