كم كان جليًّا مشاهدة وجه الشيطان البشع مُتجسِّدا في تلك الأعمال الفظيعة لجرائم طرد الناس من بيوتهم وقراهم ومدنهم تحت شعارات دينية باطلة وشريرة، وتاركة ورائها مأساة إنسانية وفواجع وصل صراخها إلى السماء. وما أسهل أن ينجرف الناس إلى حرب أهلية طائفية أو قومية. ثم، هل أن القوى الكبرى بريئة تمامًا من كل ما يحصل هناك؟
فقد سافرنا إلى كردستان العراق عندما وافقت كنيستنا برودرهوف Bruderhof على أن تدعمنا بهذه الزيارة، فكم فرحنا أنا وزوجتي بهذه السفرة. والهدف من الزيارة كان للاطلاع على أوضاع النازحين واللاجئين على اختلاف خلفياتهم ومعتقداتهم. وقد أرسلتنا الكنيسة مع رسالة محبة لجميع العراقيين مفادها: «أننا نفكر بكم، ونحبكم، وقلقين عليكم من جراء الأحداث والاضطهاد، ونصلي من أجلكم، ومن أجل أن يحل السلام في أرجاء البلد.»
وعندما وطئت أقدامنا أرض العراق بعد سنوات عديدة من الغربة، انتابنا إحساس عارم، إحساس مليء بالفرح لكنه ممزوج بالدموع الحارقة على ما جرى للبلد. ورغم ذلك، لاحظنا أن الكثير من الأشياء أصبحت مختلفة عن السابق.
ورأينا كردستان أجمل من ذي قبل من حيث العمران الكثير الذي حصل هناك. إلا أنه لا يمكن التغاضي عن الآثار الواضحة للحروب المتتابعة التي تجرُّ بلاد العراق إلى الوراء، وتعمل على توقيف عجلة التطور والتقدم لاسيما على صعيد البنى التحتية. فتنحدر أوضاعه من سيء إلى أسوأ منذ السبعينيات بل منذ الستينيات. ولم تدم فترة التقدم في كردستان طويلا بسبب ظهور داعش وتبعاته الكارثية من آلاف النازحين الذين لجأوا إلى كردستان والضغط الاقتصادي المترتب عليها، فضلا عن استمرارية استنزاف الدماء والنفقات العسكرية الطائلة. وبالإضافة إلى ذلك، يشكو الشعب العراقي كله من الفساد الإداري ونهب أموال الدولة.
وزرنا معسكرات مختلفة للنازحين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يزيديين. وزرنا أيضا العديد من الأسر النازحة في أماكن متفرقة لاسيما المسيحيين النازحين من مدينة الموصل وقرى سهل نينوى وأيضا من بغداد. واستمعنا إلى قصصهم المروّعة عن كيفية طردهم من بيوتهم دون أن يُسمح لهم بأخذ أي شيء من أملاكهم أو ممتلكاتهم أو مصالحهم من مزارع وحقول ومحلات تجارية...إلخ. وانتهى بهم الأمر في شوارع مدن كردستان وحدائقها يفترشون الأرض.
غير أن المواطنين هناك، وعلى اختلاف أديانهم، بدأوا يتضامنون معهم ويساعدونهم وقاموا بفتح المدارس والقاعات والكنائس والبيوت غير المسكونة لإيواء أفواج النازحين الذين كان بعضهم يعاني من أمراض خطرة أو مزمنة ويحتاج إلى رعاية طبية، بالإضافة إلى حاجة الأطفال إلى مدارس، والحاجة العامة إلى مأكل ومشرب وتدفئة وطبعا إلى العمل.
ومن إحدى القصص الرهيبة التي سمعناها من النازحين هي قصة إحدى السيدات المسنات، فقد قالت لنا إنها عثرت وسقطت أرضا عند هجوم داعش على بلدتهم. ومنذ تلك اللحظة فهي عاجزة عن المشي على أقدامها. فقد صارت أرجلها مشلولة.
وقصة أخرى عن زوجين اضطروا إلى الهجرة داخل العراق ثلاث مرات من بلدتهم قره قوش بسبب الكرِّ والفرِّ بين قوات داعش والجيش الكردي: البيشمركة. وانتهى بهم الأمر في قرية نائية قريبة من الحدود التركية تدعى شرانش، غير أنهم فروا من هناك أيضا بسبب الغارات للقوة الجوية التركية التي كانت تطارد قوات PKK. وكان حال تلك الأسرة يرثى له، ولا أحد من أقاربهم قريب منهم لأنهم تشتتوا كنازحين في مدن مختلفة.
