إنَّ المحبة العملية أمر قاسٍ ومُفْزِع بالمقارنة مع المحبة الحالمة. فمحبة الأحلام طمّاعة، حيث تطمع في تنفيذ فوري، وأداء عاجِل وأمام أنظار الجميع. والناس مستعدون لبذل نفوسهم إن لم يطُلْ عذاب المحنة...مع مشاهدة وتصفيق الجميع. أما المحبة العاملة فهي عبارة عن جهود مبذولة وصبر وثبات. قول من فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky
لسنوات عديدة، وكلما أسمع أسم البلد رواندا يكون رد فعلي فوري. فتخطر على بالي المذابح الجماعية، ومعها صور مروعة من عام 1994 عندما مُحِيتْ قرى بأكملها عن الوجود في مجزرة تُعَدُ من أسوأ المجازر في التأريخ المعاصر. أما اليوم فيخطر على بالي أمر مختلف تماماً عند سماعي بهذا البلد. إنها المغفرة وقدرتها العجيبة على شفاء حتى أكثر فصول التأريخ الإنساني ظلمة. والتغيّر في رد فعلي جاء في عام 2008 بعد مقابلة "جان بولس سامبوتو Jean-Paul Samputu ". فقد كان "جان بولس" موسيقيّاً على مستوى عالمي وذو جدول أعمال مكثف، وكان يُشَبَّه بالمغني الشهير "بولس سايمون Paul Simon "، وقد غنّى في كل مكان، بدءً من أرياف أفريقيا وانتهاءً بمركز "لنكولن Lincoln Centre " للفنون في مدينة نيويورك. وقد فاز بالعديد من الجوائز الفخرية، منها جائزة "كورا Kora Award " الذائعة الصيت، لكن الذي لفت انتباهي هو ليس موسيقاه، وإنما رحلته من الغضب والحقد إلى المغفرة والفرح... فها هو يحكي لنا:
تأملوا هذا، لقد جرى قَتْلُ مليون شخصاً في غضون تسعين يوماً! فقَتَلَ الأصدقاء أصدقائهم، والإخوة إخوتهم، والأخوات أخواتهن، والأولاد أهاليهم، والأزواج زوجاتهم...
وفي خضم ذلك الوقت، كنت أتجول في دولة بوروندي وأوغندا – ولأني كنت شهيراً في رواندا، نصحني أبي بالهرب من البلد، ولكنني رجعتُ إلى بلدي في شهر تموز من عام 1994 عند نهاية المذابح.
وكنت أعلم سلفاً بأن والداي قد لقيا مصرعهما – فكانا قد قُتلا في شهر أيار في قريتنا "بوتير Butare" التي تقع جنوبي العاصمة. كما قُتل ثلاثة من أخواني، وأختي التي كانت بعمر 34 سنة. فقد كان الأمر فظيعاً للغاية.
كانت عائلتي من قبيلة "توتسي Tutsi"، وكان جيراننا قد شرعوا في قتل أبناء قبيلتنا. وكنت أعتقد بأن أختي بأمان لأنها كانت متزوجة من رجل من قبيلة "هوتو Hutu"، ولكن بالحقيقة لم تجرِ الأمور كما اعتقدتُ. فقد قتلوها شيئاً فشيئاً، ولمدة ثلاثة أيام. هناك الكثير من الأمور التي لا أقوى على الحديث عنها...
وعندما رجعت إلى رواندا، سافرتُ إلى قرية "بوتير"، وذهبت إلى منزل والدي. كان فارغاً. بحثتُ عن الجيران. لم يكن هناك أحد. كانت الجثث في كل مكان. وأيّ رائحة! أخيراً عثرتُ على بعض الناجين، وعرفتُ مَنْ قَتل والداي. كان أفضل أصدقاء الطفولة، "فينسنت Vincent". فقد ترعرعنا سوية، ولعبنا الكرة سوية. فأنشلَّ لساني؛ فقد دمرتني الأحداث كلياً.
في الواقع، لقد فقد كل واحد من قبيلة توتسي فرداً من عائلته في عام 1994، ولكن بمجرد التفكير بأن والداي قد قٌتِلوا على يد أعزّ أصدقائي!... فقدتُ صوابي. وبدأت أتعاطى الكحول والمخدرات. فَصرتُ أشرب قنينة كاملة من الجن الأفريقي "واراجي Waragi" كل يوم. وكنت أتعجب من سبب عدم موتي من جرائها. أما الآن فأنا أعرف السبب.
