إنَّ أكبر الشرور في العالم هو ليس البغض أو الغضب وإنما اللامبالاة.

اقتباس من

ايلي فيزيل Elie Wiesel

(وهو كاتب أمريكي يهودي وأستاذ جامعي وحائز على جائزة نوبل للسلام وناجي من محارق الهولوكوست.)

عندما قرر نِك وسوزان Nick & Susan الزواج وتأسيس أسرة، كان يتمتع كل منهما بوظيفة ذات دوام كامل. إلاَّ أن دخلهما معًا، وبرغم ما بذلاه من جهود، لم يكن كافيًا لسد احتياجات الأسرة. أمَّا التوفير فما كان يخطر على البال — ولم يعد بإمكانهم حتى دفع الفواتير، وطبعًا لا يبقى شيئًا للادخار. وفوق كل ذلك، كان الزوج نِك يعمل بدون تأمين صحي، وكان المكان الذي تعمل فيه زوجته سوزان، لا يوفر لها إجازة أمومة. ورغم ذلك فقد قررا إنجاب طفل، وهذا ما حصل فعلاً.

وليس من الغريب أن لا يجد الزوجان سوى القليل من تعاطف الآخرين معهما في أماكن عملهما. وكان نِك يعتبر أسرته مجرد «أسرة عادية، تعتمد في الدرجة الأولى على عمل الرجل فيها.» ويقول إنه قد تم التعامل بجفاء معه وكأنه يحاول الاستفادة من نظام الرعاية. أمَّا سوزان فقد قيل لها: «ألم يكن باستطاعتكِ التخطيط قليلاً للمستقبل؟» فلم يُظهِر لهما أيُّ شخص قسوة بصورة مكشوفة، لكن في الوقت نفسه لم يفرح أحد من أجلهما. وبمرور الوقت أصبح هذا الفتور يؤلم ألمًا نفسيًّا أكثر من أي شيء آخر يمكن أن يقال.

ولم يشعر نِك ولا سوزان بعد ولادة طفلهما بسرور كبير بدورهما الجديد كأبوين، فنادرًا ما كان يتوفر لديهما أيُّ وقت. إذ كانت الصعوبات في عملية الولادة من جهة قد أدت إلى ارتفاع التكاليف الطبية بصورة غير متوقعة، ولهذا كان على سوزان العودة للعمل مباشرة. ومن جهة أخرى كان من المستحيل تقريبًا العثور على حضانة يومية، تتناسب مع الميزانية المحدودة للزوجين. وبعد مرور أسبوعين من البحث المضني، وجد نِك حضانة فيها مكان لمولود جديد. وعندما ذهب لمشاهدة المكان، وجده مسكنًا خاصًا تملكه امرأتين كبيرتين في السن، لديهما 18 طفلاً، وبعض من أولئك الأطفال يرضع والبعض الآخر يزحف، وبحالة قذرة ووجوه حزينة، مربوطين فوق مقاعد سيارات ويتفرجون على التلفاز. ولم يُعجَب نِك ولا سوزان بهذا المكان، لكن لم يكن لديهما أيُّ خيار آخر، إما التخلِّي عن العمل وإما وضع طفلتهما جيني المولودة الجديدة في هذا المكان. وهذا ما فعلاه.

إنَّ مشكلة نِك وسوزان مشكلة مألوفة جدًا، وهي تتكرر في الواقع في أماكن عديدة وبأشكال مختلفة، ولكن تكرارها لا يجعلها أقل خزيًا وأقل تدميرًا للأعصاب. فعندما يرغب زوجان جديدان في تأسيس أسرة، سيواجهان مثل هذه العقبات، وحتى في أكثر الدول تقدمًا في العالم — وفي عقد من أكثر العقود ازدهارًا في التاريخ كما أذكر— وهذا شيء يدل على وجود خلل كبير. وأنا لا أشير هنا إلى نقص في التخطيط.

أمَّا الطفلة جيني Jenny — ابنة نِك وسوزان — فكانت بالتأكيد محظوظة جدًا أكثر من العديد من الأطفال، فقد ولدت على الأقل لأم كانت ترغب في مجيئها، ولها أب، ولها مسكن تعيش فيه. ولكن ما طبيعة العالم الذي ينتظرها عندما تكبر؟

غير أن حقيقة الواقع كالآتي: يُقتل كل يوم في أمريكا ما يقرب من 22 طفلاً، ويذهب ما يقرب من مئة ألف طفل في كل ليلة للنوم في الحدائق وتحت الجسور وفي ملاجئ المشردين. ويشهد ما يقرب من 28 ألف طفل طلاق والديهم كل يوم. وهناك ما يقرب من مليون ونصف طفل لا يستطيعون رؤية آبائهم إلاَّ من خلال زيارتهم في السجون.

