يبدو، ويا للهول، أننا مشرفون على قضاءٍ إلهي فاجع وشيك. وإنه قريب جدًا بحيث لا نقدر على تجنُّبه إلاَّ بتدخُّل الله المباشر.
لقد حقق التسابق البشري تقدُّمًا تقنيًّا مدهشًا، قاهرًا الزمن والفضاء بواسطة العجلات والطائرات؛ إلاَّ أن آلافًا من الناس يلقون حتفهم بسبب تلك الوسائط نفسها! وهناك إنجازات مذهلة في المدن الكبيرة، ومع ذلك فإنَّ معظم العائلات الحضريَّة (في المُدن) تنقرض في الجيل الثالث أو الرابع.
إنَّ أكثر القوى الشريرة والمُهدِّدة لحضارتنا هي تلك المؤسسات الثلاثة الجبارة – الدولة والجيش والبنية الرأسمالية. إذ تُمثِّل هذه المؤسسات الثلاثة أفضل إنجاز أنجبته الروح الدنيوية للأرض. أمَّا الشيء الذي يصعب تصديقه فهو أن هذا الصرح الهائل قد بناه جيل فاسد. غير أنه سينتهي بالموت. فكم جبارة هذه القوة الشريرة! وكم أخَّاذَة قيمتها الظاهرية وجدارتها التي تبدو أكيدة، ولا يرقى إليها أيُّ شك!
إنَّ واقع يومنا الحاضر المُكفهِر – حيث الإنسانية تُدمِّر وتُخرِّب نفسها في جنون متكرر – يجب أن يُجَابَهَ بواقع أعظم منه بكثير ألا وهو: نور الغد. ففي هذا النور، دُعيت البشرية إلى ما هو عكس الخيانة والغش، والقتل والكراهية، والموت والدمار. (راجع 1 تسالونيكي 5: 4–5) غير أننا لن نلقى ضمانًا بأن فجر يوم جديد سيطلع علينا، ما لم نستوعب حُلكَة الليل وسواده المعتم وعذابه الذي لا آخِر له.
تؤثر هيمنة الشرِّ على جميع البشر. وقد بسطت يدها على مجالات كثيرة من الحياة في أيامنا هذه. فنصادفها في شتى أنواع الأنظمة الحكومية، وفي كل كنيسة، وفي كل تجمُّع مهما كان تديُّنه، وفي كل الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، حتى إنها موجودة في الحياة الأسرية، وفي الجماعة المُكرَّسة لكنيستنا أيضًا. فلدى الشرِّ قوة شيطانية تَنفضِحُ في كل واحدة من هذه التنظيمات، رغم تباين شكلها سطحيًّا. إذ إنها تعمُّ وتنتشر بفضل النزعة العنيدة لحرية الإرادة، أي بمعنى ميول الفرد لتقديم ما «له» أو ما «يخصُّه» وكأنه الشيء الوحيد الواجب أخذه بنظر الاعتبار، مثل: شخصيته، أو شعبه، أو دولته، أو كنيسته، أو دينه، أو مذهبه، أو حزبه، أو نقابته، أو عائلته، أو عشيرته، أو مجتمع جماعته، أو على الأقل أسلوبه الخاص في التفكير.
من الواضح أنه يصعب علينا أن نجد زمنًا – في السابق أو في الحاضر – حيث كان الله ومحبته وبِرِّه قد حكموا حكمًا كُليًّا وشاملاً على كل الأرض بأسرها. ونرى هذا الأمر في حياتنا الشخصية، وفي الأحداث الجارية كذلك. ونراه في مصير أولئك اليائسين: الملايين الملايين من العاطلين عن العمل. ونراه أيضًا في التوزيع غير العادل للخيرات، مع أن الأرض تُقدِّم خصبها وجميع إمكاناتها بشكل غير محدود. ثم إنَّ هناك عملاً عاجلاً يجب تأديته لإغاثة الإنسانية، غير أنه يجري اعتراض سبيله وتدميره بواسطة جور أنظمة العالم الحالية.
إننا في خضم انهيار الحضارة. فالحضارة هي عمل الإنسان المُنظَّم في عالم الطبيعة. إلاَّ أن هذا العمل قد تحوَّل إلى فوضى يصل زعيق ظلمها إلى السماوات.
وهناك مئات من العلامات التي تشير إلى أن شيئًا يوشك الحدوث. ومع ذلك فلا يحدث شيء في التاريخ إلاَّ وجاء من عند الله. فتضرعنا إليه الآن أن يصنع تاريخًا، تاريخه هو، تاريخ بِرَّه. وحينما يصنع الله تاريخه، يكون لدينا بأجمعنا الدواعي كلها لنرتعش. وبحسب ما يبدو واقع الحال عليه اليوم، لا يقدر الله على عمل أيِّ شيء، ما لم يكتسح غضبه أولاً كل الظلم والجفاء، وكل الشقاق والوحشية، التي تحكم العالم. وسيكون غضبه بداية لتاريخه. فيجب أن يأتي أولاً يوم الدينونة؛ بعدها يمكن ليوم الفرح، والمحبة، والنعمة، والعدل، أن يبزُغ بفجره.