وفي السنين التسع التي تلت، كنت أعيش مذهولاً. فالغضب والألم والاستياء أدّوا إلى دمار شامل لي. فكانت هناك حرب مشتعلة في داخلي، وتمزقني. ولم أعد بعد قادراً على الغناء، لأنني كنت ثملاً باستمرار. فلم أقدر على إجراء العقود الموسيقية؛ ولم أكن مستعداً للمثول على المسرح الغنائي.
ذهبت إلى أوغندا، وحاول الأصدقاء مساعدتي. فجاءوا بي إلى طبيب ساحر، الواحد بعد الآخر، ولكن لم يفدني شيء. وكنت غاضباً على نفسي وعلى الله. "أين كنتَ يا الله؟" وصرت أسأله وأسأله مرات ومرات. "كيف تسمح لمثل هذه الأمور أن تحدث؟"
كانت زوجتي "كلوديا" حاملاً آنذاك. والطفلة التي جاءتنا كانت معوّقة جداً. الأمر الذي جعلني أكثر عصبيّة. وأخذت ألوم الله. وبحصولنا على تلك الطفلة المعوّقة تدمّرنا كلانا، أنا وزوجتي، وأخذ بعضنا يتهم بعضاً...
انتقلتْ عائلة "سامبوتو" إلى كندا في عام 1998. واستقرت العائلة في مونتريال، حيث كانت تقطنها جالية كبيرة من الروانديين المهاجرين، ثم جاءهم طفلاً آخراً. وفي عام 2000 تطلّق الزوجان. وعاد "جان بولس" إلى أفريقيا. فيردف قائلاً:
ذهبتُ إلى أوغندا – كنت نجماً غنائياً هناك – وأقمتُ عرضاً غنائياً كبيراً هناك. وكسبت مالاً كثيراً مرة ثانية. وبسبب إدماني على الشرب والمخدرات، كان الأمر ينتهي بي دائماً في السجن. فصرتُ أدخل وأخرج من السجون، مرة بعد أخرى. والآن أعرف جميع السجون هناك؛ فقد قضيت فترة في كل منها.
أخيراً، دفع أخي مبلغاً ضخماً لإطلاق سراحي، وذهبت معه إلى كينيا حيث يسكن. وبينما أنا هناك، زارنا صديق لعائلة زوجته الذي كان إنجيلي ويدعى موسى. وقال بأنه جاء من أجلي – وبأن الله أوعز إليه ليجدني ومن ثم يصلي من أجلي.
كنت متردداً، ولكنني أصغيت إليه، وبعدئذ سمحتُ له بأن يصلي عليَّ. وبصراحة، كنت مستعداً لأي شيء وقتذاك، فلم يكن لي أي خيار آخر. إذ لم ينجح أي شيء آخر معي.
كانت صلاة موسى جبارة. فقد أعانني على التغلّب على إدمان الكحول والمخدرات عندما أمر الشياطين بمغادرتي. فصلى هكذا: "اخرجوا منه، بسم يسوع." وكلما كان يذكر أسم يسوع كنت أحسّ بشيء غريب. فكنت غالبا ما أسقط أرضاً، وأحياناً كنت حتى أتقيأ. فمن الصعب أن أوصف الموقف. فكل ما يسعني قوله هو أنه في كل مرة كان ذلك الرجل يصلي، كانت صلاته جبارة بشكل لا يُصَدّق.
في البداية قلت له: "إنك أحسن من أفضل طبيب ساحر عرفته." (فكان هذا كل ما عرفته عن الموضوع) فضحك وقال: "كلا، أنا لست بطبيب ساحر." وعندما شكرته، أصرّ على أنه لم يقم بأي شيء سوى الصلاة. "لا تشكرني أنا، فأنا لست الطبيب الذي شفاك. إنه يسوع." وعلى الفور صار قلبي يتّقد شوقاً ليسوع. وأردت معرفة المزيد عنه، ومن كان. بعد ثلاثة أشهر توقفت عن الشرب، وانقطعت عن المخدرات.
