اطلبوا أولا ملكوت الله!‏

فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. (متى 6: 31–33)

إنَّ تاريخ حياة يسوع المسيح بكل وقائعه وأحداثه القديرة، هو تاريخ ملكوت الله في الماضي والحاضر بكل وقائعه وأحداثه القديرة. فقد هَزَّتْ هذه الحقيقة نفوس بعض الناس واستحوذت عليهم، لأنهم بدأوا بفضلها يَشُكُّون في المُسلَّمات التي كانوا يعيشونها سابقًا. ولكن ملكوت الله بالنسبة إلى الكثيرين اليوم قد توارى عن أنظارهم. واضطرب الناس من جراء الكثير من الأمور؛ وفرضت ظروف الحياة مطالب كبيرة عليهم. ويبدو الآن، وأكثر من أيِّ وقت مضى، أن الناس يستخدمون كل قوتهم وطاقاتهم للتوصُّل بمنظار بشري إلى الكيفية التي يجب أن يعيشوا بها وإلى ما يجب عليهم فعله. ويبدو كما لو أن العالم بأسره أراد أن يُقدِّم لنا طاقته على طبق ذهبي قائلاً: «استخدموني، لتصبحوا عظماء وأقوياء، وأغنياء، ومبدعين، وفَعَّالين — وسيطروا على كل شيء!» فإنَّ القِوى التي ما كاد الزمان يحلم بها سابقًا قد أصبحت مُتاحة لنا الآن وأبوابها مُشرَّعة لنا.

ويرى كل شخص نفسه أن بإمكانه الاستفادة من أحدث التقنيات التكنولوجيَّة. ويفترض المجتمع المعاصر أننا يجدر بنا أن نقوم باستخدام هذه التقنيات، وأننا إذا رفضنا استخدامها، فلن نكون قادرين على التواصل مع الناس في المجتمع بشكل عام، وسنهلك أخيرًا. أمَّا إذا ألقينا نظرة ثاقبة إلى الموضوع لمعرفة حقيقة ما يجري، فسنرى أن الروح الذي يمجِّد مهارتنا في استخدام هذه التكنولوجيا وإتقاننا لها، هو الذي يقوم في الحقيقة بصرف الناس عن الاهتمام بملكوت الله.

إنَّ يسوع المسيح حيٌّ ويعمل الآن في النفوس، وإنه ليس كلمة فارغة أو مجرد ‏تعليم.‏‏

لقد حدث سوء فهم فظيع فيما يَتعلَّق بملكوت الله. فقد قيل الكثير عن الكنيسة. وذُكِر الكثير عن التعاليم التي حافظت عليها الكنيسة، وعن الطوائف المتنوعة التي صارت أمرًا فاضلاً ومُقدَّسًا داخل جسد الإيمان المسيحي. وهناك تشديد زائد على اللزوم قد وُضِع على الشكل الخارجي الذي نعبِّر من خلاله نحن المسيحيين عن أنفسنا. وهكذا لا يمكننا اليوم أن ننكر أن كثيرين لا يجدون تمامًا الخواص الحيَّة التي أراد أبونا السماوي أن ينعم بها علينا في يسوع المسيح. فلم يروا ولم يتذوقوا الحياة التي تأتي من عند الله، لهذا فإنهم في مأزق. فمِن ناحية، لا يمكنهم أن ينكروا أنهم هم أيضًا بحاجة إلى الله، وإلى كلمة الله، وإلى إعلان الله، في قلوبهم. ومن ناحية أخرى، لم يعودوا يؤمنون تمامًا بالوسائل التي يمكن من خلالها إعلان كلمة الله، ولهذا أصبح الكثيرون منهم لا يعرفون كيف يتصرفون التصرف السليم فيما يَتعلَّق بملكوت الله. فتجوع قلوبهم وتتعطَّش إلى البِرِّ؛ وهم يدركون أن هناك شيئًا من أبدية الله والحقِّ الإلهي ينبغي أن يُكشَف فينا، ولكنهم لا يعرفون تمامًا ماذا يفعلون بشأن ذلك.

