عاد مؤخراً زوجان من كنيستنا بعد أن كانا في إرسالية تبشيرية في انكلترا. وقد التقوا مع الكثير من الناس التي كانت قلوبها تبحث عن حياة البِرّ وتشتاق إليها، والتقوا مع ناس أحسّوا بضرورة التوبة وتغيير حياتهم وأرادوا أن يقتحم حياتهم شيء جديد. ولكن عندما كان الزوجان يتكلمان مع الناس عن موضوع مغفرة الخطايا التي يقدمها يسوع المسيح، كانت ردود الأفعال متباينة، فقد قال البعض: "لقد غفر الله لي سلفاً. فهل أحتاج حقاً إلى الاعتراف بخطاياي لأنال المغفرة؟ ألا تكفي نعمة الله؟"
مما لاشك فيه أنَّ نعمة الله فياضة حقاً وزاخرة، ولاسيما عندما نلقي بأعباء حياتنا ونفضي بمتاعبنا وخطايانا أمام شخص آخر. فالخطايا والذنوب تعمل دائماً في الخفاء. ولهذا السبب كتب القس الألماني ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer ما يلي: "عند الاعتراف بخطايا محددة وذكر نوعها فإنَّ الإنسان القديم الذي فينا يموت ميتة مؤلمة ومُخزية أمام أنظار أخ لنا في المسيح. لأن هذا الموقف المخزي والمحرج صعب جداً، ونحن البشر نخطط باستمرار لتجنبه. إلّا أننا من خلاله نختبر النجاة والخلاص بفضل ذلك الألم المعنوي والجسدي جراء هذا الموقف المخزي أمام الأخ".
إنّ الاعتراف بخطايانا لشخص آخر - حتى لو كان شخصاً نثق به - ليس أمراً سهلاً على الاطلاق لأن ذلك يعني أننا نجعل أنفسنا معرضين للانتقاد؛ فهو يعني أننا نقرّ ونعترف بحاجتنا إلى مساعدة. وفي عالمنا الذي له نزعة تمجيد الفرد والرفع من شأن الإنجازات الفردية من جهة واحتقار الضعف من جهة أخرى، لا يحبّذ أغلبنا الكشف عن خطاياهم أو قول أنا آسف. ثم هناك الخوف من النميمة والقيل والقال، والذي يمكن أن ينتشر بها الخبر بسرعة كبيرة، ولا سيما داخل الجماعات المتقاربة اجتماعياً.
غير أنّ كل هذه الأمور قد تكون مجرد تبريرات وحجج لتغطية عدم رغبتنا في الابتعاد عن الخطيئة ونبذها. بالإضافة إلى أننا بتخفينا وراء ديانتنا المسيحية، فإننا نبقي خطايانا سريّة، ليس بسبب تذوّقنا للمغفرة بل مخافة أن تنجرح كبريائنا. فقد ترسخ فينا الانتفاخ ببرنا الذاتي، ومشاعر "كل شيء معي على ما يرام"، والمظهر الجيد، حتى لدى المسيحيين الملتزمين، فبدلاً من أن نقول نحن الخطأة أصبحنا نقفل على ذواتنا وراء قضبان سجن لا يتألّف من شيء سوى من واجهات روحية ومظاهر مزيفة - سجن يبقينا معزولين بعضنا عن بعض وعن الله.
لقد أسسنا زواجنا أنا وزوجتي على الضرورة الملحة التي أحسسنا بها لنتبع المسيح قبل كل شيء ووضع طريقه فوق كل اعتبار. وقد أخفقنا مرات عديدة في هذا، ولكننا رأينا في كل من هذه المرات أنه من خلال اعترافنا بإخفاقاتنا بعضنا لبعض وبصراحة واِنفتاح كانت تتعمّق وحدتنا ومحبتنا أكثر ويصير بوسعنا أن يساعد بعضنا بعض. وقد توضح الأمر لي كوضوح الشمس من أنّ إخفاء أسراري عن زوجتي - ولاسيما إغواء إبليس لي بالتجارب وأيضاً خطاياي - لا يؤدي إلّا إلى تدمير علاقتنا الزوجية.
