أنتَ أخرَجْتَني مِنَ الرَّحِمِ، وطَمأنتَني على ثَديِ أُمِّي. فأنا مِنَ الرَّحمِ محسُوبٌ علَيكَ، ومِنْ بطنِ أمِّي أنتَ إلهي. اقترَبَ الضِّيقُ ولا نَصيرٌ لي، فلا تَتباعَدْ عنِّي. مزمور 22: 9 - 11
منذ تسعين سنة تقريبا، واستجابة لفكرة التخطيط الأسري "الحديث"، كتب ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold (وهو علامة لاهوتي ومؤسس حركة برودرهوف المسيحية Bruderhof للحياة المسيحية المشتركة) يقول:
تتمنى عائلاتنا أن تُرزق بأكبر عدد من الأولاد يشاءه الله. ونمجد قوة الله الخلاقة في الإنجاب. ثم إننا نرحب بالعائلات الكبيرة باعتبارها واحدة من عطاياه الثمينة.
يا تُرى ماذا كان سيقول اليوم في عصر صار فيه منع الحمل ممارسة مألوفة وملايين الأجِنَّة يقتلون قانونيا كل عام قبل ولادتهم؟ فأين هي فرحتنا بالأطفال وبالحياة العائلية؟ وأين هو اِمتناننا بما يرزقنا الله من عطايا؟ وأين هو توقيرنا للحياة ورحمتنا على أولئك غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم؟ أما يسوع المسيح فيعلن بأجلّ وضوح أنه لا أحد يمكنه دخول الملكوت ما لم يصبح هو أو هي مثل طفل.
الجنس دون اعتبار لهبة الحياة أمر باطل
إن روحية عصرنا لا تتعارض فقط مع الروحية الطفولية – روحية البراءة - بل مع الأطفال أنفسهم أيضا. إنها روح الموت، ويمكن رؤيتها في كل مكان في المجتمع العصري: فنراها في ارتفاع معدلات جرائم القتل والانتحار، وفي العنف المنزلي والإساءة الزوجية الواسعة الانتشار، وفي الإجهاض، وفي عقوبة الإعدام، وفي ما يسمى بالقتل الرحيم (أي قتل المرضى أصحاب الأمراض المستعصية بدعوى إراحتهم من الألم). وتبدو حضارتنا أنها مصممة على المضي في طريق الموت، وعلى بسط يدها على ما هو أمر الله. والذنب هو ليس ذنب الدولة فقط.
فكم كنيسة تجيز قتل الأجنّة بحجة دعم حقوق المرأة؟ إن "التحرّر" الجنسي الذي في مجتمع بلادنا قد زرع دمارا هائلا. إنه تحرر زائف مبني على السعي الأناني إلى إشباع الغرائز والمُتع. فهو يتجاهل التأديب وضبط النفس وتحمُّل المسؤولية وما تجلبه هذه الفضائل من تحرر حقيقي. ووفقا لما يصفه أستاذ اللاهوت الجامعي الأمريكي ستانلي هاورواز Stanley Hauerwas فأن هذا التحرر الزائف يعكس "عدم وجود أية قناعة لدينا بضرورة توريث شيء صالح إلى الجيل الجديد... فنحن نشتهي الموت".
والحقيقة بكل بساطة هي أن الغالبية الساحقة من الناس في يومنا هذا ليست لديها وخز ضمير حينما يجري منع أو تدمير حياة إنسان صغير جدا. والأطفال الذين كانوا سابقا أعظم بركة يهبها الله، صار يُنظر إليهم الآن نظرة ماديّة على أساس تكاليفهم: فهم يُعتبرون الآن مثل "عبء" و "تهديد" لحرية وسعادة الفرد.
في الزواج الصالح لا يتجزّأ الحب الزوجي عن إنجاب حياة جديدة لمولود جديد بل هناك صلة وثيقة بين الاثنين:
أمَا هوَ اللهُ الّذي خَلقَ مِنكُما كائناً واحداً لَه جسَدٌ وروحٌ وماذا يَطلُبُ هذا الكائِنُ الواحدُ إنَّه يَطلُبُ نَسلاً لَه مِنَ اللهِ. فاحذرُوا ولا يَغدُرْ أحدٌ بامرأةِ شبابِهِ. (ملاخي 2: 15).
