في ظل تلك الحيرة والالتباسات هناك ناس أبرياء بقلوبٍ نقيةٍ مِمنْ هم في ضياعٍ، ويرتعشون بسبب ما يرونه، كما يترجون بألم وأسى متسائلين: «من أين سيأتي عوننا؟... مَنْ هم الذين سيرشدوننا ويـُظهـِرون لنا مثالاً صالحًا من خلال حياتهم، وعن طريق سلوكهم؟... من ترانا سـنـتـبـع؟...» فالصغار والكبار يـبحثون عن النور الحقيقي بشوق بالغ، ويتصارعون مع شكوكهم. – ناتان هوفشي Natan Hofshi، (ناشط سلام إسرائيلي)
عندما أصابت سكته قلبية قوية يوسف بن اليعازر (وعمره 83 سنة) في ليلة 22 مارس، ذُهِل أفراد أسرته والمئات من رفاقه في أرجاء العالم من أفراد حركة برودرهوف المسيحية بخبر وفاته المفاجئ. أما بالنسبة إلى يوسف شخصيا، فكانت الوفاة مجرد ممر رؤوف انتقل فيه إلى أحضان الله تعالى الذي كان يوسف قد أنكره مرة في حياته، لكنه تمسك بالله بعدئذ بكامل الغيرة والحماسة بحيث صار يشع غيرة وحماسة – وهو كبير السن – وكأنه وُلِد الولادة الروحية الجديدة الآن.
لقد ولد يوسف في مدينة فرانكفورت الألمانية عام 1929م. وكانت إحدى ذكريات طفولته هو أنه شاهد جماعة الشباب النازي وهم يقومون بمسيرة في الشارع أمام بيته وينشدون نشيدا جعله يرتعب ارتعابا كبيرا، فكانوا ينشدون: "عندما سيسيل الدم اليهودي من سيوفنا...الخ..." ولم تدم مدة طويلة حتى رحلت الأسرة كلها إلى بولندا اعتقادا منهم أنهم صاروا في أمان، لكن بعد بضعة سنوات لحقهم رجال هتلر إلى هناك أيضا. وبعد أن أخرجتهم قوات SS الألمانية عنوة من بيوتهم وأخذوهم سيرا على الأقدام، فروا شرقا إلى روسيا (الاتحاد السوفييتي آنذاك)، حيث تم تجميعهم مع يهود آخرين – ومن ثم خدعوهم وأركبوهم قطار حديدي إلى المناطق البرية لسيبيريا المتجمدة. ومن المفارقات أن تلك الخدعة أنقذت حياة يوسف من الخطر لأنه لو كانت أسرته قد عادت إلى بولندا – كما كانت تتمنى – لانتهى بها الأمر في معسكرات أوشفيتز Auschwitz للاعتقال والإبادة.
وفي عام 1943م وصل إلى مركز تجميعي للأطفال الأيتام قرب مدينة حيفا بعد أن مر بسمرقند وطهران وكراجي وقد كان معه أولادا ناجين من معسكرات مثل معسكر بيرغن بيلسن Bergen-Belsen الألماني. إلا أن شكل الأولاد كان يبدو كالعجزة بالرغم من أنهم كانوا من عمره.
وانتهت الحرب العالمية بعد سنتين من ذلك الوقت، لكن يوسف كان ما يزال لاجئا بكل ما تعنيه الكلمة. وبعد أن فقد جذوره وأهله، جالت أحلام وأفكار متناقضة في رأسه. وعندما سألوه عن لسان أمه لم يتمكن من إعطاء جواب واضح. لكن كان أشد عبء ملأ صدره هو الحقد على الألمان بسبب عمليات الإبادة - الهولوكوست؛ لكن أيضا على البريطانيين بسبب محاولاتهم للتشدّد بوجه هجرة اليهود الناجين من معسكرات الإبادة إلى فلسطين. ويقول يوسف عن تلك المرحلة:
لقد عاهدت نفسي، مثل غيري من اليهود، أن لا أُساق ثانية إلى الذبح مثل الغنم، على الأقل ليس بدون قتال. لأننا أحسسنا بأننا نعيش في عالم من الوحوش البرية، ولم يسعنا رؤية كيف لنا النجاة ما لم نصير مثلهم.