هذا وإنَّ الإحصائيات على المستوى العالمي هي الأخرى شيء لا يمكن تصوره: فهناك ما يقرب من 40 ألف طفل يموتون من الجوع يوميًّا، في حين يعمل الملايين منهم تحت ظروف عمل إجبارية. ويشمل ذلك أيضًا بيوت الدعارة الآسيوية التي تدعم سوق السياحة الجنسية. وهناك ما يقرب من ربع مليون طفل حاليًا يعملون جنودًا في الصراعات المسلحة في أمريكا الوسطى وأفريقيا، ويصل عمر بعضهم إلى خمس سنوات.

أمَّا بالنسبة إلى الطفلة جني Jenny وإلى العديد من الأطفال الآخرين، فإنَّ العالم يكاد يكون مكانًا مُعاديًا وعديم الترحيب بهم. وتبدو المشاكل التي ستواجههم عاجلاً أم آجلاً ابتداء من مكان اللعب وانتهاءً بغرفة النوم، وكأنها مجموعة أمور كالتي نراها في سجلات الشرطة، مثل التخلِّي عن الأطفال، والاعتداء عليهم، والاعتداءات الجنسية، والتشويه الشخصي، والتعرُّض للمخدرات، وسهولة الحصول على السلاح. فما دور الأهل يا ترى؟

إنه سؤال جيد. لأن أغلبنا تراه منشغل جدًا في العناية بأطفاله فقط، دون إعارة أيِّ اهتمام بمشاكل مدرسة الروضة لطفل آخر — دعك عن الأعداد الغفيرة من الأطفال في موزمبيق أو سان باولو أو كلكتا أو في حيِّ برونكس في نيويورك. فبالساعات المعدودة التي لدينا كل يوم، فإننا لا نصرفها إلاَّ لنعيش حياتنا الخاصة، أمَّا عندما تَشحُّ الدراهم فمن الواضح طبعًا مَنِ الذي سينال اهتمامنا بالدرجة الأولى. فها هي النقطة المحددة التي أريد الإشارة إليها من خلال الحديث عن قصة سوزان ونِك. وعندما نحاول عبثًا سدَّ المصاريف التي هي أكثر من احتياجاتنا الأساسية، وحتى لو وُجِدتْ أسباب قوية، فإننا سنحاول فعل ذلك من خلال إلغاء الباقي والانغلاق على نفسنا. وينتهي بنا الأمر إلى الوقوع في فخ اللامبالاة.

ومن الأمور المضحكة، أن الحكومة قد رحَّبت بالألفية الجديدة من خلال إعلان عام 2000 عامًا للطفل. وقد كتبتُ إلى أحد الأصدقاء الأفروأمريكيين واسمه موميا أبو جمال Mumia Abu-Jamal الذي يعمل في مجال الصحافة، لكي أسأله عن رأيه في ذلك، فكتب يقول:

لا أرى أيَّ أذى في إعلان عام 2000 عامًا للطفل، لا بل يوجد هناك شيء من التكريم في ذلك. غير أن هذا الإعلان في الواقع، ومهما كان الهدف النبيل من وراءه، لن يكون له سوى تأثير ضئيل على الحياة المحطمة لبلايين الأطفال الذين يجاهدون من أجل البقاء على قيد الحياة على هذه الكرة الأرضية.

ومن المعتاد أن يستجيب رجال السياسة والدبلوماسيون لمصالح القوي، وهم أدوات بأيدي هذه المصالح. ومن خلال دراسة أحوال الأطفال، نرى أنه لا يوجد لديهم «لجان عمل سياسية» ولا رأس مال؟ إنهم رموز لطيفة صغيره يتم تقبيلها في الحملات الانتخابية. وعندما يبدأ العمل الحقيقي لرجال السياسة، يتم نسيانهم على أرض الواقع.

ولو بقي هؤلاء الأطفال على قيد الحياة، لورثوا عالمًا مُدمَّرًا، عاث فيه آباؤهم الفساد، حيث قد تحولت البحار إلى برك حمضية هربت منها الحيتان، وحيث الغابات المطرية، التي هي جزء من ذكريات الهنود الحمر، لن تعود أبدًا. وحيث عاث جشع الإنسان بأحشاء أمنا الأرض، وحيث تم تحويل الجينات البشرية إلى مصانع لتحقيق الأرباح. فسوف يرث الأطفال كرة أرضية متهاوية، أصبح الماء النقي فيها نادرًا جدًا، وأصبح الهواء النقي فيها ترفًا....