عندما يصبح الزوج والزوجة جسدا واحدا، فلابد لهذا الزواج أن يصاحبه دائما إدراك وقور بأنه من خلاله قد يولد مولود جديد. وبهذا يصبح الزواج تعبيرا عن الحب الخلاق الذي ينجب، وعهدا يخدم الحياة. لكن كم متزوجا اليوم ينظر الى الجنس بهذه الطريقة؟ لقد جعلت حبة منع الحمل أغلب الناس يرون الاتصال الجنسي أنه مجرد أمر عرضيّ وخالٍ من المسؤولية وخالٍ من العواقب بحسب اعتقادهم.
ونحن كمسيحيين، يجب أن نكون راغبين في التكلم جهرا ضد عقلية منع الحمل التي أصابت بلاد العالم. لأن كثير من الأزواج اليوم استهوتهم العقلية السائدة بشأن الانغماس في الملذات الجنسية وبشأن التخطيط العائلي (الذي يتضمن استخدام وسائل منع الحمل المختلفة للحد من الإنجاب)، ضاربين بفضائل ضبط النفس والتوكل على الله عرض الحائط. إن ممارسة الجنس من أجل المتعة الجنسية فقط حتى لو كانت بالحلال ضمن الزواج فإن الجنس في هذه الحالة سوف يرخِّص من شأن نعمة الزواج من جهة وسوف يعمل على تآكُل فضيلة التضحية بالنفس والنفيس لدى الزوجين من الجهة الأخرى، وهذه الفضيلة هي ضرورية جدا في تربية الأولاد. فالانهماك في الملذات الجنسية وكأنها هي الهدف بحد ذاته دون اعتبار لهبة حياة مولود جديد هو أمر باطل. وهذا معناه غلق الباب أمام الأطفال، وبالتالي احتقار كل من الهبة والوهاب. وهو عكس ما ينطق به الله بلسان النبي أيوب:
وقالَ: "عُرياناً خرَجْتُ مِنْ بَطنِ أُمِّي وعُرياناً أعودُ إلى هُناكَ. الرّبُّ أعطى والرّبُّ أخذَ، تبارَكَ اسمُ الرّبِّ". (أيوب 1: 21).
كما قالت الأم تيريزا ذات مرة:
إن إتلاف قوة الإنجاب بواسطة منع الحمل معناه أن كل من الزوج والزوجة يفعل شيئا لذاته هو أو هي. وهذا يحول الانتباه الى الذات، وعليه فهو يتلف نعمة المحبة والعطاء في داخله أو في داخلها. أما المحبة فتعني أن على كل من الزوج والزوجة أن يحول الانتباه من أحدهما الى الآخر، كما يحصل في التخطيط الطبيعي الشرعي للأسرة، وليس الى الذات كما يحصل في منع الحمل.
إن منع الحمل بوسائله المحرمة يمنع الزوجين اللذين صارا جسدا واحدا من اكمال تحقيق هدف زواجهما وإنجابهما للأطفال، وبناء على ذلك يجب أن تتقزز نفسنا من السلوك الذي يدفعنا باستمرار إلى تجنب مسؤولية الحمل والإنجاب.
ولا نرمي من كل هذا إلى دعوة الناس إلى الإنجاب بصورة غير مسؤولة، أو الإنجاب على حساب صحة الأم وعافيتها. ثم إن حجم الأسرة ومباعدة المدة بين الولادات هي مسألة في غاية الأهمية. ويقع على عاتق كل زوجين مسؤولية النظر في هذه المسألة أمام الله بالصلاة والوقار لاسترشاد القرار الصائب لهما. لأن الولادات المتقاربة جدا قد تشكل حملا ثقيلا جدا على الأم. وهنا يجب على الزوج أن يظهر احتراما مملوء بالمحبة والتفهُّم لزوجته في هذا الموضوع. ومرة أخرى علينا التشديد على ضرورة التفات الزوجين الى الله بإيمان ليضعا لديه كل مخاوفهما ومجهولية مستقبلهما، كما يوصينا الرب يسوع المسيح:
إسألُوا تُعطَوا، إطلُبوا تَجِدوا، دُقّوا البابَ يُفتحْ لكُم. فمَن يَسألْ يَنَلْ، ومَنْ يَطلُبْ يَجِدْ، ومَنْ يَدُقَّ البابَ يُفتَحْ لَه. (متى 7: 7-8).