في السنوات التي تلت، وجد يوسف نفسه في القوات السرية لمنظمة هاجانا المسلحة، ومن ثم المشاركة في القتال في سبيل تأسيس دولة إسرائيل. وفي خلال إحدى الحملات العسكرية، خدم يوسف في وحدة عسكرية شاركت في عملية إخلاء إجباري للسكان العرب لإحدى القرى (بالإضافة إلى قيام الوحدة بإجراء التحقيقات الاستجوابية والضرب وحتى القتل)، لأن المستوطنين اليهود أرادوا الحصول على تلك المنطقة. فلم يعد يوسف ضحية عند ذاك الوقت، وموقفه الجديد إلى جانب القوة والعنف لم يجلب له سلام النفس، بل بالحقيقة عمل العكس تماما؛ فقد بدأ هذا الموقف يفتح ذكريات يوسف الأليمة عن معاناته الشخصية السابقة والتي بدأت تنخر فيه داخليا (وتأنّبه) وتجلب له موجات من الذنب. وأخيرا ترك يوسف الجيش لكنه كان ما يزال غير سعيد. ونبذ الديانة اليهودية بعد ذلك والدين برمته. وحاول أن يفهم الحياة والعالم من خلال أن يجعل كل شيء نسبيا إلى الشر الذي يقترفه الإنسان. لكن لم ينجح معه حتى هذا ولم يحصل على السلام. فيقول:
في ذلك الوقت، كنت أزعم أن الإيمان بقوة عليا هو هراء. فبعد كل ما شهدته ورأيته، كنت ساخطا على الوضع لأن أجدادي جلبوا البلاء والمعاناة الكبيرة على أنفسهم بسبب إيمانهم بإله.
فكنت أقول لنفسي، لا يوجد إله، وبالتأكيد لا يوجد مسيح متجسد تعذب معنا على الصليب الذي يسببه العالم، ولا قام من بين الأموات ولا ينعم على الناس بحياة جديدة. ففي نظري كان الإيمان بواقعية إله حيّ هو مسّ من الجنون وذلك بسبب كل ما قد سمعت ورأيت عن ما يقترف باسمه، ولاسيما بحق الشعب اليهودي، وقد حدث الشيء ذاته حتى ما بين الذين يسمون أنفسهم مسيحيين. وأريد أن أقول أنه عندما كانت كلمة "مسيح" تذكر أمامي كان يقشعر بدني من الخوف. ففي نظري كان هذا الاسم له علاقة بمحاكمة الهراطقة التي كانت في أوروبا وبالاضطهاد وبالرياء وبعبادة الأصنام.
وفي السنين اللاحقة، لم يستسلم يوسف مطلقا في بحثه عن معنى الوجود البشري، وعن مجتمع يتسم بالعدالة والمساواة. أما نظام الرأسمالية فكان أمر مكروه في نظره، وكذلك الصهيونية، فقد فقدت الصهيونية نصاعتها وبريقها. إلا أن يوسف صار يهتم وينجذب إلى الاشتراكية والشيوعية لفترة طويلة، بالإضافة إلى كتابات الفيلسوف سارتر Sarter. وقد جرب أن يعيش لعدة أشهر في باريس ضمن جماعة من الماركيسيين المثاليين. لكن طبعا بالنهاية لم يكن هناك ما يجيب على أسئلته الملتهبة في باله. وهناك سؤال كان يتأجج في صدره بشدة إلى درجة أنه أصيب باليأس من جرائه وهو حل عقدة لماذا لا يستطيع الناس أن يعيشوا معا بانسجام. وكان في أكثر من مرة يفكر حتى في الانتحار من جراءه.
وفي تلك الأثناء، قضى يوسف عدة أشهر في مدينة ميونخ الألمانية، حيث رأى بالصدفة مسيرة للحزب النازي الجديد ورأى أن فوهرر Führer (أي القائد هتلر) كان ما يزال حيا في نفوسهم، بالإضافة إلى أنه بذل جهده في تعلم لغة إسبرانتو Esperanto وهي لغة مصطنعة ألفها بعض المثقفين الأوروبيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين كانوا يؤمنون بأن لسان لغوي دولي واحد قد يجلب السلام العالمي.
