بعد مئتي عام من الآن وعندما ستتمكن الكنائس من اللحاق باللحظة الحالية، ستتذكر الكنائس عندئذ المواطن الأمريكي جوشوا كاستيل Joshua Casteel (1979 – 2012م) بطلاً كاثوليكيًّا. لقد مات جوشوا من جراء مرض سرطان الرئة عن عمر 32 سنة.
كان هذا ما استهلته مقالة أرسلها لي صديقي الأمريكي وأخي في المسيح الذي يسكن في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي مقالة مأخوذة من صحيفة Des Moines Catholic Worker. وتتحدث المقالة عن جندي أمريكي خدم في الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب في العراق.
وقصته رائعة جدًا، وتعتبر إلى حدٍّ ما من «قصص يسوع المسيح» التي تشهد عن قدرة يسوع المسيح على تغيير حياة الإنسان. فالفضل والمجد لله وحده. ولا تزال قصة حياة جوشوا ومماته – كالإنجيل – تخاطبنا وتعلمنا دروس مهمة حتى بعد أن مات ودُفن.
وكان المواطن الأمريكي جوشوا من الأشخاص المهتدين إلى الإيمان المسيحي مثل دوروثي داي Dorothy Day (التي عملتْ لعقود في خدمة فقراء مدينة نيويورك، وهي مؤسسة حركة العمال الكاثوليكيين)، وهذا ما قاله القسيس فرانك كورديرو Frank Cordero أحد مؤسسي الصحيفة. كما أردف قائلا:W
يبدو أن المهتدين إلى الإيمان المسيحي يبيِّنون لنا كيف يجب أن تكون مواقف الكنيسة، وليس كيف يجب أن تكون مواقف الكنيسة على ما هي عليه الآن.
ولد جوشوا في مدينة سيدار رابيدز Cedar Rapids في ولاية آيوا Iowa الأمريكية في أسرة مسيحية إنجيلية. وعندما كان في مرحلة الدراسة الثانوية ترأس مكتب الحزب الجمهوري الأمريكي في المدرسة. وفي عمر 17 تم إدراج اسمه ضمن قوات الاحتياط في الجيش الأمريكي، بالإضافة إلى أنه تم ترشيحه بعد سنة من قِبل السيناتور تشارلز تشاك Charles Chuck للدراسة العسكرية في الأكاديمية العسكرية الأمريكية الذائعة الصيت West Point Military Academy.
لقد درس جوشوا ليصبح مترجمًا للغة العربية، وقد خدم في الجيش كمحقق يستجوب السجناء في سجن أبو غريب في العراق في عام 2004م. وقد عمل أيضًا في (حُفَر حرق القمامة) وهي نوع من التدريبات العسكرية التي سببت له مرض سرطان الرئة على الأرجح.
هذا وقد اعتنق المذهب الكاثوليكي مع بقية أفراد أسرته. وتم إطلاق سراحه من الجيش بكامل التقدير والاحترام في عام 2005م على اعتباره شخصًا يعارض حمل السلاح بسبب اعتراض الضمير (وهي حالة مقبولة قانونيًّا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها من الدول الأخرى). ولكن الذي حمله على اتخاذ مثل هذا الموقف ومثل هذا التغيير في مسار حياته كان مقابلة تحقيقية أجراها مع أحد المجاهدين المسلمين في العراق.
فقد قال جوشوا:
لقد استجوبتُ فتيان مدرسة، وآباء شباب، وأئمة جوامع، وأشخاص عاديين، انتشلوا من الشوارع ووُضِعوا في غرفة التحقيق التي كنت أعمل فيها.
وأخيرًا، وبعد خمسة أشهر من فترة خدمتي في أبو غريب، كانت عندي جلسة استجوابية مع رجل أشهر جهاده طوعيًّا.
وقد قال لي إنَّ عنده سلام متيقِّن بفضل إيمانه بالإسلام. ولو شاء الله أن يبقى في السجن ولن يُطلق سبيله أبدًا، لما وجد مشكلة في الموضوع. وتحداني وتساءل ما إذا كان لدي السلام نفسه في حياتي.
وتساءل أيضًا ما إذا كان لدي ذلك التمركز الروحي نفسه لقبول مثل ذاك القدر الذي يقضيه الله.
ثم أخذ بعدئذ يتكلم عن يسوع المسيح. وأخبرني بأنني لم أتمم دعوة يسوع المسيح لي إلى تحويل الخدِّ الآخر لمن يضربني، وإلى محبة الأعداء.
وبطرحه تحدٍ كهذا، لم يكن لدي ما أقوله له. لقد وافقته الرأي كليًّا.
لقد تناقض منصبي كمحقق في الجيش الأمريكي مع دعوة الله لي لأصير مسيحيًّا، وعرقل قدرتي على القيام ببعض الأمور مثل محبة أعدائي.
