«كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي.» (لوقا 16: 18)
تُعتبَر مسألة الطلاق والزواج الثاني على الأرجح من أصعب القضايا التي تواجه الكنائس المسيحية في زماننا الحاضر. وقد أصبح من الصعب أن نجد متزوجين يأخذون كلام المسيح التالي على محمل الجد: «فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ» (متى 19: 6) – أيْ بمعنى متزوجين يؤمنون بأن الزواج معناه الوفاء بين رجل واحد وامرأة واحدة، إلى أن يفرِّق الموت بينهما.
قد يتصدَّع رباط الزواج، ولكن لا يجوز حلُّه أبدًا
يؤمن غالبية المسيحيين اليوم بأن الطلاق والزواج الثاني أمران مسموح بهما أخلاقيًّا وكتابيًّا. ويجادلون بأنه رغم أن الله يكره الطلاق، إلاَّ أنه يسمح به من قبيل التنازل، نظرًا لطبيعتنا البشرية الخاطئة. ويفسرون ذلك قائلين إنه بسبب قساوة قلوبنا، يمكن أن يُفسَخ الزواج أو يُحَلَّ. وبعبارة أخرى، إنَّ الله يعرف ضعفنا، ويقبل بحقيقة أننا لا يمكننا تحقيق المثالية دائمًا، ولاسيَّما أننا نعيش في عالم ساقط في الخطيئة. ويقولون إنه بفضل غفران الله، يمكن للمرء دائمًا أن يبدأ من جديد، حتى لو كانت بداية جديدة في زواج جديد.
ولكن لنتأمَّل قليلاً هنا ونتساءل: ماذا عن الرباط المُتعهَّد به بين اثنين، والمعقود – بمعرفة أو بغير معرفة – أمام الله؟ هل سبق أن عَنَى غفران الله إمكانية التنكُّر لهذا العهد؟ هل سبق أن سمح الله بخيانة عهد الزواج؟ لأنه كما أن وحدة الكنيسة أبدية ولا تتغير، فهكذا الحال مع الزواج الحقيقي، فهو يُمثِّل هذه الوحدة، ولا فكاك من رباطه. وأنا أؤمن، إسوة بإيمان المسيحيين الأوائل، بأنه ما دام الزوجان على قيد الحياة، فلا يجوز أن يكون هناك زواج ثانٍ بعد طلاق. فإنَّ ما جمعه الله في وحدة الروح القدس لا يمكن أن يفرقه سوى الموت. أما الخيانة الزوجية سواء كانت من أحد الزوجين أو من كليهما، فلا تُغيِّر من هذا الموضوع شيئًا. فلا يملك أيُّ شخص مسيحي الحرية ليتزوج من شخص آخر، ما دامت قرينته (أو قرينها) على قيد الحياة. فرباط الوحدة الزوجية مُهدَّد بالضياع.
ويبيِّن الرب يسوع بوضوح أن النبي موسى قد سمح بالطلاق في ظِلِّ الناموس بسبب قساوة القلب:
قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلَكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا.» (متى 19: 8)
أما الآن فلم تعد قساوة القلب عُذرًا مقبولاً بين تلاميذ المسيح – أولئك المولودين من الروح القدس. فنرى أن النبي موسى قال:
وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ. (متى 5: 31)
أما الرب يسوع فقال:
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي. (متى 5: 32)
وقد فهم تلاميذ يسوع المسيح هذا الكلام القاطع ليسوع فهمًا كاملاً، كما يتضح من تعقيبهم:
قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هَكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» (متى 19: 10)
لقد أذِن موسى بالطلاق انطلاقًا من ضرورة محضة، ولكن هذا لا يمكنه أن يغيِّر الحقيقة وهي أن الزواج منذ البدء كان المقصود منه أن يكون مؤبدًا ولا ينفصم. فلا يحقُّ أن يُحَلَّ الزواج (حتى لو تصدَّع)، لا من قِبل الزوج الذي يهجر زوجته الخائنة، ولا من قِبل الزوجة التي تهجر زوجها الخائن. إذ لا يمكن أن يُلغى نظام الله بِسهولة أو باستخفاف.