إننا نعيش في عالم يخاف من صغاره ويبغضهم. وإلاَّ فكيف يمكن تفسير عملية توريث مثل هذا الإرث الشنيع والدنِس والفارغ؟ إنَّ هذا الجيل الذي كبر وسط موجة صاعدة من حركات التحرر الإنسانية، هو اليوم من أكثر الأجيال اضطهادًا في تاريخ الإنسانية، ما دام يضع شبابه في زنزانات لفترة أطول مما فعل جيل آبائهم. وإنه يستنزف إمكانيات المدارس التي أصبحت متهاوية في المدن والأرياف، وتُظهِر وتكشف عن تربية غير مناسبة بحيث لا تعتمد رسالتها الرئيسة إلاَّ على الطاعة، لا غير.

إنَّ المعرفة هي سلعة أخرى متوفرة فقط لعدد قليل من الذين يستطيعون الحصول عليها. وبالنسبة إلى الملايين من الأولاد الفقراء في أمة جمعت من الثروة أكثر من الإمبراطورية الرومانية قديمًا، أصبحت المدارس كئيبة ومتهدمة ومثل المجازر الضارية للعقل والفكر.

إنَّ أولادنا متعطشون إلى المحبة والحنان. فعندهم أحذية رياضية غالية الثمن، يصل ثمن الحذاء إلى 200 دولار، ويملكون ألعاب الفيديو والحواسيب، حتى أن البعض يملك سيارات — بفضل ما يتبقى من راتبي الوالدين المحظوظين اللذين لديهما عمل ودخل. ولديهم أحدث الألعاب إلاَّ أنهم يفتقرون إلى المحبة والحنان.

فكيف يستطيع الولد أن يحب دون أن يكون محبوبًا؟ فبدون محبة لن يفعل شيئًا آخر سوى الكره...

وفي البيانات والصحف، يعلن رجال السياسة التافهين بأفواه كاذبة عن عام يخصص للطفل، بكل فخر واعتزاز. وبعد مرور عدة أيام، تُمزَّق الجرائد وتتحول إلى قمامة. ويذرف الساسة دموع التماسيح الكاذبة «وهم يشعرون بآلام الآخرين.» وسوف يبقى أطفالنا منبوذين في سفينة دنيا رؤوس الأموال، ويغرقون في بحر اللاحب، وفي الألفية الجديدة سوف يستمرون في الغرق.

طبعًا لا نستطيع أن نلوم الحكومة فقط، فنحن نتحمل جزءًا من الذنب أيضًا. لأننا نحن أبناء الطبقة الميسورة قد قمنا بخلق، ولو جزئيًا، تلك الأحياء الفقيرة، حيث قد عارضنا كل ما هو لمصلحة الأولاد الفقراء، إذ إننا نبقى صامتين في وجه السياسات التي تهدد مستقبل الشعوب كلها، ونعتاد أن ندير رؤوسنا وننظر إلى الجهة الأخرى، عندما يتعرض أولاد غيرنا من الأجناس أو أولاد غيرنا من الطبقات الأفقر للاضطهاد والسجن والجوع أو العبودية. وما دمنا نعرف مثل هذه الحقائق فلا يمكننا اِدعاء البراءة.

أمَّا عن موضوع الإحسان للمحتاجين، فإنَّ العديد من الناس هم ليسوا في الحقيقة غير مبالين بحال أطفال العالم المتألمين بقدر ما هم غير واعيين عنه. وكان هذا بالتأكيد ينطبق عليَّ شخصيًّا، لغاية شهر مايو من عام 1998 عندما أرسلني مجتمع كنيستي في ولاية نيويورك إلى بغداد. فقد رأيتُ هناك معاناة على نطاق واسع جدًا لم أكن أتخيَّله من قبل على الإطلاق.

وبنية طيبة من قِبل مجموعة من الأوروبيين والأمريكيين المعارضين لحصار الأمم المتحدة المفروض على العراق، تم ترتيب زيارة للبلد تضمنت توقفات عند الملاجئ المدنية ضد القصف والمستشفيات ورياض الأطفال والمدارس، وتقابلنا وجهًا لوجه مع بعض أصعب المشاهد التي قد شاهدناها في حياتنا؛ فقد رأينا المئات من الأطفال الجياع تموت أمام أعيننا، في الوقت الذي كانت فيه الأمهات النائحات يتوسلن إلينا لِنردَّ عليهن عن سبب قيامنا «نحن الأمريكيين» بكل هذا ضدهم. أمَّا أنا فلم أقدر أن أنطق بكلمة، وأخذت عوضًا عن ذلك أحاول الاستماع إليهم لأخفف عنهن.

وسافرت مرة أخرى لاحقًا إلى بغداد مع زوجتي (وعدد من مجتمع كنيستنا) آخذين معنا أغذية وأدوية وتجهيزات، وخدمنا المستشفيات التي لم يجرِ تنظيف ردهاتها لسنين.