فإذا كنا منفتحين على إرشاد الله لنا، فأنا على يقين بأنه سوف يرينا الطريق.
إن إجهاض أي طفل هو سخرية من الله
إن عقلية منع الحمل ما هي سوى تجسيد لروح الموت التي تجعل من الحياة الجديدة لمولود جديد غير مرحب بها في بيوت كثيرة جدا. فاليوم توجد حرب خفيّة يدور رحاها في كل بقعة من بقاع العالم، وهي حرب معادية للحياة. فالكثير من الأرواح الصغيرة يجري انتهاكها وإبادتها. ومن بين التي لم يتم منعها من الدخول الى العالم عن طريق وسائل منع الحمل، فهناك عدد مهول منها يجري القضاء عليها بدون رحمة عن طريق الإجهاض!
إن تفشي الإجهاض في مجتمعات البلاد قد وصل الى درجة كبيرة، بحيث صارت حتى مذبحة هيرودس للأطفال الأبرياء (في زمن ولادة السيد المسيح) تبدو تافهة أمامها. إن الإجهاض هو جريمة قتل – بدون أية استثناءات. فلو كانت هناك استثناءات لصارت رسالة الإنجيل متناقضة مع نفسها وبدون معنى. ونرى حتى في العهد القديم من الكتاب المقدس (وهو عن زمن ما قبل مجيء السيد المسيح) نراه يذكر بوضوح أن الله يكره سفك الدم البريء:
هُناكَ سِتَّةٌ يُبغِضُها الرّبُّ، بل سَبعةٌ تَمقُتُها نفسُهُ عينانِ مُتعاليتانِ ولِسانٌ كاذبٌ، ويَدانِ تَسفُكانِ الدَّمَ البريءَ، (أمثال 6: 16-17).
إن الإجهاض يقضي على الحياة ويسخر من الله الذي على صورته يخلق الله كل جنين.
وتوجد آيات عديدة في العهد القديم من الكتاب المقدس تتحدث عن حضور الله الفعال في كل حياة بشرية، حتى وهي لاتزال في طور التكوين كجنين في الرحم. جاء في سفر التكوين 4: 1 أن حواء بعد أن حملت وولدت قايين قالت: "رَزَقَني الرّبُّ ابناً"، ولم تقل رزقني آدم بل "رَزَقَني الرّبُّ". ونقرأ في مزمور 139:
أنتَ مَلكْتَ قلبـي، وأدخَلْتَني بَطْنَ أُمِّي. أحمَدُكَ لأنَّكَ رَهيـبٌ وعجيـبٌ. عجيـبةٌ هي أعمالُكَ، وأنا أعرِفُ هذا كُلَّ المَعرِفةِ. ما خَفِـيَت عِظامي علَيكَ، فأنتَ صَنَعْتَني في الرَّحِمِ، وأبدَعْتَني هُناكَ في الخَفاءِ. رأتْني عيناكَ وأنا جَنينٌ، وفي سِفْرِكَ كُتِبَت أيّامي كُلُّها وصُوِّرَت قَبلَ أنْ يكونَ مِنها شيءٌ. (مزمور 139: 13-16).
ويهتف أيوب قائلا:
أمَا صانِعي في البَطنِ صانِعُهُ، وواحِدٌ صَوَّرَنا في الرَّحِمِ؟ ... يَداكَ كَوَّنَتاني وصنَعَتاني، فلماذا تَلتَفِتُ وتَمحَقُني؟ مِنَ الطِّينِ جبَلتَني، تَذَكَّرْ والآنَ إلى التُّرابِ تُعيدُني. سكبتَني كاللَّبَنِ الحليـبِ وجعَلتَني رائِباً كالجُبْنِ. كسَوتَني جِلْداً ولَحماً وحَبكتَني بِــعِظامٍ وعصَبٍ. منَحتَني حياةً ورَحمةً، وعِنايَتُكَ حَفِظَت رُوحي. (أيوب 31: 15 وَ 10: 8-12).
وقال الله للنبي إرميا:
قَبلَ أنْ أُصوِّرَكَ في البَطْنِ اختَرتُكَ، وقَبلَ أنْ تَخرُجَ مِنَ الرَّحِمِ كَرَّستُكَ وجعَلتُكَ نبـيًّا للأُمَمِ. (إرميا 1: 5).