ألا ينطبق هذا على جميع أنواع العلاقات؟ فلو كنا نشتاق إلى السلام والوحدة والمحبة في علاقة بعضنا مع بعض، لوجب علينا جعل أنفسنا عرضة للانتقاد والنصيحة وكشف ما نخبئه في الظلام. وعندما يحثنا الرسول بولس على أن يتحمل بعضنا أعباء بعض، فهو يرمي بذلك لنتقرّب أكثر من يسوع وبالتالي بعضنا من بعض. إنّ الاعتراف بالخطايا هبة إلهية وليس عبئاً ثقيلاً.
والرسالة الأولى للرسول يوحنا حادّة كحدّ السيف وفي الوقت نفسه مليئة أمل: "فإذا قُلنا إنَّنا نُشارِكُهُ ونَحنُ نَسلُكُ في الظَّلامِ كُنّا كاذِبينَ ولا نَعمَلُ الحَقَّ. أمَّا إذا سِرنا في النُّورِ، كما هوَ في النُّورِ، شارَكَ بَعضُنا بَعضًا".
ما المقصود بالسير في النور، والنقاء؟ والتخلي عن كل ما يريد المسيح إزالته؟
فمثل حال الرجل الكسيح المذكور في إنجيل متى الفصل التاسع، فإننا جميعاً قد ابتلينا بنوع من انواع المعاناة أو الأمراض أو العاهات. ولكن الأهم من ذلك، والشيء الذي يجب أن يشغل اهتمامنا هو أن أغلبنا قد أثقلتهم الخطايا والاخفاقات. ولهذا السبب يحثنا القديس يعقوب في رسالته على دعوة شيوخ الكنيسة للصلاة من أجل شفاء الأمراض ومغفرة الخطايا، كما يحثنا أيضاً على الاعتراف بخطايانا بعضنا لبعض (الانجيل، يعقوب 5: 16). فمن خلال الاعتراف بخطايانا سنتمكن من فتح قفل قضبان السجن الذي يحبسنا في داخله. عندئذ سنحصل على شفاء وتحرّر حقيقي ودائمي.
ولتيسير حصول ذلك، فلابد أن تكون لدينا الرغبة في أن يغيّرنا المسيح. وربما هذا هو سبب مقاومتنا الاعتراف بأي شيء لأيٍّ كان. لأن الاعتراف بالذنوب لشخص آخر يعني أننا مستعدين لتغيير أنفسنا وحياتنا. ثم أنّ يسوع يَعِدُنا بأن يجعل كل شيء جديداً، ولكنه يقول أيضاً (مثلما قال للمرأة الزانية): "إذهَبـي ولا تُخطِئي بَعدَ الآنَ".
نعم، إنّ الله يعرف كل شيء، وفي وسعنا دائماً الالتفات إليه مباشرة. والغُفران نعمة رائعة. غير أنّ قوتها للتحرير والشفاء تُكَلِّف: إذ يجب على نفوسنا أن تتضع وتنكسر أمام الله لكيما يتسنى للمسيح بنفسه أن يرفعنا حقاً ويأخذنا إلى حياة جديدة.
فعندما يعترف بعضنا بخطاياه لبعض، فإننا بذلك نمضي في الطريق المتواضع والمنكسر ليسوع، الذي وُلِد في مذود للحيوانات ومات على الصليب. ونرى هذا المسيح في كل من إخواننا المؤمنين وأخواتنا المؤمنات. إنه سِرٌّ عجيب، ولكن طريق التواضع والانكسار هو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى النور والأمل والتحرّر والفرح. عندئذ سيصبح، كما قال يسوع: "فها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17:21).