ويكتب القديس بولس الرسول بالوضوح نفسه إلى أهل كورنثوس:
وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ فَأُوصِيهِمْ لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ أَنْ لاَ تُفَارِقَ الْمَرْأَةُ رَجُلَهَا. وَإِنْ فَارَقَتْهُ فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا. وَلاَ يَتْرُكِ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ. (1 كورنثوس 7: 10–11)
ويكتب أيضًا:
الْمَرْأَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالنَّامُوسِ مَا دَامَ رَجُلُهَا حَيًّا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَ رَجُلُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ لِكَيْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ تُرِيدُ فِي الرَّبِّ فَقَطْ. (1 كورنثوس 7: 39)
ويقول في الرسالة إلى رومة:
فَإِذًا مَا دَامَ الرَّجُلُ حَيًّا تُدْعَى زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَ الرَّجُلُ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى إِنَّهَا لَيْسَتْ زَانِيَةً إِنْ صَارَتْ لِرَجُلٍ آخَرَ. (رومة 7: 3)
ولأن الزنى هو خيانة الاتحاد الزوجي ذي السِرِّيَّة الخفيَّة بين رجل واحد وامرأة واحدة اللذين صارا جسدًا واحدًا، فهو يشكِّل أسوأ أشكال الخداع. وعلى مجتمع الكنيسة أن يتواجه بصلابة مع الزنى، ويجب أن تجري دعوة الزاني إلى التوبة، ويجب أن يُؤدَّب كذلك، بحسب توجيه الإنجيل:
يُسْمَعُ مُطْلَقًا أَنَّ بَيْنَكُمْ زِنًى! وَزِنًى هَكَذَا لاَ يُسَمَّى بَيْنَ الأُمَمِ حَتَّى أَنْ تَكُونَ لِلإِنْسَانِ امْرَأَةُ أَبِيهِ. أَفَأَنْتُمْ مُنْتَفِخُونَ وَبِالْحَرِيِّ لَمْ تَنُوحُوا حَتَّى يُرْفَعَ مِنْ وَسَطِكُمُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ؟ فَإِنِّي أَنَا كَأَنِّي غَائِبٌ بِالْجَسَدِ، وَلَكِنْ حَاضِرٌ بِالرُّوحِ، قَدْ حَكَمْتُ كَأَنِّي حَاضِرٌ فِي الَّذِي فَعَلَ هَذَا هَكَذَا بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ — إِذْ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ — أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. (1 كورنثوس 5: 1–5)
الوفاء والمحبة هما العلاج لرباط الزواج المُتصدِّع
من الجدير بالذكر أنه حتى لو كان الرب يسوع يسمح بالطلاق لسبب الزنى أو الفحشاء، إلاَّ أن ذلك يجب أن لا يكون أبدًا نتيجة حتمية أو ذريعة للزواج مرة ثانية. لأن محبة الرب يسوع المسيح تصالح وتغفر. أمَّا الذين يسعون إلى الطلاق، فسوف يحسون دائمًا بغصة استياء مريرة في ضمائرهم. ومهما يبلغ الألم النفسي الذي يسببه الشريك الخائن، يجب على الشريك المجروح أن يكون مستعدًا لأن يصفح ويغفر له. فلن يكون لنا رجاء في مغفرة الله لخطايانا الشخصية إلاَّ عندما نغفر للآخرين، كما قال لنا الرب يسوع:
فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ. (متى 6: 14–15)
إنَّ المحبة الوفيَّة لشريك الحياة، ولاسيَّما للمسيح، هي العلاج الوحيد لرباط الزواج المُتصدِّع.