فلأجل كل هذا يجب أن نبدأ بالحديث عن ملكوت الله بأسلوب جديد. فعلى الرغم من الظروف الحالية، حيث أن جزءًا كبيرًا من الكنيسة ومن الشركة المسيحية مَيِّتٌ تقريبًا، إلاَّ أننا يمكننا مع ذلك الحديث عن ملكوت الله للناس، من رجال ونساء زماننا الحاضر. فإنَّ ملكوت الله كان ولا يزال وسيبقى لديه سيادة العدل، والنظام، والقوة، والسلطان، وكل ما هو من الله، على الخليقة. وهذا ما يؤثر في البعض مِنَّا من الذين يبحثون عن الحقيقة، ولابد لهذا كله أن يتجسَّد على أرض الواقع تجسُّدًا كاملاً. وما لم نقُم بصياغة حياتنا وفقًا لهذه السيادة الإلهية، ستستمر في داخلنا مشاعر عدم الرضا. وربما نستمتع برفاهية الحياة العصرية، ولكن واقع الأمور الأبدية سينطفئ في حياتنا، ما لم تشرق علينا سيادة كلام الله وعدله نورًا للحياة، فنحيا عندئذ حياة حقيقية بفضل هذا النور.

ومع ذلك، فإنَّ هذه الحقيقة بالذات تسبب الكثير من التنافر بمجرد التطرُّق إليها. وهناك ملايين من الناس الذين يُسَمُّون أنفسهم «مسيحيين» الذين يشعرون بكل السلام والراحة من مرحلة الطفولة وما بعدها حتى وفاتهم. فهم مقتنعون ومكتفون بما يُقال عن الله، ولا يثير هذا أيَّ شعور بعدم الراحة فيهم بأيِّ طريقة من الطرق. فالدين عندهم يؤخذ كأمر مُسَلَّم به على أنه جزء من الحياة؛ ويتم قبوله كما هو. وهذا لا يسبب أيَّ خلاف أو صراع — ولكنه قد يثير على الأكثر جدالاً هنا أو هناك فيما يَتعلَّق بتفسير هذا التعليم أو ذاك التعليم، إلاَّ أن تلك المجادلات عقيمة. ولكننا بمجرد أن نشعر بضرورة إعلان ملكوت الله على أنه شيءٌ حيٌّ، فإذا بخلاف جديد ينشب تلقائيًّا؛ وهذا ما أريد إعلانه اليوم. فأنا لا أريد مجرد تثقيفكم، لكنني أريد أن أعلن لكم ما وضعه الله في قلبي، ألا وهو أن: ملكوت الله واقعٌ حيٌّ، وهو سلطانٌ يؤثر في النفوس هنا على هذه الأرض وفي هذه الساعة. وهو قريبٌ مِنَّا اليوم أيضًا — قريبٌ أكثر مما نتصور. إذ إنَّ تدخُّل الله الحيِّ أقوى اليوم وأكثر مما يظن الكثيرون. فيريد الله أن يُظهِر نفسه على أنه ذو شأنٍ عظيمٍ وعلى أنه يفعل الآن أمورًا مُهِمَّة، فهو الوحيد الذي علينا أن نشغل أنفسنا به بكامل الفرح.

ملكوت الله بالنسبة إلى الكثيرين اليوم قد توارى عن أنظارهم. واضطرب ‏الناس من جراء الكثير من ‏الأمور؛ وفرضت ظروف الحياة مطالب كبيرة ‏عليهم.‏

عندما نتحدث عن ملكوت الله، فإنِّنا نعلن أن يسوع المسيح ليس مَيْتًا. فهو ليس مجرد شخص ما ظهر من ألفي سنة مضت، وشخصية من الماضي نحتفظ ببعض ذكرياته وتعاليمه. لا بالعكس، فمثلما عاش يسوع من ألفي سنة مضت، هكذا أيضًا هو حيٌّ اليوم. وأنه يريد أن ينتصر في وسطنا لأجل مجد الله. ويريد أن يحيا فيما بيننا لكي يزداد ويتعمَّق توقيرنا لأبينا السماوي. ويجب أن نمثل أمام الله بطبيعتنا الضعيفة والفقيرة روحيًّا، ونرفع عيوننا إليه بصرخة استغاثة في قلوبنا، قائلين له: «يا أبتاه، يا أبتاه، أنا أيضًا أريد أن أكون ولدك!» عندئذ يمكننا، بفضل القوة المعطاءة للحياة، أن نؤمن بأن: يسوع حيٌّ، وسيساعد كُلاًّ مِنَّا شخصيًّا، فهو الغالب. ولا يهم من أنا أكون، فيمكن لاسمه أن يتقدَّس فيَّ، ولسيادته أن تدخل روحي، لكي تتم مشيئته فيَّ مثلما تتم في السماء!