فتوقفتُ عن الاستجواب. وفقدتُ كل شيء يتصف به الجندي. وأردتُ أن أسأله عن نيته على قتلي، ومدى استعداده لذلك، وما هي دوافعه.
أردتُ أن أسأله عن السلام الذي وجده في دينه. وما إذا كان هناك مخرج من دوامة الانتقام والأخذ بالثأر، لكي نسير أنا وهو معًا في درب واحد بسلام.
ومن ضمن التعليمات الحكومية بخصوص طلب الإعفاء من الخدمة العسكرية وحمل السلاح عند حالة اعتراض الضمير، توجد فقرة في تلك الاستمارة تسأل عن السبب الذي أدى إلى حصول المرء على هذه القناعة في ضميره بعدم حمل السلاح. وكل من يطلب الإعفاء من حمل السلاح لسبب اعتراض الضمير عليه أن يبين ذلك الأمر. أمَّا أنا فقد كان سبب حصولي على هذه القناعة في ضميري هو جلسة التحقيق مع ذلك المجاهد.
من بعد تسريح جوشوا من الجيش، سرعان ما صار رئيسًا للحركة المعارضة للحروب، وخدم في منظمة Iraq Veterans Against the War (أيْ بمعنى الجنود الأمريكيين المشتركين في حرب العراق المعارضين للحرب) وألقى خطابات في جميع أرجاء البلاد مع حركة Pax Christi USA المسيحية الساعية للسلام واللاعنف.
وفي عام 2007م سافر جوشوا إلى الفاتيكان للقاء قداسة البابا بنديكتس السادس عشر ضمن وفد كاثوليكي للسلام.
وكان جوشوا كاتبًا ومؤلفًا مسرحيًّا، وقد نشر كتابًا واحدًا بعنوان Letters From Abu Ghraib (أيْ بمعنى رسائل من أبو غريب) وقد ألَّف مسرحية بعنوان Returns (العودة) وهي عن تجربته كمحقق. وقد كان له أيضًا دور بارز في الفلمين الوثائقيين Soldiers of Conscience و Iraq for Sale.
ويقول كاتب المقالة ديفيد جودنر David Goodner الذي قابل جوشوا شخصيًّا إنه لم يكن يعرفه جيدًا في البداية، ولكنه يتذكر أول لقاء مع جوشوا في خريف 2005م، عندما كان يخطب في مناسبة مناهضة للحرب في جامعة آيوا. فقال:
لقد تعجبت حينذاك بالوعي التام والهادئ لذلك الشاب، جوشوا. وأدهشني تأديبه وبلاغته ورشده، وأتذكر كم يشعر المرء بتواضع في محضره.
أما الهالة المقدسة التي كانت تحيط بجوشوا فكانت أكبر من الحياة، بل وقورة ووديعة، وكأنها روح عمره قرون ساكن في جسم رجل شاب.
ويردف كاتب المقالة ويذكر لقاءات أخرى معه عند قاعة الملاكمة في المدينة، لأن الملاكمة كانت من إحدى هوايات جوشوا. فتلاكما معًا عدة مرات. بالإضافة إلى أنهما كانا يتكلمان عن السياسة والفلسفة في الطريق عندما كان يأخذه جوشوا بسيارته إلى مركز المدينة.
وهذا ما كان مسليًا وجميلاً عند جوشوا. أمَّا في بقية الأوقات، فكان يبدو كالملاك وكأنه من عالم آخر. إلاَّ أنه كان من ناحية أخرى مثل بقية الشباب في زماننا، ولديه روح التنافس والغرور. وفي مسيرته التدريجية في تغيير حياته — لأنه قد صمم أن يتبع يسوع المسيح — فقد قطع علاقته مع صديقته، ولاسيما لأنه كان يريد أن يصير قسيسًا.
وقد شارك مرة في تظاهرة للعصيان المدني ضد الحرب، وساهم في ترتيب إجراءاتها. وفي تلك الليلة قضى جوشوا مع غيره من المشاركين وقتهم في حبس المدينة. ولكنهم لم يناموا في تلك الليلة وإنما كانوا قاعدين على الأرضية الإسمنتية يتكلمون عن مواضيع مختلفة كانت تُطرح، مثل النساء والحب والحرب والسلام والملاكمة والدين والروحانيات.
وفيما بدأت صحته بالتداعي صار يبدو نحيلاً، إلاَّ أن كلامه كان ما يزال دافئًا يملأه السلام. وقد قال مرة:
ربما قد أصابني مرض السرطان من جراء عملي في حُفَر حرق القمامة في أبو غريب. ولكنني لست غاضبًا من ذلك. فمن بين الأشياء التي صرت أتحسس بها هو الارتياح الكبير والامتنان لله على أنني بدأتُ أقاسم وبطرق صغيرة معاناة الشعب العراقي.