ورأينا أرملة مسكينة كبيرة في السن بعمر 85 سنة وليس لها أولاد، ولم تعرف بما كان يحدث في مدينة الموصل، فرجعت إلى بيتها في الموصل من بعد زيارة لها لأقاربها، فرأت أنه لا يوجد مسيحيون في المدينة، والجميع مُلتحٍ. فذهبت وسألت أحد الأئمة هناك عن سبب عدم وجود المسيحيين. فأجابها بأنهم يجب أن يصبحوا مسلمين. فقالت له بكامل الفطرة: «لكني لا أريد أن أصبح مسلمة.» فرد عليها قائلا: «إن كنت لا تريدين أن تصبحي مسلمة فسوف نقتلك بالسيف.» فمنذ ذلك الوقت رحلت تلك الأرملة عن مدينة الموصل، وأصبحت نازحة، وتمت رعايتها من قبل الكنيسة في إحدى القرى العراقية في كردستان.
والتقينا أيضا مع الكثير ممن كانوا مخطوفين سابقا ومن ثم أُخلي سبيلهم مقابل فدية نقدية. وحكوا لنا تفاصيل فظيعة مما شهدوه أثناء فترة الاختطاف. فنذكر قصة من بغداد حيث كانت إحدى السيدات المسيحيات ذاهبة إلى المدرسة لجلب ابنها من هناك. ولما كان الجو ممطرا بعض الشيء في ذلك اليوم حملت معها مظلة مطرية ولكنها لم تفتحها. وفي الطريق وقفت بجانبها سيارة ونزل منها ثلاثة رجال مسلحون، فشهروا أسلحتهم عليها وأمروها بالدخول في السيارة لترافقهم في وضح النهار. ولما صارت ترفض، مسك أحدهم بشعرها الطويل، ولفه على يده المفتولة العضلات، وجرَّه بقوة شديدة، فانقلع شعرها كله من جذوره. ومن ثم حاولوا دفعها إلى داخل السيارة. فصارت تصلي في قلبها وتناجي مريم العذراء، فإذا بالمظلة تنفتح تلقائيًّا وتصبح بينها وبينهم حاجزًا. فاغتنمت الوالدة تلك الفرصة وهربت راكضة. ثم صار أولئك الرجال يرمون عليها من بعيد إطلاقات نارية بين أرجلها إلا أن أحد الجيران المسلمين فتح بابه الحديدي لها وأوصده وخلَصها. وهكذا نجت من محاولة اختطاف أكيدة.
وقصة اختطاف ثانية حصلت مع شخص مسيحي التقيناه أثناء سفرتنا، وكان يسكن سابقا في بغداد، إلا أنه تم اختطافه هناك، لكن هل تعلمون من اختطفه؟ جاره، نعم جاره، الذي كان يمرُّ من جانب بيته يوميًّا، ويسلم عليه. وبعد دفع الفدية تم إطلاق سبيله بعد أسبوع. وقال لنا إنه تلقى مختلف أنواع الشتائم والاتهامات الباطلة والمعاملة الوحشية أثناء مدة الاختطاف.
ورأينا غالبية الناس، على اختلاف خلفياتهم، يريدون الهجرة لأنهم لا يرون مستقبلاً مُستقرًا في العراق. وهل في هذا عجب؟
إلا أننا رأينا من ناحية أخرى عددًا من العراقيين الوطنيين المعارضين للهجرة سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين أو غيرهم. فقالوا لنا على سبيل المثال: «هذا بلدنا، وهذه أرضنا وأرض أجدادنا، وهنا تاريخنا، ولن نرحل عنه. وقد ضحينا بدمائنا وقدمنا الكثير من الشهداء في سبيله من خلال مشاركتنا في شتى أنواع الحروب، وقد قتلنا كذا من العدو وكذا من داعش.»
غير أننا أخذنا نتساءل في حديثنا مع المسيحيين منهم، ونبحث عن ماهية مشيئة الله ووصايا يسوع المسيح. فكيف يحقُّ لنا أن نزهق أرواح الناس في الحروب من أجل البقاء في بقعة من الأرض، ولا نأبه بوصايا يسوع المسيح المسالمة التي تحرِّم سفك الدماء والقتل؟! فكيف يتوافق القتل مع طريق المسيح؟! ثم، ألا يجب علينا أن نصلي ليهتدي ويتوب أفراد داعش وأمثالهم أيضًا؟! ألم يوصِنا الرب بمحبة الأعداء؟! أليست دعوتنا نحن المسيحيين هي لتمثيل مبادئ ملكوت الله على الأرض؟!