ذهبت إلى أوغندا في عام 2003. والآن أنا مسيحي، وقد كتبتْ كل الصحف عني، مثلما فعلتْ سابقاً عندما ذهبتُ إلى السجن. فكانت قصة كبيرة: "سامبوتو غيّر حياته." "سامبوتو يؤمن بالصلاة." أما أنا فذهبت إلى جبل "سيجوكو Sseguku " وهو أشهر جبل في أوغندا للصلاة. فالناس يقصدونه من كل حدب وصوب ليكونوا مع الله. وقضيت ثلاثة أشهر محاولاً أيجاد يسوع.
صليتُ وصليتُ كثيراُ على جبل "سيجوكو"، وسألت الله جميع أسئلتي. كنت أتلقى الجواب نفسه. فكان الجواب يأتي إليّ في الأحلام، عن طريق صوت وكأني كنت أتحدث معه. وحدث هذا الشيء ليلة بعد ليلة، والرسالة كانت دائماً ذاتها: "يجب عليك أن تغفر."
كنت أذهب إلى الكنيسة هناك على الجبل، وكنت أسمعهم يوعظون بالموضوع نفسه. وأنا شخصياً لم أرد أن أسمعه، ولكن لم يكن هناك أي مفر منه. وصرت أسمع هذا الصوت مرات ومرات في نومي يقول لي: "ستشفى فقط عندما تغفر للآخرين." غير أنَّي تابعتُ العناد والمقاومة لسنة أخرى في الأقل.
وهنا أيضاً، فبالرغم من أنني كنت مسيحياً وتركتُ الشرب ولم أتعاطَ المخدرات بعد، إلا أنني لم أكن قد تحرّرتُ أو شفيتُ بالكامل. كنت "على ما يرام"، ولكن ما زال كان هناك استياءً في صميم كياني. فهذه كانت المشكلة، لأنه لا يكفي أن تكون مسيحياً، أو حتى أن تحفظ الكتاب المقدس كله. فهذا مجرد نصف البرنامج. فما يهم هو أن تعيش ما تعرفه صائباً – أي أن تعيش الحق.
كان يعني هذا بالنسبة لي أمر واحد لا غيره وهو أن أذهب وأسدد ديوني في كل مكان. فكان يلزمني أن أطلب المغفرة والعفو من حيث قد أسأت إلى الآخرين. كان يلزمني أن أغفر لــ "فنسنت"، وأن أغفر لزوجتي.
كانت معركة صعبة. فكنت دائماً أردّ لا. لا! واستغرق الأمر شهوراً. إلى أن جاء يوم عندما أحسستُ فيه بأني لا أحتمل بعد. فكان عليّ أن أتنازل، وأقول نعم. فقلت لنفسي: "أنا جاهز، الآن، وفي الحال، لأغفر لــ ‘فنسنت‘." ولما فعلت ذلك تحرّرتُ – وشفيتُ بالكامل، وتمَّ كسر قيود كل شيء من الماضي. ودخل السلام إلى قلبي. وحدث كل هذا بسبب جوابي لذلك الصوت عندما قلتُ نعم. اتصلتُ تلفونياً مع زوجتي. وذهبت لأبحث عن "فنسنت". كان في السجن، ولكني وجدت زوجته "رَجينة"، وطلبت منها أن تقول لزوجها "فنسنت" بأنني قد غفرتُ له...
عندما طلبتُ أنا من "جان بولس" تحديد بالضبط الأمر الذي دفعه ليغفر لصديقه القديم، قال بأنه بدأ يقلق من أنه هو شخصياً صار يتحوّل إلى قاتل. كما مبين فيما يلي:
أحمد الله على أنني لم أجد "فنسنت" قبل هذا الوقت. أنا شخصياً لم آذي أحداً طوال عمري، إلا أنني كنتُ، بعد هذه المذابح، عاقد النية على أذية "فنسنت" في قرار فكري. فكنت في طريقي لقتله. وحتى لو لم أكن قادراً على فعلها بنفسي، كنت ناوياً على أن أطلب من أحدهم ليقتله. فهذا ما يأخذنا الحقد إليه: حيث ينتهي الأمر بك لتصير قاتلاً أنت نفسك، حتى لو لم يكن لديك أية فكرة عن كيفية القتل.