إنَّ كِلا الزوجين كِنتْ وايمي Kent & Amy يخدمان حاليًا برتبة قسيس ضمن كنيسة واحدة في ولاية كولورادو الأمريكية؛ ولكنهما كانا مُطلَّقين سابقًا أحدهما من الآخر. وكان وضعهما يائسًا إلى أقصى درجة يمكن أن يصل إليها زواج. ولكنهما تمكنا من أن يعود أحدهما إلى الآخر ثانية، لأنهما أبقيا الباب مفتوحًا أمام المسيح. ويحكي لنا كِنتْ قصته فيقول:
كان زواجنا، منذ اليوم الأول، ينطوي على مشاكل هائلة، وبدأنا ثلاث سنوات من الانحدار في دوامة من الاضطراب الكلي. وكنتُ أظن أن الزواج مجرد فرصة للتنزه معًا والاستمتاع معًا. فلم يكن لدي أيُّ فكرة عن العمل الشاق الذي يتطلبه الزواج. وأصبحتُ أخيرًا مجرد هيكل إنسان، بل كنتُ في بعض الأحيان أحتقر الحياة. وحاولتُ القيام بجميع الأمور «الروحية» التي يُفترض أن يقوم بها المرء في ظروفي: مثل قراءة الكتاب المقدس، والصلاة، واستشارة الآخرين. ولكنها بدتْ جميعها بلا جدوى. فقد جئنا أنا وايمي من خلفيات متناقضة تمامًا، ولم نقدر أن نتفاهم رغم محاولاتنا المضنية.
وتفاقم الألم بدرجة كبيرة حتى أننا قررنا أن ننفصل، وأن نبدأ بإجراءات الطلاق. وكان هذا عكس تربية كنيستي تمامًا، ولكني شعرت بأني محاصر في فخ يائس وعليَّ أن أخرج منه. واستمر العذاب النفسي حتى من بعد أن قررنا الطلاق. وأصبحتُ مرهقًا نفسيًّا لدرجة أنه كانت تمر بي أيام أنهض في الصباح منهوك القوى، حتى أني لم أتمكن من أن أُزَرِّر قميصي. ونظرًا لعجزي في مجاراة الأمور فقد تَنَحَّيتُ عن عملي برتبة قسيس. وكانت ايمي طوال هذه المدة مُدمَّرة كليًّا. وكنت أعرف أنها كانت بودها أن تتحسن الأمور، ولكن كان الأمر بالنسبة أليَّ أكبر من طاقتي لأتحمله وأتعامل معه. ورغم تعهداتنا للمسيح، وأحدنا للآخر، إلاَّ أننا ضعنا كلانا تمامًا.
وكمحاولة لعلاج آلامي، لجأتُ إلى الانهماك في العمل. فقد أدركتُ بأني سأصبح خاملاً وكسولاً لو اخترتُ البطالة، أو دخلتُ في علاقة أخرى. لذلك أخذتُ أعمل وأعمل وأعمل. وأعتقد أن كُلاًّ مِنَّا، أنا وايمي، حاول أن يثق بالله في قرارة نفسه ويتوكل عليه. أمَّا أنا شخصيًّا فكنت أقسم يوميًّا، بيني وبين نفسي، أن لا أعود إليها مرة ثانية. وفي كل مرة حاولنا فيها التحدُّث لتصفية الأمور، كان الحديث ينتهي بالمشاجرة. فقد كان حالنا ميؤوسًا منه.