ونقرأ أيضا في العهد الجديد من الكتاب المقدس (وهو عن زمن السيد المسيح) أن الأجنّة يدعوها الله من قبل أن تولد:
ولكِنَّ اللهَ بِنِعمَتِهِ اختارَني وأنا في بَطنِ أُمِّي فدَعاني إلى خِدمَتِهِ (غلاطية 1: 15).
بالإضافة إلى ذلك فإن مواهب الناس الفريدة قد تم التنبؤ بها وهم لا يزالون في بطن أمهم. وربما نجد أروع الآيات عن الجنين في إنجيل لوقا:
فلمَّا سَمِعَت أليصاباتُ سلامَ مَريَمَ، تحرَّكَ الجَنينُ في بَطنِها، وامتلأت أليصاباتُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، فهَتفَت بِأَعلى صَوتِها: مُباركَةٌ أنتِ في النِّساءِ ومُبارَكّ ابنُكِ ثَمرةُ بَطنِكِ! مَنْ أنا حتى تَجيءَ إليَّ أُمُّ رَبّـي؟ ما إنْ سَمِعتُ صوتَ سَلامِكِ حتى تَحرَّكَ الجَنينُ مِنَ الفرَحِ في بَطني. (لوقا 1: 41-44).
هنا نرى جنينا وهو يوحنا المعمدان، الذي كان بشيرا ليسوع المسيح، يتحرك في بطن أمه أليصابات في اعتراف بيسوع، الذي حَبِلت به والدته السيدة مريم العذراء القديسة بقوة الروح القدس مجرد قبل أسبوع أو أسبوعين من لقاء أليصابات مع مريم العذراء. فلذلك أمامنا هنا جنينان: أحدهما لديه القدرة على التجاوب مع الروح القدس، والآخر – المسيح بنفسه – حبلت به أمه بقوة الروح القدس:
وبَينَما هوَ يُفَكِّرُ في هذا الأمْرِ، ظَهَرَ لَه مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلُمِ وقالَ لَه: "يا يوسفُ ابنَ داودَ، لا تخَفْ أنْ تأخُذَ مَرْيمَ امرأةً لكَ. فَهيَ حُبْلى مِنَ الرّوحِ القُدُسِ، وسَتَلِدُ ابناً تُسمّيهِ يَسوعَ، لأنَّهُ يُخَلِّصُ شعْبَهُ مِنْ خَطاياهُمْ". حَدَثَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ بلِسانِ النَّبـيِّ: "سَتحْبَلُ العَذْراءُ، فتَلِدُ ابْناً يُدْعى عِمّانوئيلَ"، أي اللهُ مَعَنا. (متى 1: 20-22).
من الواضح أن الفكرة التي مفادها أن الحياة الصغيرة الجديدة لا تتشكل ولا تتكون إلا من خلال شيء مادي أو جسدي هي فكرة زائفة تماما. لأن الله سبحانه تعالى هو الذي يعمل على إحلال الحياة في الرحم:
إليكَ استَنَدْتُ مِنَ الرَّحِمِ، ومِنْ أحشاءِ أُمِّي أنتَ كِفايَتي، ولكَ أُهَلِّلُ في كُلِّ حينٍ. (مزمور 71: 6).
أما الإجهاض فهو يدمر دائما عمل الله هذا.
ولهذا السبب رفضت الكنيسة الأولية الإجهاض عالميا، وأطلقت عليه اسم "قتل الوليد". وكتاب ديداخي Didache - ومعناه تعليم الرسل الاثني عشر - (الذي يضم التعاليم الأولى للكنيسة لتعليم المسيحيين المهتدين الجدد، حوالي سنة 100م) لا يترك أي مجال للشك في ذلك، فيقول: "لا تقتل طفلا بالإجهاض، ولا تقتل طفلا حديث الميلاد". ويكتب إكليمندس الإسكندري Clement of Alexandria (وهو من آباء الكنيسة الأولية حوالي 150م - حوالي 215م) حتى أنه يقول أن كل الذين يشتركون في الإجهاض "يفقدون إنسانيتهم كليا مع الجنين".