وأخيراً عندما غفرتُ لـ "فنسنت" بالفعل، أستصعب "فنسنت" تصديق الأمر. فقال لزوجته: "كيف له بحق السماء أن يفعل ذلك؟ بعد كل الذي فعلته معه؟" وكان متأكداً بأنها خدعة, مجرد حيلة سياسية. إلا أنَّ زوجته قالت له: "لقد تكلمت مع ‘سامبوتو‘. وإن لم تقبل مغفرته، فهذه مشكلتك، ولكن دعني أن أقول لك أمراً، إنّ الذي يغفر لك هو ليس ‘سامبوتو‘ بل الله. إنّها النعمة."
صَدَّقَني "فنسنت" أخيراً، وخلق هذا الأمر شيئاً عجيباً. فقد كانت زوجته سابقاً لا تسمح له بالرجوع إلى البيت. فلم تقدر أن ترى نفسها تعيش مع قاتل غير تائب. أما عندما قبل "فنسنت" مغفرتي له (إذ قد رأى بأن الله فعلاً كان وراء كل شيء) صار بمقدوره التوبة ومسامحة ذاته. بعد ذاك، غفرت له زوجته "رَجينة" أيضاً. فقالت له: "إن غفر الله لك عن طريق ‘سامبوتو‘، فيجب عليّ أنا أيضاً أن أغفر لك." كما غفر له أيضاً جميع أولاده. وهو الآن ينعم في بيته. وأسرته جميعها معاً. وعندما أزورهم أتناول الطعام سوية معهم. فهكذا تعمل قوّة المغفرة.
والتغيّرات التي طرأت على حياة "جان بولس" جمّعت أسرته كذلك. فقد عاد "جان بولس" إلى أسرته في كندا في عام 2005. فاسمعوه يقول:
منذ ذلك الوقت حدثت عجائب كثيرة في حياتي. فقد تكلم الله لنا بفم مربية أبنتنا المعوّقة، وبيّنت لنا بأنها ليست بنت كسيحة وإنما ملاك. فقالت لنا: "لقد خلق الله بنتكم "كلوديا"، وفي نظره لا يوجد أي عطب فيها. وأنتما تشعران بالغم من طفلة كهذه. حتى أنكما لا تريدان النظر إليها. والأولى بكم أن تفتخروا بها."
وفي المرة القادمة التي ذهبت فيها لزيارة "كلوديا" (فهي لم تكن قادرة على السكن معنا، بل كانت تسكن في قسم خاص) بكيتُ، وشاهدني أبني أبكي. فسألني: "لماذا تبكي؟" بعد ذلك صلينا معها. وأخيراً تمكنتُ من أن أقرّ وأقول: "لقد أنعم عليّ الله بهذه الطفلة".
وبفضل مربية "كلوديا" بدأتُ أحسّ بأن الله بالحقيقة قد باركني عندما رُزِقنا بمثل هذه البنت. واليوم، وبدلاً من إلقاء التهم بعضنا على بعض بسبب حال ابنتنا، أدركنا أنا وزوجتي بأن ابنتنا هي كنز لا يقدر بثمن. وأعلم الآن سبب عدم موتي عندما كنت أحاول قتل نفسي بالمخدرات والشرب. فقد حفظني الله لأكون والداً للعائلة.
وحسبما تبرهن قصة "جان بولس" (مثلما تفعل جميع قصص الكتاب المأخوذ منه هذا المقال)، فإن الغُفران يُعتبر مسألة شخصية بحتة. فكل منّا يجب عليه أن يجد شفاءً داخلياً، بأساليبنا الشخصية، وفي زماننا الذي نعيش فيه. أما على صعيد آخر، فإنَّ الغفران هو أكثر من ذلك. فحتى لو كان بمقدوره أن يربط الناس بعضها ببعض، إلا أنَّ تأثيره يشبه "تأثير الموجة" الذي يمكن أن نلمسه على نطاق أوسع بكثير. وفي الحقيقة والواقع، يمكن للغفران أن يكون قوة اجتماعية مقتدرة، فهو له القدرة على أن يغيّر ويقوّي جماعات من الناس بأكملها.