أمَّا إذا سألنا الله ليتدخَّل، فيجب علينا أجمعين الكشف عن صدورنا أمامه، لندع بَرقَه يصعقنا، لأننا جميعنا مذنبون. فلا يوجد مَنْ هو غير مذنب بالشرِّ في عالم اليوم.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن الحركات الثورية أيقظت الضمير الإنساني وهزَّته، وهكذا فهي تهزُّ كيان الجنس البشري هزًّا عنيفًا. ولا يمكن لضمير كل إنسان أن يرتاح ما لم تطُلْ صرخة تحذيره أسلوب حياته لتغييرها. ثم إنَّ الهجوم الذي شنته الاشتراكية والشيوعية على الحالة الراهنة هو نداء ومناشدة لضمائرنا – نحن الذين نعتبر أنفسنا مسيحيين. ويحذرنا هذا النداء تحذيرًا شديدًا أكثر من أيِّ موعظة أو خُطبة، ويقول لنا إنَّ مهمتنا هي أن نعيش باحتجاج فَعَّال على كل شيء يعترض الله في هذا العالم. فقد أدينا نحن المسيحيين هذا الدور أداءً رديئًا جدًا، بحيث يجب أن نسأل أنفسنا: «أنحن مسيحيون حقًّا؟»
هناك معنى عميق عند كل مرة يصحو فيها الضمير الجماعي للجنس البشري. لأنه يوجد شيء يُسمى: ضمير العالم، أو ضمير البشرية. فهو يثور على الحرب وسفك الدماء، وعلى حب المال وعبادته، وعلى الظلم الاجتماعي، وعلى العنف مهما كان نوعه.
في هذه الساعات الأخيرة، وقبل حلول منتصف الليل، يجب أن تتأهب القلوب المؤمنة الآن لاستقبال القوى القديرة التي ستحكم عالم المستقبل، أي بمعنى روح أورشليم السماوية. (راجع سفر الرؤيا 3: 10–12) إنَّ الملكوت الأخير قريب، ويجب على العالم بأسره أن يكون في ترقُّبٍ له. ولكن العالم لن يُباليَ به ما لم تضع كنيسة يسوع المسيح وحدة الملكوت وعدله في حيز التطبيق يوميًّا وأينما كانت. فسيُحقِّق الإيمان الوحدة الحقيقة بين المؤمنين المستعدين لأن يعيشوا حياة محبة عاملة ليس لعطائها حدود.
لم يدعُنا الرب لنحب حياتنا الشخصية، ولا لنحب حياة إخواننا البشر. وبكلمة أخرى، فنحن مدعوون لنحيا لا للناس بل لمجد الله ولملكوته. ويجب أن لا نسعى لنرتقي بأنفسنا لملكوت الله بمحبة حياتنا والاهتمام الجيد بها. إذ إنَّ الطريق إلى الملكوت يمرُّ من خلال الموت، من خلال موت حقيقي فعلي. ويطلب مِنَّا هذا الطريق نكران حياتنا لأجل الله وملكوته. فقد قال المسيح: «فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا.» (مرقس 8: 35)
وإذا تمكَّنا من فهم زماننا الحالي كما هو عليه من أوضاع فظيعة، فسنرى بالتأكيد وبكل وضوح الضرورة المُلِحَّة لتلبية مطالب هذا الطريق. ولسنا في حاجة أيضًا إلى الذهاب بعيدًا جدًا في توقعاتنا، كأن نفكر في نشوب حرب مثلاً، رغم أنها تبدو وشيكة. إلاَّ أن الحالة السياسية تفرض علينا اليوم أن نكون على استعداد في أيِّ لحظة لنخسر حياتنا خدمة للقضية الإلهية التي تبنيناها. والويل للذين يحاولون باستمرار الحفاظ على حياتهم وعدم استرخاصها لأجل الله. لأن المسيح قال: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.» (يوحنا 12: 25)
اِستيقظ أيها النائم، وقُمْ؛ عندئذ يصلك المسيح! (راجع رومة 13: 11) وهذه الدعوة موجَّهة إلى كل من انزلق مُرتدًّا إلى غروب قلبه الكئيب وغير الجَريء: «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ!» (أفسس 5: 14) فالمسيح، ذلك النور الحقيقي، واقفٌ أمامك. فإنه سيقويك ليتسنى لك القيام بأعمال عظيمة: أعمال المحبة التي لا تُولَد إلاَّ بالإيمان بالمسيح.
إنك تعيش في الزمان الأخير. «إنها الساعة الأخيرة.» مثلما ينبهنا الإنجيل: «أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ الْمَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ الآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ.» (1 يوحنا 2: 18) فاحرُصْ على أن يكون لك حياة غير ملومة. ويعني هذا أنك يجب أن تنظر إلى المستقبل وتصوغ حياتك وفقًا للمستقبل الإلهي. واستفدْ من اللحظة الحالية، لأن الزمان غادِرٌ. فقد حانت ساعة الخطر الرهيب. ويجب أن يستيقظ الناس من غفلتهم إذا كانوا يتوخون اتِّقاء الدينونة الآتية. لذلك، لا تكُنْ أحمق. وتَعلَّم أن تفهم مشيئة ذاك الأعلى في يومنا هذا. (راجع أفسس 5: 15–17) واحتَرِزْ من هذه الأزمنة الشريرة والخطيرة، لئلا تبقى تحت الدينونة عند ساعة التجربة. فقد أصبحن العذارى الجاهلات مهملات. وسوف تصيبك الفاجعة أنت أيضًا في الدينونة الآتية، ما لم تَسْتَلِفْ أو تُعطى زيتًا لمصابيحك، كما بيَّن المسيح ذلك في مَثَل العذارى العَشر الذي ضربه كما يلي:
حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ. (متى 25: 1–13)
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «ثورة الله»