فأين صار وضوح الكنيسة اليوم إذن؟ أن حرب الوحشية والموت التي تشن ضد الأطفال الأبرياء الذين لم يلِدوا بعد، قد أصبحت – حتى بين الذين يسمون مسيحيين – حقيقية واقعة بفظائعها المروّعة وأساليبها البربرية المتسترة تحت قناع الطب والقانون أو حتى التي يجري "تبريرها" بسبب شتى أنواع الظروف.
من نحن لنحكم فيما إذا كانت الحياة مرغوب فيها أو لا؟
أنا أعلم بأنه من غير المستحب قول أن الإجهاض جريمة قتل. وأعلم بأن الناس سيقولون بأنني بعيد عن الواقع - وأنه حتى بعض اللاهوتيين المسيحيين قد سمحوا ببعض الأعذار التي تبيح الإجهاض. لكني أؤمن بأن الله لا يسمح بذلك أبدا. فناموس الله هو ناموس محبة. ويبقى ثابتا الى الأبد مهما تغيرت الأزمنة والظروف: "لاَ تَقْتُلْ". (خروج 20: 13).
إن الحياة البشرية مقدسة من الحمل الى الموت. فلو آمنا بهذا حقا، لما وافقنا على الإجهاض مطلقا مهما كانت الأسباب؛ ولن يثنينا عن موقفنا هذا حتى أكثر الحجج إقناعا سواء كانت حجة التقليل من "نوعية الحياة" (الخاصة برفاهية الأبوين) أو التشوه الجسدي الشديد للطفل أو التخلف العقلي للطفل. فمن نحن لنقرر: أينبغي لهذه الروح الصغيرة أن ترى النور أم لا؟ لأنه وفقا لفكر الله فأن الإعاقة الجسدية والعقلية يمكن أن تُسخَّر لمجد الله، كما يعلمنا الإنجيل:
وبَينَما هوَ في الطَّريقِ، رأى أعمى مُنذُ مَولِدِهِ. فسألَهُ تلاميذُهُ يا مُعَلِّمُ، مَنْ أخطأَ أهذا الرَّجُلُ أم والداهُ، حتى وُلِدَ أعمى. فأجابَ يَسوعُ لا هذا الرَّجُلُ أخطَأَ ولا والداهُ. ولكنَّهُ وُلِدَ أعمى حتى تَظهَرَ قُدرةُ اللهِ وهيَ تَعمَلُ فيهِ. (يوحنا 9: 1-3).
وقال الله أيضا في الكتاب المقدس:
فقالَ لَه الرّبُّ مَنِ الذي خلَقَ للإنسانِ فَماً ومَنِ الّذي خلَقَ الأخرسَ أوِ الأصمَّ أوِ البَصيرَ أوِ الأعمى أما هوَ أنا الرّبُّ. (خروج 4: 11).
كيف نتجرّأ على أن نحكم ونقرر من هو المرغوب فيه ومن هو غير المرغوب فيه؟ إن جرائم الرايخ الثالث (أو الإمبراطورية الثالثة التي هي ألمانيا النازية من 1933 – 1945م) - حين كان يُسمح للأطفال الرضع من العرق النوردي "الصالحين" بأن تجري تربيتهم في حضانات خاصة، في حين كان المعاقون ذوو العاهات الخِلقية من الأطفال الرضع والأولاد والبالغين يجري إرسالهم الى غرف الغاز السام - فهذه الجرائم يجب أن تصير تحذيرا كافيا لنا. وكما يكتب ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer (وهو القسيس الألماني المعروف الذي سجنه هتلر في الثلاثينيات من القرن الماضي):
إن أي تمييز بين الحياة التي تستحق مواصلة الوجود والحياة التي لا تستحق سيعمل لا محالة على تدمير الحياة نفسها، عاجلا أو آجلا.