لقد وصلتُ إلى حدٍّ بحيث لم أعد أستطيع فيه الالتفات إلى الله أيضًا. فقد أصبح كل شيء لا فائدة منه، وميِّتًا. وتوالت أسئلة اليأس والشك: هل بقي شيء يستدعي الاهتمام؟ ثم لماذا كنتُ أعمل بكل هذه المشقة بالأساس؟ ومَنْ ذا الذي كنت أحاول أن أخدعه؟ ولماذا الاستمرار في محاولة العمل بمشيئة الله إذا لم ينتج عنها أيُّ شيء صالح؟
ولكن في وقت متأخر من إحدى الليالي، وعندما فرغتُ من العمل، شدَّ نظري منظر القمر الساطع والنجوم المتلألئة في كبد السماء. واختطف شيء ما قلبي، وشعرت من جديد بجلالة الله ورحمته. وما هي إلاَّ ثوانٍ حتى أجهشتُ في البكاء. وفي وسط كل آلامي ويأسي، بدأتُ أشعر ربما لأول مرة في حياتي بمعاناتي الحقيقية وبوضعي المزري من ناحية، وبمحبة الله الواسعة غير المشروطة من ناحية أخرى. ورغم عدم وفائي بوعودي لله ولزوجتي، إلاَّ أن الله أكد لي بأنه كان لا يزال وفيًّا لي، وبأنه لم يتخلَّ عني، ولم يقطع أمله مني. وكانت تلك الليلة نقطة تحول حقيقية في حياتي. فقد بدأ شيء في داخلي يتغيَّر بفضل معجزة النعمة الإلهيَّة.
وكنت أتمنى لو كانت هناك معجزات كثيرة لكي تجمعنا على الفور أنا وايمي ثانية. ولكن لم يحدث أيُّ شيء من هذا القبيل. فقد عاد أحدنا إلى الآخر عن طريق بذل الكثير من الجهود الشاقة. فلم يحصل جمع شمل الأسرة بشكل فوري؛ بل استغرق عامين. فكان يترتب علينا أن نحكي معًا بخصوص الكثير من الأمور، وأن يغفر ويسامح أحدنا الآخر كثيرًا. وكلما كُنَّا نحكي مع بعض ويفتح أحدنا قلبه للآخر، كان يزول قدر كبير من العذاب والحواجز النفسية التي كانت موجودة من قبل. وأخيرًا، نجَّانا الله وحده، وليس سواه. فهو الذي أعاننا لكي نُبقي الباب مفتوحًا له، وأحدنا للآخر – رغم ضعفنا البشري والعراقيل التي نضعها. وهو الذي نجَّانا من فخ الأكذوبة المنصوبة لنا في مثل ظروفنا، التي مفادها أن أفضل طريقة لحل المشاكل هي عن طريق إقامة علاقة مع شخص آخر أكثر ملائمة من الأول.
ولا يزال زواجنا يمرُّ عبر مناطق وعرة. وربما لن تنتهي المناطق الوعرة. ثم إننا – أنا وزوجتي – لا نزال نختلف كثيرًا أحدنا عن الآخر. ولو ركَّزتُ تفكيري زيادة عن اللزوم على نقاط ضعفي أو نقاط ضعف زوجتي، فلن أتحمل الوضع وسأهرب، وبالتالي سننفصل، ولكن الشيء الذي يجمعنا ويحافظ على الحب بيننا هو وفاء الله وإحسانه. وهذا الوفاء الإلَهِي هو الذي يحفظ نظري مثبتًا على مشيئته، ويجعلني ملتزمًا بوعودي.
بطبيعة الحال، لا ينتهي كل صراع زوجي نهاية سعيدة مثلما حدث مع الزوجين كِنتْ وايمي. ففي كنيستي، على سبيل المثال، سبق أن حدث عدة مرات أن أحد الزوجين أصبح خائنًا، وطلَّق شريكه، وهجر مجتمع الكنيسة، وتزوج ثانية. وكان الشريك المتروك يقرر في كل مرة تقريبًا أن يبقى في مجتمع الكنيسة وفيًّا لعهد عضويته في الكنيسة، ولعهد الزواج. ورغم أن هذا القرار يُعتبَر خيارًا مؤلمًا طبعًا – ويكون الألم مضاعفًا في حالة وجود أطفال – إلاَّ أنه جزء من الثمن الباهظ الذي تقتضيه التلمذة للمسيح. فلو التجأنا لله، فسيهبنا القوة على الثبات.
