فقالَ لي: «تكفيكَ نِعمَتي. في الضُّعفِ يَظهَرُ كَمالُ قُدرَتي.» فأنا، إذًا، أفتَخِرُ راضِيًا مُبتَهِجًا بِضُعفي حتّى تُظَلِّلَني قُوَّةُ المَسيحِ. (2 كورنثوس 12: 9)
في الكتاب المسيحي العريق المعروف باسم «الراعي» استعان كاتبه هرماس الذي هو من المسيحيين الأوائل بمثل رائع يبيِّن لنا أهمية تجريد نفوسنا من قوتنا البشرية. وقد شبَّه ملكوت الله بهيكل عظيم من المرمر يجري تشييده، وقد تتألف حجارته من أي رجل أو امرأة في هذه الدنيا. والحجر الذي يبدو صالحا للبناء يجري نحته من قبل البنّاء المعلم، ولو توافقوا مع البناء لاستعملهم البنّاء. أما الذين لا يتوافقون مع البِناء فلابد أن يرذلهم البنّاء. وفي نظري فإن هذه الصورة فيها معنى بسيط لكنه عميق: فالله لا يقدر أن يستعملنا إلا عندما نرضى بأن ينحتنا هو في سبيل مقاصده - أي بمعنى، إلا عندما نسلم أنفسنا في سبيل خدمة حاجاته.
ما هو تسليم الذات الحقيقي؟ قد يستسلم شخصا لشخص أقوى منه، أو جيش لجيش أقوى منه. وقد نستسلم نحن البشر لله لأنه قادر على كل شيء، أو لأننا نخاف عقابه. لكن كِلا السببين ليسا استسلام كامل لله. فلا يحصل الاستسلام الكامل إلا عندما نلمس طيبة الله وصلاحه – وبأنه هو وحده الصالح – ففي هذه الحالة فقط يمكننا الاستسلام لله من كل قلوبنا ومن كل نفوسنا ومن كل كياننا طوعيا ومن دون إكراه ومن دون شروط وبدافع المحبة.
وقد قال لي مرة والدي عن هذا الموضوع ما يلي:
من الصعب أن أصف كيف يتم خلع قوتنا البشرية منا، وكيف يجب رميها عنا، وتجريدنا منها، ووضع حدّ لها، وطرحها عنا...ولا تتحقق هذه العملية بسهولة ولا تحصل بفضل قرار بطولي. فيجب أن يصنعها الله فينا. لكن هذا هو أساس النعمة الإلهية؛ ما معناه تجريدنا من قوتنا البشرية. فما لم نصل إلى درجة تجريد قوتنا البشرية، فلا يستطيع الله أن يعمل فينا من خلال روحه القدوس وإنشاء قضيته المقدسة فينا...
بطبيعة الحال، أن الخطوة الأولى التي يجب أن نتخذها هي أن نسأل الله ليدخل قلوبنا. ولا يعني هذا أنه ليس بإمكانه أن يتحرك أو لا يرغب في ذلك من دون أن نسأله، وإنما هو ينتظرنا لنفتح حياتنا له من غير إكراه.
ها أنا واقِفٌ على البابِ أدُقُّهُ، فإنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفَتَحَ البابَ دَخَلتُ إلَيهِ وتَعَشَّيتُ مَعَهُ وتَعَشَّى هوَ مَعي. (رؤيا 3: 20)
ويتساءل العديد من الناس لماذا لا يفرض الله إرادته عليهم، ما دام له ذلك الجبروت. لكن هذه هي ببساطة طبيعة الله. فهو ينتظرنا لنكون مستعدين له. وبالرغم من أنه يؤدب الذين يحبهم ويدعوهم إلى التوبة؛ لكنه لا يفرض أبدا صلاحه عليهم.
فلو أخذ والد ما بخناق ولده لإكراهه على قبول نواياه الحسنة، لشعر الولد غريزيا أن هذا لم يكن محبة. ولهذا السبب لا يفرض الله إرادته على أيّ إنسان كان. لذلك نرى الآن أننا نتواجه مع سؤال هام جدا، وهو: أنرغب في تسليم أنفسنا لله طوعيا – وأن نفتح أبواب قلوبنا ليدخل صلاحه ويملأ حياتنا؟
مما لاشك فيه، أن الصراعات التي علقنا أهمية عليها في هذا الكتاب تبين لنا أن تسليما كهذا ليس سهلا أبدا، لأنه يحصل في محيط مليء بقوى جبارة. وقد جاهد حتى يسوع المسيح بنفسه جهادا شرسا لكي يسلم إرادته إلى الآب السماوي بحيث حتى عرقه صار ينزل كقطرات دم:
وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. (لوقا 22: 44)
فالشر كان قد طوَّقه من كل الجهات، ولكنه مع ذلك ظلَّ وفيًّا لله: وكان موقفه:
لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. (لوقا 22: 42)
ويجب أن يكون هذا موقفنا أيضا.
وغالبًا ما تصادفنا في حياتنا أصعب الحالات – مثل فواجع غير متوقعة أو حالة وفاة أو معاناة معينة أو فقدان مفاجئ – دون أن نفهم سببها. وهكذا الحال مع الصراع ضد الأفكار الأثيمة. ففي الوقت الذي نتأكَّد من الفوز في معركتنا مع عقبة روحية معينة، وفي قمة نشوة النصرة، فإذا بإبليس يداهمنا من جديد. ويكمن الحلُّ هنا أيضًا في التسليم الكامل للرب يسوع المسيح.
هذا وإن المرور بأوقات عصيبة مكتوب على جميع الناس، ولكن بالنسبة إلى بعض الناس يبدو الصراع من أجل قبول الشدائد وكأنه حاجز منيع لا يمكن التغلب عليه. لكن علينا أن لا ننسى أن النصرة الأخيرة هي لله:
ثُمَّ رأَيتُ سَماءً جَديدةً وأرضًا جَديدةً، لأنَّ السَّماءَ الأُولى والأرضَ الأولى زالَتا. (رؤيا 21: 1)
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «التحرر من الأفكار الأثيمة»