على مسار التأريخ، كان كل من دور "مارتن لوثر كِنج" في حركة الدفاع عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، ودور "غاندي" في صراع الهند من أجل الاستقلال، هما المثالان الأكثر معروفين في هذا الموضوع، ولكن هناك الكثير غيرها. فيمكننا كتابة مجلدات عن دور "هيئة الحقيقة والمصالحة" في دولة جنوب أفريقيا، وعن جميع جلسات التحقيق التي عقدتها في أواسط التسعينيات. وتحتَ رعايتها وإرشادها، صارت المئات من كل من الضحايا وأيضاً من مرتكبي جرائم سياسة التفرقة العنصرية الوحشية للبلد، صارت تتدفق لمواجهة الماضي المرير، أملاً في شفائها وبناء مجتمعاً أكثر استقرارا.
في عام 1999 وكذلك في عام 2000، سافرتُ مع زوجتي إلى أيرلندا الشمالية كمشتركين في رحلة خاصة من أجل السلام وقابلنا المئات من الناس – وحتى المئات من الصغار الذين كانوا أكثر حماسة – الذين اجتمعوا كلهم ليشفوا جراح تلك المنطقة التي كانوا يسمونها "مشاكل" عن طريق ترويج الحوار والمصالحة ما بين المواطنين الكاثوليك والبروتستانت.
بعد حوالي عشرة أعوام، حدث الشيء ذاته في رواندا. خذوا على سبيل المثال بلدة "نياماتا Nyamata " التي تقع جنوبي العاصمة كيغالي. فعندما بدأت المذابح الجماعية في ربيع عام 1994، وجد كل من "موكامانا" –فتاة من قبيلة توتسي – و "أزيري" – مزارع من قبيلة هوتو – وجدا نفسيهما في معسكرات متضادّة.
ففي أحد أيام الربيع عندما عادت "موكامانا" إلى البيت راجعة من البئر لجلب الماء، وجدت بأن عائلتها كلها قد تمَّ قتلها وتقطيعها أرباً أرباً بالمدية (آلة الحشّ). فاختبأت بأحد الحقول، ومن ثم فرّت إلى دولة بوروندي المجاورة.
و "أزيري" المزارع لم يشترك في هذه المجزرة بالذات، لكنه قد اعترف لاحقاً بقتل آخرين في المنطقة نفسها.
أما اليوم، فيعيش الاثنان كالجيران، حتى أنهما يذهبان إلى الكنيسة نفسها أيام الآحاد. وقال "أزيري" لأحد الصحفيين من IRIN وهي شبكة المعلومات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة: "إن بعضنا يساعد بعضاً." كما أضاف قائلاً: "حينما يمرض واحد من جيراننا، نزوره في البيت." حتى أنه يشير إلى شيء أكثر أهمية قائلاً: "وأولادنا أصدقاء."
ويعيش كل من "موكامانا" و "أزيري" مع حوالي أربعين أسرة أخرى في مجتمع يتألف من الناجين من المذابح ومن مرتكبيها ممنْ اعترفوا بذنبهم. والقرية المُستحدثة التي أطلقوا عليها أسم "إمِدُجودو Imidugudo "(ومعناها قرية المصالحة) كان قد بدأها قسيس أنجليكاني (من الكنيسة الأنجليكانية) ويدعى "ستيفن كاهيجي Steven Gahigi "، الذي كان كل أباه وأمه وإخوته قد قٌتِلوا في عام 1994.
كان "كاهيجي" قد ظنَّ بأنه قد فقد قابليته على الغفران، فقال: "داومت على الصلاة إلى أن رأيت في إحدى الليالي صورة يسوع المسيح على الصليب... وتأملتُ كيف هو غفر للآخرين، فعلمتُ بأنني وغيري من الناس نقدر أن نغفر أيضاً." وبفضل هذه الرؤية امتلأ "كاهيجي" إلهاماً وعزيمة وأخذ يعظ بالغفران ويحكي للناس عنه. ولم يقُمْ بذلك في بلدة "نياماتا" فحسب بل أيضاً عند زيارته للسجون حيث كان مرتكبي الجرائم من قبيلة هوتو من الذين كانوا ينتظرون محاكماتهم. (علماً أن الحكومة في عام 2003 قد أخلت سبيل الآلاف من السجون لتخفيف شدة الزحام.)