عند كل زواج يحدث في مجتمعات كنيستنا، يُسأل الشريكان السؤال التالي الذي صاغه جدي ايبرهارد آرنولد — الذي كان قسيسًا ألمانيًّا ناهض السياسة التعسفية للحكومة النازية في ألمانيا — والسؤال كالآتي:
أخي، أتمتنع كُليًّا عن اِتِّباع زوجتك فيما هو باطل – وأختي، أتمتنعين كُليًّا عن اِتِّباع زوجك فيما هو باطل؟ ولو حصل أن أراد أحدكما أن يهجر طريق يسوع المسيح، ويترك الكنيسة، فهل يضع الشريك الآخر الإيمان بمعلمنا يسوع الناصري والوحدة في روحه القدوس قبل زواجه دائمًا، وكذلك في حالة التواجه مع السلطات الحكومية؟ أسألكما هذا لعلمي بأن الزواج يكون مبنيًّا على الرمل، ما لم يُبنَ على صخرة الإيمان، أيْ بمعنى الإيمان بالرب يسوع المسيح.
في هذا السؤال حكمة عميقة، فهو يدخل في صلب الموضوع، ويضع يده على الجرح، سواء كان للزواج الذي يحصل اليوم، أو في السابق. ويمكننا القول إنَّ هذا السؤال يذكِّرنا، بكل بساطة، بالخَيار الموجود أمام كل واحد مِنَّا، نحن المُدَّعين بأننا تلاميذ يسوع المسيح: فهل نحن مستعدون لأن نتبع يسوع مهما كلَّف الأمر؟ ألم يحذرنا هو بنفسه من الثمن الذي سندفعه؟ فقد قال:
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. (لوقا 14: 26)
لو أخذ الزوجان هذا التحذير على محمل الجد، فربما يسبِّب الحقُّ انشقاقًا بينهما، ولكن قدسية رباط زواجهما ستتبارك وتُصان حقًّا. فالموضوع هنا ليس الزواج في حد ذاته فحسب، بل أيضًا رباط الوحدة السامية بين اثنين مُتَّحِدين في المسيح وفي روحه القدوس:
وَلَكِنْ إِنْ فَارَقَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ فَلْيُفَارِقْ. لَيْسَ الأَخُ أَوِ الأُخْتُ مُسْتَعْبَدًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَحْوَالِ. وَلَكِنَّ اللهَ قَدْ دَعَانَا فِي السَّلاَمِ. لأَنَّهُ كَيْفَ تَعْلَمِينَ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ هَلْ تُخَلِّصِينَ الرَّجُلَ؟ أَوْ كَيْفَ تَعْلَمُ أَيُّهَا الرَّجُلُ هَلْ تُخَلِّصُ الْمَرْأَةَ؟ (1 كورنثوس 7: 15–16)
فكلما ظَلَّ الرجل وفيًّا لشريكة حياته (أو المرأة لشريك حياتها) — بصرف النظر عن عدم وفاء ذاك الشريك — قَدَّم بذلك شهادة عن هذه الوحدة السامية. ففي وسع الوفاء الأبدي لله ولكنيسته أن يجدد الالتزام الزوجي، ويزرع أملاً جديدًا. وقد رأيتُ أكثر من مرة كيف تمكَّن وفاء شريك مؤمن أن يُهدي شريكه غير المؤمن ويعيده إلى الرب يسوع، وإلى الكنيسة، وإلى زواج رصين.