والحق أنه حتى عندما تكون حياة الأم الحامل في خطر، فإن الإجهاض هو ليس الحل أبدا. ففي نظر الله تتساوى قدسية حياة كل من الجنين والأم. أما اقتراف الشر "ليتسنى للخير أن يأتي" فهذا معناه أننا نضع سيادة الله وحكمته في قبضتنا:
وإذا كانَ ضَلالُنا يُظهِرُ صلاحَ اللهِ، فماذا نَقولُ؟ أيكونُ اللهُ ظالِمًا إذا أنْزَلَ بِنا غضَبَه؟ وهُنا أتَكلَّمُ كإنسان. كلاّ وإلاَّ فكَيفَ يَدينُ اللهُ العالَمَ؟ وإذا كانَ كَذِبـي يَزيدُ ظُهورَ صِدقِ اللهِ مِنْ أجلِ مَجدِهِ، فَلِماذا يَحكُمُ علَيَّ اللهُ كما يَحكُمُ على الخاطِـئِ؟ ولِماذا لا نَعَملُ الشَّرَّ ليَجيءَ مِنهُ الخَيرُ؟ كما يَفتَري علَينا بَعضُهُم، فيَزعمونَ أنَّنا نَقولُ بِه هَؤلاءِ عِقابُهُم عادِلّ. (رومة 3: 5-8).
وفي مثل هذه المواقف العصيبة، يجب على الزوجين أن يتوجها الى شيوخ كنيستهم، مثلما يوصي الإنجيل:
هَلْ فيكُم مَحزونٌ؟ فَليُصَلِّ. هَلْ فيكُم مَسرورٌ؟ فليُسَبِّحْ بِحَمدِ اللهِ. هَلْ فيكُم مَريضّ؟ فليَستَدعِ شُيوخَ الكَنيسَةِ ليُصَلُّوا علَيهِ ويَدهنوهُ بِالزَّيتِ باسمِ الرَّبِّ. فالصَّلاةُ معَ الإيمانِ تُخَلِّصُ المَريضَ، والرَّبُّ يُعافيهِ. وإنْ كانَ ارتكَبَ خَطيئَةً غَفَرَها لَه (يعقوب 5: 13-15).
هناك قدرة عظيمة وستر كبير في صلاة الكنيسة المتوحدة، وأيضا في الإيمان لتتم مشيئة الله فيما يتعلق بحياة كل من الأم وجنينها. ففي نهاية المطاف - أقولها بارتعاد - فان إيمان كهذا هو ما يهم؛ "...لتَكُنْ مَشيئَتُكَ..." (متى 6: 10).
يجب أن نقدم بدائلا وليس إدانة أخلاقية
لا يمكننا كمسيحيين أن نطالب ببساطة وضع حدّ للإجهاض دون تقديم بديل إيجابي. ويكتب ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold (وهو علامة لاهوتي ومؤسس حركة برودرهوف المسيحية Bruderhof للحياة المسيحية المشتركة) فيقول:
قد يطالب فلاسفة الأخلاق – ذوو المنطق البشري - أن تكون الحياة الجنسية عفيفة عن طريق الإصرار على العِفّة قبل الزواج وبعده. لكن حتى أفضل هؤلاء الفلاسفة سيكون مراءٍ وظالم مالم يبيّن بوضوح الأساس الفعلي لمثل هذه المطالب. فعندما لا يؤمن الناس بملكوت الله تبقى كثير من الأشياء غير آمنة بما فيها حياة الجنين الابتدائية. وحضارتنا المعاصرة التي تُعتبر راقية ستستمر في ممارسة هذه المجزرة طالما بقيت الفوضى الاجتماعية وعدم المساواة الاجتماعية قائمة. فلا يمكن مكافحة الإجهاض ما لم نغيّر أسلوب حياتنا الخاصة والعامة عن أسلوبنا الحالي المتقوقع والأناني.
فلو أردنا محاربة الجشع والتكالب على الماديات والغش والخداع وظلم التمييز الاجتماعي، لوجب علينا محاربتها بوسائل عملية من خلال إظهار أن أسلوبا مختلفا من الحياة ليس فقط قابلا للتحقيق، بل في الواقع موجودا أيضا. وإلا فإنه لا يمكننا المطالبة لا بالعفاف في الزواج ولا بوضع حد للإجهاض؛ بل لا يسعنا حتى أن نتمنى لخيرة العائلات أن تتبارك بأطفال كثيرين، مثلما ترمي إليه قوى الله الخلاقة.