إنَّ هذه الرحلات التي قمتُ بها، وإن كانت قليلة جدًا، وكالنقطة في البحر من حيث تأثيرها، إلاَّ أنها كانت تجربة هامة بالنسبة إليَّ، لأنها جاءت على الأقل بحقيقة لا يتذكرها أيٌّ مِنَّا في الغالب بالدرجة المطلوبة: فالأطفال دائمًا هم الذين يعانون بصورة أكبر من جراء خطايا العالم. وهذا صحيح في كل من «الدول المتقدمة» والدول المسلوبة والمفَقَّرة أو الدول التي تمزقها الحروب.

ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نسافر جميعنا إلى المناطق التي تشتعل فيها الحروب. وحتى لو كان ذلك ممكنًا لنا، فستكون هناك فائدة قليلة من عمل ذلك. ولكنه ليس من الصواب أيضًا أن نغلق المجال أمام كل شيء يقع خلف أبوابنا ونقطع الأمل من أيِّ مبادرة خيرية — وأن نعيش حياة كلها هناء وسُلوان أناني.

لقد كتب المفكر الأمريكي ثُرو Thoreau في يومياته: «لا يظهر الفجر إلاَّ في ذلك اليوم الذي نكون فيه مستيقظين.» ويحدث الشيء نفسه مع العديد من أسرار الحياة. حيث تبدأ الإجابة المحيرة بالظهور لنا، بمجرد النهوض من مقاعدنا المريحة وفتح الستائر. وسوف ندرك الأولويات التي سوف تنشلنا من حياة الاسترخاء وتأخذنا إلى حيث نرى مشكلات يمكن في الواقع أن نفعل شيئًا لحلها. وسوف نرى كم هو عدد الأولاد الذين يمكن الوصول إليهم وإنقاذهم.

وسيعني هذا أن نضع جانبًا خطاباتنا حول عام الطفل الدولي، والبحث عن طفل واحد يحتاجنا اليوم. وسيعني هذا أيضًا أن نضع جانبا تحليلاتنا عن حالة الخطر التي يتعرض لها الأطفال، وأن نشغل أنفسنا بالأطفال أنفسهم. أيْ بمعنى أن نبدأ بالعيش بأسلوب بحيث يصبح الأولاد فيه مهمين حقًّا لنا.

في عام 1991 في الوقت الذي صرفنا فيه البلايين من أجل إنقاذ شعب الكويت من العراق، كان هناك مليونان من أولادنا المهملين قد حاولوا الانتحار — ويمثل هذا العدد ضعفي سكان الكويت. وبعد ثمانية سنوات، وفي عام 1999، حاولنا «إنقاذ» شعب كوسوفو من الصرب، بإلقاء القنابل على الطرفين وسحقهم. في حين مات في الفترة نفسها الآلاف من الأولاد في أمريكا وأوروبا الغربية على أيدي والديهم ومربيهم بسبب العنف والإجهاض.

لو كان الأولاد مهمين لنا، لأدركنا بأنهم الضحايا الحقيقيين الذين لابد أن نحارب في سبيلهم، ونحشد جهودنا لأجلهم، وأن نقوم بتعديل ميزانيتنا الوطنية رأسًا على عقب، بحيث تكون مخصصات الأولاد في القمة، والأسلحة في أسفل القائمة — ولا أدري إن كُنَّا سنُبقي الأسلحة أصلاً. وستظهر العديد من المدارس الجديدة عبر البلاد بدلاً من السجون، وسينجح رجال السياسة في وضع برامج إبداعية للتربية، وليس وضع أقسى الطرق من أجل مقاومة الجريمة. وستنفق المدن أموالها على التربية المدرسية وأيضًا على برامج الأولاد النافعة بعد الدوام المدرسي، ولا تقوم بتشريع منع التجول أو تشغيل الكثير من قوات الحراسة. وباختصار، سيتم استبدال قسوتنا بالرأفة — والأمل.

في كل يوم من عالمنا الممزق والمنحرف، يولد أطفال جدد ويجلب كل منهم (حسب كلمات الشاعر الهندي طاغور Tagore) «رسالة متجددة بأن الله لم يفقد الثقة ببني البشر.» فإنها فكرة تحتوي على لغز، ولكنها تحمل تحديًا لنا أيضًا. فإذا كان الخالق لم يفقد الإيمان بالبشرية، فمَنْ نحن لكي نفعل ذلك؟ وقد يكون العالم في حالة مأساوية، ولكن ذلك لن يمنعنا من الترحيب بالأطفال — رُسُل خلاصه.

ولكن قبل كل شيء، لو كان سبب كل هذه الأضرار هو اللامبالاة التي تعشعش فينا، لما بقي الحلُّ غامضًا عنا لفترة أطول. وربما يكون الحل بسيطًا كبساطة الالتفات إليهم وإيلاء الاهتمام لاحتياجاتهم.