وفي عام 1958م، التقى بالصدفة بأحد مجتمعات حركة برودرهوف المسيحية Bruderhof. وهناك - في مجتمع مسيحي دون غيره – تواجه يوسف بإله أجداده بشكل غير مسبوق. فعندما وصل إلى هناك كان يوسف ملحدا أصيلا. لكنه رأى نفسه منجذبا إلى حياتهم الأخوية بشكل كبير. وتدريجيا تبخرت جدالاته وحججه الدفاعية. وبعد مضي سنتين، كرّس حياته إلى السيد المسيح من خلال معمودية المؤمنين. وكتب بعد ذلك بمدة قصيرة قائلا:
عندما أتذكر حياتي السابقة، أرى أن قلبي كان بالحقيقة دائما يشتاق إلى الله تعالى. فكم استحيت عندما أدركت عظمة محبته عندما جاد بابنه ليُصلب من أجلي! وأنه لم يتخلَ عني مطلقا أو يقطع الأمل عني، لكنه بالأحرى قاسى الآلام معي وكان يمد يده الحنونة لي باستمرار، لكي أفهم وسع محبته. ولحد الآن لا أفهم لماذا كان قلبي أعمى بهذا الشكل ولماذا لم أقبله من قبل، بالرغم من عظمة محبة الله لجميع الناس حتى لمخلوق بائس مثلي.
كان عليّ أن أخوض صراعات شخصية كثيرة. وكنت أشعر أحيانا بالعجز ولا حول لي ولا قوة، لكن عندما كنت أحس بأشد عجزي كإنسان - حيث كان الأمر يبدو يائسا بحسب المعايير البشرية – كنت اختبر عندئذ السيد المسيح بكامل العنفوان. فلم يتخلَ عني المسيح مطلقا.
فلا توجد حياة إلا وتأتي من عند المسيح! فينبغي علينا أن ندعه يقودنا دائما، وذلك بأن نتوقع كل شيء منه وأن نميت كل شيء يصدر عنا. والمسيح لن يخيّب ظننا وأملنا، حتى لو كان لدينا إيمان قليل في أغلب الأحيان. وكل ما في وسعي قوله هو أنني اختبرت المعمودية وأنا أشعر بالعار بالإضافة إلى امتناني وفرحي الكبيرين. بالعار، لأنني كنت أبعد عني باستمرار يسوع المسيح. إلا أن محبته أكبر من فهمنا البشري.
وكانت سعادتي عارمة عندما أدركت أن يسوع المسيح الذي تتكلم عنه الأسفار المقدسة في الكتاب المقدس هو ما يزال حيا اليوم كما كان قبل 2000 سنة. وكل ما قد قيل عن عظمته هو حق، حتى أنه أعظم...
وقد أضاف يوسف من خلال اكتشافه للمسيح الحقيقي الذي هو بريء من كل العنف الذي جرى باسمه، بأنه قد أدرك وعود الحياة الجديدة التي ينعم بها يسوع المسيح على بني البشر ويجعلهم إخوة وأخوات يعيشون في وحدة ومحبة، فقال:
لقد سمعت كلام يسوع في قلبي، "كَم مَرَّةٍ أرَدتُ أنْ أجمَعَ أبناءَكِ، مِثلَما تَجمَعُ الدَّجاجةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها، فما أردتُم!" (متى 23: 37). فأحسست بجبروت هذه الكلمات وعلمت أن بمقدورها توحيد الناس وتهديم جميع الحواجز التي بينهم – من مختلف الشعوب والأجناس والأديان. فقد كانت تجربة غامرة فعلا بالنسبة لي. فقد قلبت حياتي رأسا على عقب، لأني أدركت أنها تشمل الشفاء من الحقد والنقمة، وتهب مغفرة الآثام.
بعد عدة عقود لاحقة، التقى يوسف برجل كان والده قد تم طرده من قريته في فلسطين من قبل الوحدة العسكرية التي كان يوسف جنديا فيها. وكان ذلك الوالد قد قرأ قصة يوسف، ورغب في لقاءه. وفي عام 1997م، سافر يوسف إلى إسرائيل بالرغم من مشاعر الخوف لكنه كان مليئا بآمال متوهجة عن المصالحة. وهناك قابل يوسف ذلك الرجل ووالده، وطلب منهما العفو والغفران – فحصل عليهما.