يا أصدقائي، أتمنى لو كان بمقدوري أن أضع في قلوبكم قوة الله الحيَّة. وأتمنى لو كان بمقدوري أن أساعدكم على فهم أن تلك القوة هي التي تجعلنا خليقة جديدة كُليًّا. ويمكنها أن تتغلَّب على الكثير من بؤسنا الروحي، وحتى على البؤس المادِّي والعملي في حياتنا. إذ تفتش عَنَّا قوة الله الحيَّة على الدوام وتريد أن تُظهِر لنا قِيَمًا حقيقية وواضحة قادرة على أن تسمو بحياتنا، رغم كل شرور الحياة التي تبغي الإيقاع بنا في شِراكها.

أمَّا في عالم طبيعتنا البشرية، فتوجد مقاومة كبيرة لكلام الله أكثر مما يعتقد الناس. وفي المجتمع البشري، الذي نتعرض فيه إلى كل التأثيرات السلبية، يوجد فيه عائق خطير يعوق قوة المسيح الحيَّة، وهذا العائق أكبر مما يظن الناس. وغالبًا ما أجد أنه عندما أتحدث عن الله والمسيح والروح القدس، فإنَّ الجميع يتفقون معي، ولا أحد ينزعج. غير أن الخلاف يبدأ بمجرد أن أتخذ موقفًا حازمًا وأقول: «لقد تعرَّفتُ على شخص يسوع. فقد أمعنتُ النظر وتأملتُ القوة الحيَّة، وملكوت إِلَهِنَا، الذي يريد أن يمسكنا ويملك علينا حتى في يومنا الحاضر. وأقول لكم إنَّ كُلاًّ من الحقيقة التي يعلنها الله وقوة الحياة التي عند إِلَهِنَا تعملان في النفوس الآن.^[1] وأعلن لكم أن حقيقة ملكوت الله تأتي إلى هذه الأرض بشكل منظور حتى في هذه الأيام. فلا نحتاج إلى أن ننتظر حتى نموت ونُدفَن. فيمكننا هنا والآن أن نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا، مَنْ هو يسوع المسيح، ومَنْ هو الروح القدس المعطي للحياة. فإنَّ الرب هو نفسه اليوم كما كان في زمن الرسل. فالمسألة لا تتعلَّق بهذه الكنيسة أو تلك، ولا بهذا التعليم أو ذاك، وإنما بيسوع المسيح فقط وليس سواه، فينبغي أن نبدأ بفهمه، وإعلان حاجتنا الماسة إليه، وقبوله، وبناء علاقة معه، والتصالُّح معه، والمجيء إليه تائبين!» قال يسوع المسيح:

أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. (يوحنا 14: 6)

أمَّا بالنسبة إليَّ، فإنَّ هذا هو الطريق الواحد والوحيد. ولكني إذا قلتُ هذا، فسيحصل ردُّ فعل سلبي لدى الناس ويأخذون بالتجادُل قائلين: «مَنْ هذا الشخص المغرور؟ كيف يمكن لأحد أن يقول مثل هذه الأشياء اليوم؟ ألا يُعتبر الكتاب المُقدَّس والطوائف القائمة كافية بالنسبة إلينا؟ هذه خرافة ومبالغة!» لهذا ينشأ خلاف بيننا، غير أنه يوقِد نورًا في قلوب كثيرة، نور رجاء، ونور قوة، ونورًا من الأعالي من خارج هذه الأرض. إذ لا يمكن لأيِّ شيء أن يمدَّنا بالقوة أكثر من اليقين بأن يسوع حيٌّ ويعمل الآن في النفوس، وأنه ليس كلمة فارغة أو مجرد تعليم. ولا شيء يمدُّنا بالقوة أكثر من وعينا بأن يسوع موجودٌ في وسطنا:

لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ. (متى 18: 20)

ويجب أن نؤمن بهذا لَعَلَّ حياة يسوع المسيح تصبح حقيقة فينا وتَشِعُّ من خلال حياتنا، ولَعَلَّ روحه ينقينا.