وتُعتبَر قصة آن وزوجها هاورد (التي ذكرتها لكم في الفصل السادس عشر) مثالاً على ذلك. فنرى أنه حتى عندما عاد هاورد وسقط في الخطيئة ثانية، لم تهتز التزامات زوجته آن نحو المسيح والكنيسة مطلقًا. ومع أنها أبت الانصياع إلى مساومة زوجها هاورد، إلاَّ أنها لم تُدِنْه. ولكنها، بدلاً من إدانته، استدرجته بهدوء إلى الصراع الروحي الشخصي من أجل التوبة، ومن أجل صنع بداية جديدة. لذلك نرى أن ثبات وصبر الزوجة آن، كان لهما الفضل الكبير في استعادة كل من زواجهما، وإيمان زوجها هاورد.
الوفاء الحقيقي ليس مجرد عدم التورط في الزنى
لَمَّا كان الله يبغض الطلاق، فإنه سيدين أيضًا كل زواج خالٍ من المحبة، وكل زواج هامد تسري فيه برودة الموت، ويجب أن يكون هذا تحذيرًا لكلٍّ مِنَّا. فكم شخصًا مِنَّا كان فاتر القلب، أو غير مُحِبٍّ لشريك حياته بين حين وآخر؟ وكم آلافًا من الأزواج، بدلاً من أن يحب بعضهم بعضًا، يقتصر الأمر على أنهم يتواجدون تحت سقف واحد؟ فالوفاء الحقيقي هو ليس مجرد عدم التورط في الزنى، بل إنه يشترط أيضًا أن يكون هناك التزام قلبي وروحي بين الزوجين. وكلما افتقر الزوجان إلى الالتزام أحدهما بالآخر، وكان كل منهما يعيش حياة مزدوجة، ومتباعدان نفسيًّا، وكل منهما في عالمه الخاص، أو كانت بينهما قطيعة، فإنَّ الانفصال والطلاق يقفان لهما بالمرصاد.
ثم إنَّ مهمة كل كنيسة هي محاربة روح الزنى حيثما تُطِلُّ برأسها وتبيِّن وجهها القبيح. وأنا لا أقصد هنا الزنى كفعل جسدي فقط؛ إذ إنَّ كل شيء يؤدي إلى إضعاف الحب، أو الوحدة والوئام، أو العفاف، أو يعيق روح التوقير المتبادل، في داخل الزواج، يُعتبَر في الحقيقة زنى، لأنه يُغذِّي ويُنمِّي روح الزنى. ولهذا السبب سَمَّى الله عدم إخلاص شعب إسرائيل بالزنى، (راجع ملاخي 2: 10–16).
وفي العهد القديم (أي قبل مجيء المسيح)، يستخدم الأنبياء الوفاء في الزواج مثالاً على التزام الله بشعبه إسرائيل، الشعب المختار — عروسه، (راجع هوشع 3: 1). ويقارن الرسول بولس بطريقة مماثلة الزواج بعلاقة الوحدة بين المسيح العريس وكنيسته العروس. ولا يسعنا النظر بوضوح في مسألة الطلاق والزواج الثاني إلاَّ في ظل روحية هذه الصور المَجازية المُعَبِّرة للكتاب المقدس.
حينما تفشل أيُّ كنيسة في رعاية العلاقات الزوجية لأفرادها، كيف يمكنها إذن أن تدَّعي ببراءتها عندما تنهار هذه العلاقات؟ وحينما تتحاشى الكنيسة أيضًا الشهادة لكلام يسوع: «فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ،» كيف تتوقع من أفرادها المتزوجين أن يبقوا ملتزمين لمدى الحياة؟
في تأملنا لهذه المسائل والنظر فيها، هناك مبدآن مهمان يجب عدم تناسيهما، وإلاَّ تحوَّلا إلى مزلقين من الواجب تجنبهما: المبدأ الأول، هو أننا لا يمكننا أبدًا الموافقة على الطلاق؛ والثاني، يجب أن لا نعامل أبدًا بالحرفية المُتزمِّتة للشريعة أو بالقسوة الناس الذين يعانون من عذاب الطلاق وآلامه. ففي رفضنا للطلاق لا يمكننا رفض الشخص المُطلَّق، حتى لو تزوج ثانية. ويجب أن نتذكر دائمًا أنه رغم أن الرب يسوع يتكلم بصرامة ضد الخطيئة، إلاَّ أنه لا يفتقر إلى الرأفة أبدًا. ولَمَّا كان الرب يسوع يشتاق إلى أن يعتق كل خاطئ من عبودية الخطيئة، ويهبه شفاء الروح والجسد والحياة، فهو يطلب التوبة عن كل خطيئة. وهذا ما يطلبه أيضًا من كل علاقة زوجية مُتصدِّعة.