فبالرغم من أن الوطن عزيز ويستحق التضحيات للبنيان، وبالرغم من أن الرب يسوع أوصانا بالخضوع للسلطات ومحبة البلاد التي نعيش فيها، إلاَّ أن المسيح وملكوته وكنيسته أعز من كل شيء. أليس كذلك؟ أي بمعنى أنه لا يجوز المساومة على وصايا المسيح مهما كان السبب. وهم بالتأكيد لا يدرون ما يفعلون؟ ونحن لا ندينهم طبعًا، لكن ندعو القراء أيضًا إلى التفكير في هذا الموضوع.
أما نحن فلم ندعُ أيًّا من المسيحيين لا إلى الهجرة ولا إلى البقاء، فهذا الموضوع هو قرارهم الشخصي، غير أننا دعوناهم إلى ما هو أهم شيء في الحياة، ألا وهو: التضامن جماعةً مسيحيةً بالتزامات حياتية مؤبدة وبتكريس كامل وبمقاسمة تامة وخدمة متبادلة لتطبيق مبادئ ملكوت الله بصفة جماعة مسيحية، ودعوناهم أيضًا إلى خدمة البلد، ومحبة جميع الناس، ومن ثم الصلاة لاسترشاد الروح القدس فيما إذا كانوا سيبقون أو ينتقلون إلى غير مدينة أو يهاجرون إلى غير بلد. فالوحدة والتضامن والمستقبل المشترك ووحدة المصير هي إرادة الله لشعبه. وهذه أهم شهادة يحملها المسيحي للعالم، لأن كنيسة المسيح هي جماعة متضامنة وليست عدد من الأفراد المستقلين الذين لا تربطهم أيُّ علاقة فيما بينهم. فينبغي أن نعطي الأولوية إلى الكنيسة التي تمثل ملكوت الله على الأرض وسفارتها المقدسة. لأن الحكومات تطلب منا أحيانا فعل أشياء شريرة معاكسة لوصايا الرب يسوع، عندئذ يجب إطاعة الله وكنيسته المقدسة الشريفة أكثر من الحكومات. الأمر الذي يجلب علينا الاضطهاد في كثير من الأحيان.
ومن الملفت للانتباه، أننا سمعنا من بعض النازحين المسيحيين يعللون ما حدث قائلين إنَّ الله سمح لداعش ولأمثالهم باجتياح مدنهم وقراهم، وصنع كل هذه المصائب وذلك لأن بعض المسيحيين وقعوا في فخ الفتور وتركوا الله ووصاياه وطريق المسيح، حتى أن أحد القساوسة قال لنا إنه كان يصلي من أجل أن يحصل شيء ما (ليس بهذه الفظاعة التي حصلت) لكي يستيقظ الناس من نومهم وانشغالهم بالأمور الدنيوية الباطلة، ويبدؤون بالبحث عن الحقِّ، وطرح التديُّن التقليدي السطحي المُخَدِّر للضمير، ليحيوا بحقٍّ وفقًا لوصايا السيد المسيح.
غير أننا رأينا في خضم هذه المأساة أن هناك من هو فرحان جدا لأن يسوع المسيح دخل قلبه وحياته فأعطاه فرحة غامرة بحياة جديدة طاهرة ومقدسة رغم الظروف الصعبة. ثم إننا حققنا هدفًا آخر لسفرتنا وهو زيارة عدد من جماعات «طريق الموعوظين الجديد» وهي حركة تجديدية داخل الكنيسة الكاثوليكية، التي يتزايد أعدادها في العراق والعالم. وزرنا أيضًا رهبنات مختلفة تخدم هناك بكل تفانٍ وتكريس. وكم أحسسنا بلحظات حميمة مع الراهبات هناك. ورأينا حتى عدد من المؤمنين المسيحيين الجدد، سواء كانوا من السكان الأصليين أو من النازحين أو من اللاجئين السوريين أو حتى من دول الجوار. فتعجبنا على عمل الرب في النفوس رغم تلك الظروف ورغم كل العراقيل التي تضعها الحكومات في طريق الرب.
وكان هؤلاء الناس فرحين بحصولهم على جوهرة الحياة، أي الإيمان بيسوع المسيح. فلم يعودوا يقلقون على أوضاعهم أو على مستقبلهم، لأنهم قالوا إنَّ مستقبلهم هو في يدي الرب يسوع. ويشهدون أن الرب قد أنقذهم عدة مرات من موت أكيد من أيدي الإرهابيين. ورغم ذلك، فهم لا يخافون من الاستشهاد في سبيل المسيح.