الأستاذة الجامعية الدكتورة أليس فون هيلدابراند هي فيلسوفة وعالمة لاهوت كاثوليكية، وهي أرملة الفيلسوف الألماني المناهض للنازية الأستاذ ديتريش فون هيلدابراند Dietrich von Hildebrand. وقد درَّستْ أليس الفلسفة في كلية هنتر – Hunter College – الواقعة في مانهاتن، نيويورك، لمدة 37 سنة إلى أن أُحيلت على التقاعد في عام 1984م. بالإضافة إلى أنها قد كتبت عدة كتب. وهي في الأصل من بلجيكا، إلاَّ أنها جاءت إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940م. وفي مقابلة صحفية مطولة أُجريتْ في شقتها في مانهاتن، نيويورك، في عام 2012م، تحدَّثت أليس، وعمرها 88 عامًا، عن مواضيع متعددة بدءًا من دور المرأة في المجتمع وإلى الزواج والعزوبة وانتهاء بالمصير الأبدي للروح البشرية. وهذه المقالة هي واحدة من سلسلة المقالات المقتطفة من ذلك اللقاء الصحفي:
كلنا لدينا بُقَعٌ عمياء. وأتذكر عندما كان زوجي يحكي لي عن الوقت الذي جاء فيه السيد المسيح إلى أريحا. (مرقس 10: 46–52) وكان يجلس على جانب الطريق رجل أعمى يصيح وينادي: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» فدعاه يسوع، وسأله: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فأجابه: «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!» ولَمَّا كان العمى أمرًا فظيعًا للغاية، فإننا نفهم لماذا سأل ذلك الرجل أن ينال البصر. فقد كان يعلم مدى العمى الذي عنده. ولكننا عميان أخلاقيًّا. والمشكلة هي أننا لا نرى هذا العمى.
وقد التبس الأمر على الناس للغاية. إذ إنَّ العمى الأخلاقي هو سرطان مجتمعاتنا. وفي هذه الأيام، قلما أذهب إلى مدينة نيويورك، ولكني ذهبت قبل أسبوعين. وعندما تنظر إلى الموضة اليوم، ستفكر على الفور: هناك فوائد لأن يكون المرء أعمى، وأطرش. وكما تعلم، فإنه من المحزن جدًا أن لا يكون للمرء أولاد، لأن الأولاد من أعظم بركات الحياة. ولكن إذا كان لدي ولد اليوم، فأعتقد أنني كنتُ سأعيش في خوف مستمر من اضطراره لمشاهدة المواد الإباحية. فلَمَّا كنتُ بنتًا صغيرة، لم أكُن أعلم حتى بوجودها، وأنا لا أذكر بالتأكيد أنني شاهدتها مرة على الإطلاق. لكن عندما تذهب الآن إلى المركز التجاري تجدها في كل مكان. فكيف يمكن للمرء حماية طفل صغير بريء اليوم؟
ونقرأ كلام يسوع المسيح عن الأطفال: «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ...وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ!» (متى 18: 6–7). وهذا هو ما يحدث. إذ يشاهد الأطفال التلفاز أو يتصفحون الإنترنت، وما الذي يتعرضون له؟ المواد الإباحية!
وإذا كان الشخص لا يريد أن يرى وجود مشكلة في الموضوع، فلا ينفع أي شيء لمساعدته. وقد لاحظتُ هذا الشيء في الصف الجامعي في نيويورك، حيث قضيتُ آلاف الساعات أدرِّس الفلسفة فيه. فلو درَّستُ لغتي الأصلية، اللغة الفرنسية، لَمَا كانت العملية صعبة. لأنه إذا رفع أحد الطلاب يده مُعرِبًا عن عدم اتفاقه معي على أمر في اللغة الفرنسية، سيشعر على الفور بالخجل وسيستحي. فمن الواضح هو أنني متمكنة من اللغة الفرنسية، ولكن الطلاب غير متمكنين منها. أمَّا عندما نتحدث عن مسائل الحقِّ والفضيلة، وعن العدالة، وعن العلاقات العفيفة الطاهرة — وما إلى ذلك — فنرى الناس يرفعون أيديهم على الفور ويقولون: «أنا لا أتفق معكِ. فهذا مجرد رأيكِ.»