ويجب علينا طبعًا أن لا ندين الآخرين أبدًا. ولكن علينا في الوقت نفسه، أن نكون أوفياء للمسيح قبل كل شيء آخر. وعلينا احتضان كامل الحقيقة الإلهيَّة التي جاء بها لنا – وليس مجرد تلك الأجزاء من هذه الحقيقة التي تبدو مناسبة لاحتياجاتنا. فيقول المسيح في الإنجيل:
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!. (متى 23: 23–24)
ولهذا السبب لا تزوِّج كنيستنا أفرادًا مُطَلَّقين ينتمون إليها (ما دام الشريك السابق على قيد الحياة)؛ وللسبب نفسه، لا تقبل كنيستنا أشخاصًا أعضاءً فيها من الذين قد تزوجوا مرة ثانية (بعد حالة طلاق)، ويعيشون في علاقة زوجية مع شريك جديد، ما دام شريكهم السابق على قيد الحياة. ثم إنَّ الزواج الثاني يزيد من تعقيد خطيئة الطلاق، ويَحُول دون إمكانية المصالحة مع الشريك الأول. فموقفنا في الزواج موقف الولاء والوفاء لمدى الحياة. فلا يوجد موقف آخر يتوافق مع الحب الحقيقي ومصداقية الزواج سوى هذا الموقف.
يحتاج الأمر إلى إعادة اكتشاف المغزى من تقديم الالتزامات في الزواج. فها نحن بدأنا الآن نتواجه مع الأضرار التي يسببها الطلاق لأولادنا. فالطلاق في نظر الأولاد، دع عنك الراشدين، يُعتبَر شيئًا لا يمكن «التعافي منه» بسهولة. فقد أظهرت الدراسات الحديثة المتتالية أن معظم الأولاد الذين يلجأ والديهم إلى الطلاق، يعانون من القلق، والفشل الدراسي، وعدم الثقة بالنفس. وتستمر معاناتهم من المشاكل النفسية كالخوف، والكآبة، والسلوك المعادي للمجتمع، حتى بعد عشر سنوات من انفصال والديهم.
أمَّا الأسر الربيبة — وهي أُسر فيها أولاد للزوج أو للزوجة — فلا تُقدِّم حلاًّ شافيًا. فلا يمكن استرداد البنية الأصلية للأسرة في هذه الأسر الربيبة، مهما تم بذله من محاولات شاقة لتقليدها. وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد الذين يعيشون في أسر ربيبة، تظهر عليهم بوادر عدم الأمان النفسي بدرجة أكبر مما يحصل مع الأولاد الذين يعيشون في بيوت ليس فيها سوى أحد أبويهم الحقيقيين. لذلك نرى أن جيلاً من الأولاد ينشؤون بدون والديهم، الذين من المفروض أن يكونوا مثالاً صالحًا لأولادهم — حتى أن العديد من الأولاد ليس لديهم والدون حقيقيون أساسًا. فأين يمكن للأولاد الحصول على الدعم والمساندة، عندما يحين وقتهم للزواج وتأسيس أسرة بنوايا حسنة، مثل غيرهم من الشباب في يومنا الحاضر؟
كل شيء مستطاع عند الله
بطبيعة الحال، لو أردنا تجنب الطلاق، لوجب على مجتمع الكنيسة أن يُقدِّم لأفراده التوجيه والإرشاد إضافة إلى الدعم العملي قبل فترة طويلة من انهيار زواجهم، فينبهنا الإنجيل:
وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ...مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ. (عبرانيين 10: 24؛ 12: 15)