هنا قد فشلت الكنيسة فشلا ذريعا. فهناك الكثير من الأمهات المراهقات اللواتي يتواجهن مع هذه المسألة يوميا، ومع ذلك لا يحصلن على أي إرشاد روحي، ولا أي دعم معنوي أو مادي. وكثيرات يشعرن بأنه ليس لديهن خيار آخر سوى الإجهاض: لأن بعضهن كان ضحية المضايقات الجنسية؛ وبعضهن يخشى غضب الصديق Boyfriend؛ أو ضغوط الوالدين الذين يقولون لهن أنهن إذا جئن بالطفل فلا يمكنهن العودة الى المنزل.
عندما تحدثتْ الكاتبة الأمريكية من الطائفة الارثوذكسية فريدريكا ماثيوس–جرين Frederica Mathewes-Green مع جماعات من النساء كانت لهن حالات إجهاض، اكتشفت الكاتبة جوابا أجمعت عليه تلك النساء بشأن السبب الكامن وراء اقترافهن للإجهاض، ألا وهو الضغط الناجم عن العلاقات في كل حالة تقريبا. فإن النساء – كما تقول – لا يُرِدن الإجهاض بل يُرِدن الدعم والأمل، وتردف فريدريكا قائلة:
لقد وجدتُ أن المرأة تميل في الغالب الى اختيار الإجهاض لكي ترضي أو تحمي الناس الذين تهتم بهم. فغالبا ما تكتشف المرأة بعد فوات الأوان أنه يوجد شخص آخر له عليها التزامات، وهو جنينها. والحزن الذي يلي الإجهاض ينبع من قناعتها بأنها قد غدرت بطفلها غدرا مميتا عندما كانت تعيش أزمة وقتذاك.
إن تقديم الدعم والمساندة إلى النساء اللاتي يجدن أنفسهم في حمل غير متوقع يعني الاستمرار بفعل كل ما تفعله مراكز رعاية الحمل: أي توفير السكن والرعاية الطبية والملابس والمشورة وما الى ذلك. لكننا يجب أن نتذكر أيضا بأن نصبح بمثابة الصديق المخلص الذي يكرس نفسه لخدمتهن، وهي أهم مساعدة نقدمها لهن، بالإضافة إلى أن نفعل كل ما في وسعنا لإصلاح العلاقات ضمن عائلاتهن.
لكن في التحدث جهرا ضد الإجهاض، علينا أن لا ننسى أن هناك خطايا أخرى تسبب الحزن والعذاب أكثر من الإجهاض. وعدد قليل جدا من النساء اليوم يُقدم لهن حلولا بديلة عن الإجهاض قابلة للتطبيق، وينعدم تقريبا بين تلك البدائل أي بديل يشير الى الله الذي هو وحده القادر على سدّ حاجتهن. والمرأة التي قد قامت بالإجهاض تعاني من عذاب مبرح للضمير، ولا يمكن شفاء عزلتها وألمها غير المحدود إلا عند الصليب – إلا بالمسيح. ويحتاج المسيحيون إلى أن يتحسسوا بهذا الألم الفظيع الذي تحمله الكثير من النساء في قلوبهن على أطفالهن المفقودين. فمن منا يتجرّأ على أن يرمي الحجر الأول؟ مثلما قال الرب يسوع:
فلمَّا ألحُّوا علَيهِ في السُّؤالِ، رفَعَ رأسَهُ وقالَ لهُم مَنْ كانَ مِنكُم بِلا خَطيئَةٍ، فَليَرْمِها بأوّلِ حجَرٍ. (يوحنا 8: 7)
ويل لنا لو صار تعاملنا في يوم من الأيام فاترا وقاسي القلب مع امرأة اقترفت إجهاض!
إن الله يحب الجنين حبا متميزا جدا. وفوق كل هذا، فإن الله أرسل ابنه الوحيد، يسوع المسيح، الى الأرض بهيئة طفل، من خلال رحم أم. ومثلما أشارت الأم تيريزا قائلة أنه حتى لو انقلبت الأم على جنينها فلن ينساه الله. فقد جَبَل الله كل طفل براحة يديه، ولديه خطة لكل حياة، ليس فقط على الأرض بل في الأبدية أيضا. أما لأولئك اليائسين بالدرجة التي تدفعهم الى عرقلة خطة الله فنقول لهم مع الأم تيريزا:
أرجوك لا تقتل الطفل، إني أريد الطفل. أرجوك أعطني الوليد.
هذا المقال مقتطف من دعوة إلى حياة العفة والنقاوة