ولم يكن تعلّم المغفرة أمراً هيّناً، حسبما قال القرويون، فقد أقرّت "موكامانا" بذلك قائلة: "لفترة طويلة، لم أكن أعتقد مطلقاً بأنني سأقدر أن أغفر للآخرين."، ولكن حيثما يستعد الناس لمواجهة ماضيهم بأمانة، ستشفى الجراح النفسية القديمة، وسيتيسّر لأشياءً عجيبة أن تحدث.
ويبدو أن هذا الأمر هو الذي جعل المغفرة ممكنة في قرية "إمِدُجودو"، حيث يحكي فيها الناس لأولادهم عن دورهم في عام 1994. ويقول "خافيير ناماي Xavier Namay " وهو أحد مرتكبي المذابح من الذين قد أقرّوا بشناعة ذنبهم: "إنَّ لمذابح الإبادة الجماعية لها آثار وعواقب وخيمة على كل الذين اقترفوها والذين نجوا منها." ويردف قائلاً: "يجب أن يعرف أولادي الشيء الذي اقترفته لكي يبنوا هذا البلد."
وفي السنين الأخيرة نرى ظهور مبادرات مماثلة في مناطق أخرى في أرجاء العالم. مثلاً في إسرائيل واندونيسيا وبغداد ودول البلقان ومجموعات مثل "فرق صانعي السلام المسيحية Christian Peacemaker teams"، وهيئة خدمات الأمريكيين الأصدقاء American Friends Service Committee" حكومية، التي كلها تعمل على ترويج المصالحة على اعتبارها السبيل الوحيد للتغلب على النزاعات العرقية. وفي أغلب الحالات يحققون إنجازات متواضعة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار كبر حجم القضية التي يتناولونها بكامل أبعادها. وغالباً ما يتبع انتصاراتهم عراقيل واتهامات من قبل أولئك الذين لم يجدوا تفاؤلاً وأيضاً من قبل المثاليين. ففي رواندا على سبيل المثال، حيث حضرتُ مؤتمراً عن المغفرة والتسامح في شباط من عام 2009، قابلت هناك العديد من الذين يقدمون طاقاتهم لبناء مجتمع جديد مبني على المحبة والثقة. ولكن هناك ولحد الآن أعداداً أكثر منهم ممن يدعون بأن المصالحة هي حلم فارغ. وبعض من هؤلاء يروّجون علناً أيديولوجيات ومفاهيم قديمة من التي تؤدي إلى مذابح الإبادة الجماعية. وفي مواجهة واقع كهذا فإن "جان بولس" يُعتَبَر حقيقة واقعة. فيقول:
صحيح أن دوامة العنف تبدو غالباً بلا نهاية. فكل حادثة منها تستدرج أخرى. إذ أنَّ كل شخص أو كل جماعة لهم عدوهم الشخصي كما يبدو الأمر. ومما يثير السخرية، فإن هؤلاء "الأعداء" غالباً ما يكونون غير موجودين حوالينا بعد. وفي حالات كثيرة فهم لم يعودوا موجودين حتى على قيد الحياة. أما بالنسبة لي، فإن العدو الحقيقي هو ذاك الذي نواجهه كلنا، ألا وهو: الغضب والاستياء الذين نحملهما معنا خلال اليوم وأينما ذهبنا؛ وكذلك الخوف والقلق والوسواس الذين ننام معهم كل ليلة. فلا نحتاج إلى ناس آخرين! فإننا نقتل أنفسنا.
ما زال الناس مأسورين: بالخوف، والغ ضب، وعدم الثقة، والتشكيك، والانتقام. ولا تزال هناك مرارة الكراهية والاستياء، ولا تزال نظريات التفرقة العنصرية التي كانت وراء المذابح الجماعية تُدرّس في مدارسنا. والناس الذين قد قضوا سنيناً وراء القضبان يعودون الآن إلى بيوتهم، وإذا قابلتَ أحدهم – إذا قابلتَ مَنْ قتل إبن عمك أو عمك أو أمك، وتكلمتَ معه – فلا يسعك التكلم معه مثلما كنتَ تتكلم معه سابقاً. فالأمر مستحيل بدون محبة. فالمحبة وحدها القادرة على إعتاقنا وتحريرنا من قيود الأحقاد الماضية وأيضاً وحدها التي توافينا بالشفاء الحقيقي.