وبالرغم من أن سفرته هذه كانت مجرد حدث واحد في حياة يوسف الطويلة والمليئة بالأحداث إلا أن مجرد توليه سفرة كهذه (بالرغم من أن عمره كان 68 سنة عندما سافر) تلخص لنا الكيفية التي كان قلبه يرشده للسعي قدما باستمرار، وللبحث باستمرار ومن دون كلل (كما كان يحثّ الآخرين على البحث أيضا) ولا يرتاح أو يتراخى ويقول بأنه قد "وصل". وكانت زوجته الحبيبة روت Ruth تسانده دائما سواء في سفراته أو في انتظاره في البيت لمدة 50 سنة. وقد رزقهما الله بسبعة أولاد وما يزيد على 15 حفيدا.
وعلى صعيد أوسع، فقد كان يوسف يلعب دور الأب للكثير من الأولاد في مجتمعات حركة برودرهوف المسيحية وخارجها، وليس مجرد لأولاده.
وفي يوم عيد ميلاده في يوليو الماضي (83 سنة)، حكى لنا يوسف عن حياته كأحد أتباع السيد المسيح وكفرد في حركة برودرهوف المسيحية. ومن بين ما قاله كان ما يلي:
لقد مضت 50 سنة منذ انضمامي إلى كنيسة برودرهوف. فبالرغم من كثرة الصراعات الروحية التي خضناها فأنا ما أزال هنا! وسيأتي أجلي في يوم ما. لكن لا تقولوا أن يوسف كان وفيا. لأنه لم يكن وفيا. لأن الله كان وفيا. فهو – ولس سواه – الذي حفظني، وهذا ما أريد التشديد عليه اليوم. فلا يسعني إلا أن أقول بأن فكرة انضمامي إلى مجتمع مسيحي بالأساس كانت آخر ما كنت أفكر فيه حتى ولا في أحلامي الجريئة. لكن الله هو الذي أخذ بيدي. لقد أخذ الله بيدنا أجمعين أيها الإخوة والأخوات. وها نحن كلنا نختبر ذات الأمر: فنحن مجرد ناس مساكين ونصارع روحيا يوميا ونفشل في العمل بوصاياه، ثم نقف ثانية ليساعد بعضنا بعضا. والذي يساعدنا على ذلك هو أن الله تعالى موجود، وهو الذي يساعدنا على اجتياز المحن. لهذا السبب فأنا أقدم كل الحمد والمجد لله تعالى – لأنه هو الذي قد أنعم علينا بهذه الأمور الرائعة. فأنا لست مهما، بل الله هو العظيم. وعسانا نستمر في تقديم الشهادة – ليس عنا، بل عن مجد الله.
بعد وفاة يوسف وجدنا ورقة في جيبه. وكان مكتوب عليها باللغة العبرية كريات شيما Kriyat Shema وهي صلاة طقسية من القرن الميلادي الخامس. وكان يحملها أينما ذهب. وهذا نصها:
ها أنا أغفر وأسامح كل الذين أغضبوني أو سخروا مني،
وكل الذين أخطأوا بحقي،
أو بحق ثرائي أو أملاكي أو كرامتي،
باستعمال القوة، بمعرفة أو بغير معرفة،
بكلامهم أو بأفعالهم،
فيجب أن لا يعاني أحد منهم من عذاب العقوبة بسببي.
ولو أخذنا بنظر الاعتبار حجم المعاناة التي كابدها يوسف ولاسيما في شبابه، فإن تثمينه واعتزازه بصلاة كهذه تعلمنا الكثير. واشتياقه الكبير إلى أن يعيش جميع الناس في سلام بعضهم مع بعض - حيث قاده اشتياقه في بعض الأحيان حتى إلى اليأس – يقدم لنا إرشادا شخصيا عميقا لنكمل مسيرتنا في الحياة كما أنه يهزنا في أعماق كياننا.
وللمزيد عن قصة حياة يوسف بن اِليعازر بكلمات كتبها بنفسه اقرأ الكتاب الإلكتروني المجاني «مسيرتي في البحث»
اقرأ عن مجتمعات برودرهوف المسيحية التي تدير دار المحراث للنشر في صفحة عن الموقع