ويجدر بالأزواج أن يكونوا صادقين مع مجتمع الكنيسة وصريحين بشأن زواجهما، حتى لو كان هناك في علاقاتهم الزوجية مجرد عدد قليل من المؤشرات المُقلِقة الدالَّة على أن الزواج عَليلٌ ومعرَّضٌ للخطر. أمَّا إذا كبرتْ الهُوَّة بين الزوجين كثيرًا، فقد يتطلب الأمر إلى توفير مكان لهما، ووقت كافٍ، لاستعادة العلاقة القلبية بينهما. وفي وضع كهذا، أو في الوضع الذي يصبح أحد الشريكين متعديًّا وعنيفًا، قد يكون الانفصال المؤقت ضروريًّا. وينبغي أن يجد مجتمع الكنيسة، ولاسيَّما في هذه الأوضاع، وسائل عملية لمساعدة كِلا الزوجين – أولاً: لكي ينشدا التوبة، وثانيًا: لكي يحصلا على الثقة المتبادلة، والمسامحة المتبادلة، الضروريتين لاستعادة الزواج.
من المحزن أن نرى شيمة الأمانة في المجتمعات المعاصرة، قد صارت عملة نادرة جدًا، حتى أصبح يُنظر إليها وكأنها فضيلة «بطولية.» ألا ينبغي أن تكون أمرًا بديهيًّا لنا باعتبارها حجر الأساس لإيماننا؟ فيقول الإنجيل:
وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ. (غلاطية 5: 22)
وباعتبارنا من أتباع المسيح، ألا ينبغي أن يكون كلٌّ مِنَّا راغبًا في البقاء أمينًا في السراء والضراء ولغاية الموت، للمسيح ولمجتمع كنيسته، ولزوجته أو لزوجها؟ فلا يكون لدينا أمل في البقاء أمناء لوعود زواجنا، إلاَّ بمثل هذه العزيمة والتصميم.
إنَّ طريق التلمذة للمسيح ضيِّقٌ، ولكن كل من يسمع كلام يسوع يتمكن، بفضل الصليب، أن يضع تعاليمه في حيِّز التطبيق، ويعيش وفقًا لها، فيوصينا يسوع المسيح:
فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. (متى 7: 24–25)
لو كان تعليم الرب يسوع المسيح بشأن الطلاق والزواج الثاني يبدو صعبًا، فلا يرجع سبب ذلك إلاَّ إلى أن الكثيرين في أيامنا هذه لم يعودوا يؤمنون بقدرة مفاعيل التوبة، والمغفرة، ودورها في تغيير الحياة. ولأننا لم نعُد أيضًا نؤمن بأن ما جمعه الله يمكن بنعمته أن يظل متماسكًا؛ ولم نعُد أيضًا نؤمن بقول يسوع المسيح: «لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّه.»
وينبغي أن لا يكون هناك أيُّ شيء عسير علينا، لو كان من متطلبات الإنجيل. إذ يقول لنا المسيح بنفسه:
تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ. (متى 11: 28–30)
فلو نظرنا إلى تعاليم الرب يسوع المسيح بشأن الطلاق والزواج الثاني بهذا الإيمان، لرأينا أنه تعليم ينطوي على وعد عظيم، وأمل كبير، وقوة مقتدرة. وإنَّ بِرَّ هذا التعليم أعظم بكثير من بِرِّ تعليم الأخلاقيين المتزمتين والفلاسفة. إذ إنه بِرُّ الملكوت، وهو تعليم مؤسس على حقيقة القيامة والحياة الجديدة.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «دعوة إلى حياة العِفَّة والنقاوة»