ويتعذب الكثير من الناس في العالم من جراء هذا، فالأمر ليس محصوراً في رواندا فقط. ومما يزيد الفاجعة، هو أنهم يتصرفون كما لو أنه ليس هناك أي مخرجِ من هذا المأزق. ويقولون: "إن مثل هذه الأمور تحدث. فهذا هو الطريق الذي تسير عليها الحياة"، ولن يتكلموا عن الحلّ، الذي هو الغفران. غير أنَّ تقليدا من المغفرة هو وحده الكفيل بإيقاف دوامة العنف واليأس ويحرك عوضاً عنها دوامات جديدة من الأمل والمحبة.
ولنْ هذا يحدث بين ليلة وضحاها، لأن الغفران هي مسألة اختيار شخصي بحت. فالغفران يستقضي من المرء أن يجري تفحّصاً كاملاً لروحه وكيانه. ويحتاج الناس إلى أن يتمّ توضيح الدواعي والأسباب لهم لخوض كل هذا العناء. ويحتاجون إلى سماع قصصاً حقيقية عن الغفران، لكي يتأثروا. كما يحتاجون إلى رؤية شاملة عن كيفية سير الأمور إذا سمحوا للغفران أن يقودهم، حتى يحصلوا على الأمل والاندفاع.
إن رؤية كهذه تشبه فحوى أغنية قديمة للكفاح من أجل الحرية من الستينيات، حيث تقول:
"لا تقوى يد رَجُلٍ واحد على كسر السجن
ولا تقوى أيدي رجلين على كسر السجن
ولكن إن كان اثنان مع اثنان مع خمسين ينتجون مليوناً
فسنرى ذلك اليوم يتحقق..."
فهذا هو الأمل الذي جاء بضحايا ومرتكبي جرائم "التصفية العرقية" في عدد من القرى في كوسوفو ليتجمّعوا ويحرثوا تربة المزارع المشتركة؛ وهو الشيء نفسه الذي دفع الناجين المسيحيين جراء اضطهاد المسلمين في عامي 1998 – 1999 في جزر "مالوكا Maluka Islands " الأندونيسية ليغفروا إلى من حرق منازلهم واغتصب زوجاتهم وبناتهم.
وهو يستمر كذلك بإلهام نشاطات إبداعية أخرى في كافة أنحاء العالم، مثل المشروع المسرحي الذي أقيم في مدينة "بيتسبرج Pittsburgh " الأمريكية في صيف عام 2008 الذي جمّع فيه يهوداً إسرائيليين ومسلمين عرب ومسيحيين أمريكان، من أجل مجتمعاً إنسانياً. وقد استعملوا أسلوب المشاهد المسرحية التي كانت تحكي قصص المعاناة لكلا الطرفين، وتمَّ دعوة الخصوم بعدئذ لتبادل الأدوار ليتخيلوا أنفسهم وهم في مكان وظروف خصومهم، ويناقشوا حلولاً جديدة عوضاً عن مجرد تكرار إعادة المشاكل القديمة. (بعدئذ، صمّم المشاركون أن يأخذوا معهم إلى بلادهم ما تعلموه هناك, لاستخدامه كأداة لصنع السلام.)
ويقول مدير المشروع "روني أوستفيلد Roni Ostfield ": "هناك الكثير من المخاوف وسوء الفهم والجروح لدى جميع الأطراف." ويردف قائلاً: "إنه ألم حقيقي، ولكننا دائماً نأمل بأنه إذا فتح شخص واحد قلبه للمحادثات مع الطرف الآخر، ربما سيؤثر على عشرة أشخاص آخرين، ومن ثم لها أن تنمو من هناك."
ولِما لا؟ فقد انتهرت في إحدى المرات الأخصائية في علم الإنسان "مارجريت ميد Margaret Mead " موضوع التشكيك في قدرات المجاميع الصغيرة، قائلة: "يجب علينا ألّا نشك أبداً في قدرة أية جماعة صغيرة من الأفراد الملتزمين على تغيير العالم... بالحقيقة والواقع، أن أمثال هؤلاء هم الذين قد أثّروا في العالم." وصدقت كلماتها مجدداً
هذا المقال مقتطف من كتاب "لماذا نغفر؟"