إذن ما معنى أن نؤمن؟ هناك الكثير من الجدل والخلافات حول موضوع الإيمان؛ ولكن وَيلٌ لنا ولجدلنا حول موضوع الإيمان! أليس الإيمان شيئًا بسيطًا جدًا؟ أليس ‏هو شيئًا يمكن لأيِّ طفل أن يفهمه؟ يا أصدقائي، إذا كان يسوع حيًّا حقًّا، وإذا كان يسوع ملك الملوك، وجب عليكم عندئذ أن لا تتكلوا على ذواتكم من الآن فصاعدًا. ويجب أن تنكروا ذواتكم في كل الأشياء التي هي مُلكٌ للرب الإلَه. ويجب أن تكونوا كشخص يحتضر، وكشخص يقول فيما يخص أمور الله: «لا يمكنني أن أفعل شيئًا، فلا أحد غير يسوع المسيح مَنْ له الحَقُّ في أن يُظهِر لنا الأمور الإلهية!» وبهذه الطريقة وحدها نُكَرِّم هذا الملك حقَّ التكريم.

إذا كان ملكوت الله مُهِمًّا بالنسبة إليكم، وجب عليكم أن لا تحسبوا أنفسكم شيئًا مُهِمًّا، وإنما ينبغي أن ترموا أنفسكم عند أقدام يسوع المسيح، وأن يقول كل واحد منكم لنفسه: أنا إنسان ضعيف، ولكن يسوع حيٌّ، ويسوع منتصرٌ على قِوى العالم الشريرة بعمله الكفاري على الصليب. وسأسلِّم نفسي له، وسأضع كل شيء بين يديه حتى لا يُسَيِّرني شيء سواه.

فهذا هو الإيمان. فإذا آمنا بيسوع المسيح، وجب علينا عندئذ أن نقف صامدين ونثبت على الإيمان. فالإيمان هو ليس الاستماع إلى شخص ما وهو يتحدَّث عن الإيمان، أو القبول بعقيدة مسيحية، أو التضحية بأنفسكم من أجل قضية صالحة. فلن تُجديكم كل هذه الأمور نفعًا.

إذا كان ملكوت الله مُهِمًّا بالنسبة إليكم، وجب عليكم أن لا تحسبوا ‏أنفسكم شيئًا مُهِمًّا، وإنما ينبغي ‏أن ترموا أنفسكم عند أقدام يسوع ‏المسيح...‏

لذلك أود أن أدعو الناس في العالم إلى ما يلي: «استرخصوا حياتكم، لكي يحيا يسوع المسيح فيكم!» كما قال بولس الرسول:

مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. (غلاطية 2: 20)

وبعبارة أخرى، لا تُعلِّقوا أيَّ أهمية على ما هو زائفٌ، وعلى ما هو متعارضٌ مع الحقيقة. فيسوع المسيح هو الرب. وارفعوا قبضتكم عاليًا غاضبين على كل ما يأتي من الجسد، وعلى كل خداع يأتي من تفكيركم البشري. فكل ما هو زائفٌ يجب أن يُسَمَّى زائفًا. وافعلوا هذا لأجل المسيح مُخَلِّصكم! ويجب على كل ما هو باطلٌ أن يموت، ويموت مرة ثانية، وثالثة، لكيلا يُعتبَر من بعد الآن أمرًا ذا شأن. عندئذ سنتعجب من كل ما يمكننا أن نفعله من خلال سيادة المسيح علينا.

هذه المقالة مقتطفة من كتاب «في انتظاره فعل»