وفي الكلية التي كنتُ أدرَّس فيها، كان عليَّ أن أكون حَذِرة للغاية مما أقوله. فكانت في الأساس مؤسسة ملحدة. فإذا ذكرتُ شيئًا حتى لو كانت مجرد رائحته مسيحية، كانوا يتهمونني بأنني أدرِّس مادة الدين ولم أعُد أدرِّس مادة الفلسفة. وقد لمَّحتُ مرة إلى وجوب أن يكون الحب آصرة مؤبدة بين الرجل والمرأة وليس سعيًا طائشًا وراء المتعة. فإذا بطالب يرفع يده ويُصرِّح: «لا أتفق معكِ. فأنا أقضي وقتًا رائعًا وهي كذلك. فما المشكلة في ذلك؟» فماذا يمكنني أن أقول بعد؟ فإمَّا أن ترى وإمَّا أن لا ترى. فلو كنتَ شابًا (أو شابة) وتنام كل يوم مع شخص مختلف، وأحيانًا تكون ممتعة وأحيانًا غير ممتعة، فسيكون من الصعب جدًا إقناعك بأن هذا أمر سيء. فعندما تكون أعمى أخلاقيًّا، فأنت ببساطة لا تستطيع الرؤية.
فنحن بحاجة حقًّا إلى أنبياء العهد القديم. غير أن الكثير من الناس لا يريدون سماع الحقِّ. فعندما تم اختراع القنبلة الذرية في الأربعينيات من القرن الماضي، قلتُ لنفسي: «سيفكر الإنسان الآن، بشكل غير مسبوق، في أنه الله.» وقد «تطورنا» اليوم لدرجة كبيرة بحيث أخذنا نعتقد بأننا قادرون على السيطرة على كل شيء. وقال الله في سفر التكوين من الكتاب المقدس: «لِيكُنْ.» ولكن الإنسان يقول من ناحية أخرى: «لا يكُن.» وعندما أخرج إلى شرفة منزلي، حيث يسعني رؤية مدينة نيويورك، أقول لنفسي أحيانًا: «لو أراد شخص مجنون أن يصنع شرًّا، لكان في مقدوره أن ينسف كل هذه المدينة عن آخرها في دقيقة واحدة.» فاضغط على زر، ولن يبقى سوى الغبار والرماد — والصراصير. فمن الواضح أن الصراصير تنجو من القنبلة الذرية.
لذا، يمكننا تدمير العالم، ومع ذلك لا نزال نخدع أنفسنا بالاعتقاد بقدوم يوم حيث نستطيع فيه خلق هذا العالم بأنفسنا؛ وحيث نتمكن فعلاً من التغلُّب على الموت. فنحن ملوك، ونحن آلهة. ولهذا السبب، فإنَّ عالمنا مُهدَّد بالموت! ولنتذكر بأن الشيطان هو الذي قال: «وَتَكُونَانِ كَاللهِ.» (تكوين 3: 5)
إذن، ماذا علينا أن نفعل؟ وكيف يمكننا مساعدة الناس على الرؤية؟ ليس بالوعظ. فالوعظ محفوف بالمخاطر للغاية، لأن الناس سيتهمونك بأنك تحسب نفسك أحسن منهم. ولكنني أؤمن بأن الحل الأفضل هو الصلاة. فيجب أن نُصلِّي لأجل الناس، لأنه لا يمكن لأحد أن يجبر الآخر على رؤية الأمور بطريقة مختلفة. لكن علينا أيضًا أن ننظر إلى أنفسنا. وها أنا في نهاية حياتي وأعلم أن هناك أشياء معينة في نفسي لا أراها. ولكي أرى ذنوبي فأنا بحاجة إلى واحدة من أهم الفضائل الحاسمة التي يُعلِّم بها الإنجيل: التواضع. ومن يقدر على تعليمنا التواضع؟ إنه المسيح. فقد صار ابن الله إنسانًا، ليشاركنا في طبيعتنا البشرية الضعيفة. وعرف معنى المعاناة والآلام. وذاق طعم العذاب. وعرف معنى الخوف.
فلْنُصَلِّ من أجل العالم. ولنُصَلِّ، لأننا قد انحرفنا عن الطريق انحرافًا فظيعًا. فعندما نقرأ الإنجيل، نرى أن يسوع المسيح يتكلم عن نهاية الأزمنة، حيث يكون الناس غير مطيعين لله، ويعيشون في تخبُّط واضطراب روحي. ويبدو حقًّا أنه يتكلم عن يومنا الحاضر.
ولكن هناك أملٌ. ولا أزال أؤمن بأن أفضل وسيلة لمساعدة الآخرين هي أن نحاول أن نشعَّ ما يريده الناس حقًّا، ولكنهم لا يملكونه، ألا وهو: السلام والفرح. فلنحاول بأسلوبنا المتواضع جدًا أن نشعَّ السلام الذي يريد الله أن يهبه للإنسان. فلنستمر في سعينا لهذا الأمر حتى يسألنا الناس أخيرًا: «ما السِرُّ وراء السلام الذي تنعمون به؟» وربما يبدؤون عندئذ برؤية الأمور.