عندما يسألنا شخص: "ما شكل الحياة في مجتمعاتكم المسيحية التي تعيش حياة مشتركة؟ وكيف تعرفتم على هذه الحياة؟ وما طبيعة النظام فيها؟" فيمكننا القول أنّ الإيمان بالتحديد هو البذرة التي ينبع منها أيّ مجتمع مسيحي كان. ونحن نعلم أنّ بوسع الإيمان أنّ ينقل جبالا، مثلما أكد ذلك السيد المسيح:
الحقَّ أقولُ لكُم: مَنْ قالَ لِهذا الجبَلِ: قُمْ واَنطَرِحْ في البحرِ، وهوَ لا يَشُكُّ في قَلبِه، بَلْ يُؤمِنُ بِأنَّ ما يقولُهُ سيكونُ، تَمَّ لَه ذلِكَ. (مرقس 11: 23)
فالإيمان هو العون الوحيد للبشرية. فلا ينفع أي شيء آخر. فالثورات الاجتماعية التي ترمي إلى تغييرات جذرية، والحركات المثالية للعودة إلى الطبيعة، والأفراد الذين يخلقون لهم شخصيات وطنية بطولية بتأثير وسائل الإعلام والإشاعات الكاذبة، والمعتقد المسالم المؤمن بالتحسن التدريجي للجنس البشري أو بقوة الخير العاملة في التاريخ - كلها لا تقدر على أن تمنح البشر القوة أو تهديه إلى الطريق الصحيح. ولا تقدر أيّ منها على أن تتغلّب على الخطيئة أو على الظلم أو على الأنانية والتمحور حول الذات أو على الجشع. ويتضح هذا كثيرا من كلام أعضاء حركة الإصلاح الزراعي على سبيل المثال (التي تدعو إلى الاستخدام والتوزيع الأفضل والحقاني للأراضي). فيقولون: "نحن نسلّم بالأنانية البشرية كواحدة من البديهيات. وإلّا لما بقينا في حركة الإصلاح".
لكن الإيمان لا يسلّم بالأنانية كإحدى البديهيات؛ فهو يتوقع التخلص منها كليا. وبفضل الإيمان تُبدَلُ الأنانية بكلام يسوع: وهو أننا إذا طلبنا ملكوت الله وبرّه في طليعة المتطلبات فسيحل كل شيء آخر في مكانه الصحيح. عندئذ لن يكون هناك سوى حلّ واحد وجواب شافٍ واحد ألا وهو: سيادة الله على حياتنا في المسيح من خلال الروح القدس. ثم إنني مقتنع تمام الاقتناع بأن لا مشكلة ستبقى بدون حلّ إذا مضينا جديّا في هذا الطريق وإذا نمت هذه البذرة حقا وازدهرت بيننا.
أنّ الشيوعية السياسية (وهي الفئة من داخل الحزب الشيوعي التي تتبنى القوة في الحزب الماركسي الروسي وغيره من الأحزاب الشيوعية الأخرى) لا تنشأ عن جماعة روحية ولا عن جماعة تؤمن بالإيمان والأعمال، بل تنشأ عن مُثُل عُليا لحكومة مركزية واقتصاد مركزي. فهي تهدف إلى فرض طريقة الحياة الشيوعية بالقوة على الناس. وهي تتعامل مع الأمور من الخارج. فتعالج المشاكل الخارجية للسيطرة الاقتصادية. ويأملون أن تساعد السيطرة الخارجية أيضا في تحسين العلاقات الداخلية. إلّا أنّ هذا النوع من الشيوعية لا يتمكن أبدا من خلق مجتمع أخوي باستعمال القوة. فالقتل هو ليس الطريق إلى السلام. والقتل هو ليس الطريق إلى المحبة. فالشيوعية السياسية هي هاوية خطيرة، بل هي معادية للمسيحية. ومع ذلك فنستطيع التعلّم من خلالها أنّ شيئا أفضل وأكثر نقاء وطهارة يمكننا الحصول عليه من خلال المسيح ومحبته الكاملة.
وعليه فإنّ عدالة ملكوت الله لابد أن تكون أفضل من ذلك بكثير. فما لم تكن عدالتكم أفضل من عدالة الأخلاقيين واللاهوتيين - ومن عدالة الشيوعيين - لا يمكنكم الدخول إلى ملكوت الله.
فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى بِرِّ الْكَتَبَةِ والْفَرِّيسِيِّينَ، لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ أَبَداً. (متى 5: 20)
فعدالة الشيوعية السياسية غير كافية لتتأهل لملكوت الله. فلا تنبع عدالتها من القلب، ولا من جماعة روحية. فهي مفروضة على رقاب الناس. فلا يمكن بناء مجتمع مسيحي أخوي بهذا الأسلوب.
يلزمنا أن نجد طريقا مختلفا. أنه طريق متواضع جدا وبسيط لأننا نرفض إجراء محاولات إصلاح الأحوال الاجتماعية بوسائل سياسية. فنمتنع عن كل الجهود الرامية إلى تحسين الظروف عن طريق التشريع؛ ثم إننا نمتنع عن لعب أي دور في النظام المدني للمجتمع. وربما نبدو وكأننا نسحب ونعزل أنفسنا، وندير ظهورنا للمجتمع. لكن هذا غير صحيح. لأننا في الحقيقة نبني حياة متحرّرة من أي ارتباط مع الكنائس الرسمية التقليدية التي تعزل نفسها عن العالم وآلامه وتحاول الاستقلال بذاتها. فنحن نريد أن نحرّر أنفسنا من كل هذه الأمور ما دام الله ينعم علينا بالنعمة لتمكِّننا من القيام بذلك، وكذلك نريد أن نتبع المسيح وذلك بالعيش كما عاشت الكنيسة الأولى في أورشليم. وتعني حياة كهذه أنّ واقعا جديدا جدا عليه أن يقرر كل شيء في الشؤون الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، وهو واقع جديد قائم على الوحدة بين الناس والاتفاق بالإجماع الذي يهبه الروح القدس.
وأُعطيهِم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا في أحشائِهِم، وأنزِعُ مِنهُم قلبَ الحجرِ وأُعطيهِم قلبًا مِنْ لَحمِ. فيَسلكون في فرائِضي ويحفظون أحكامي ويعمَلوا بِها، فيكونونَ لي شعبًا وأكونُ لهُم إلهًا. (حزقيال 11: 19-20)
هذه هي المعركة التي وُضِعت فيها الكنيسة المقدسة التي تعيش حياة أخوية مشتركة. فقد ظلّ الرسل يشيرون لنا دائما إلى الحقيقة من أننا سننال نصيبنا من الاستشهاد ومن صليب المسيح، لأن روح العصر الذي نعيش فيه لا يتحمّل روح المستقبل الذي سيملك فيه المسيح والمتجسِّد بيننا الآن.
إنْ أبغَضَكُمُ العالَمُ، فتَذكَّروا أنَّهُ أبغَضَني قَبلَ أنْ يُبغِضَكُم. لَو كُنتُم مِنَ العالَمِ، لأحبَّكُمُ العالَمُ كأهلِهِ. ولأنِّي اَختَرْتُكم مِنْ هذا العالَمِ وما أنتُم مِنهُ، لذلِكَ أبغَضَكُمُ العالَمُ. تَذكَّروا ما قُلتُهُ لكُم: ما كانَ خادِمٌ أعظَمَ مِنْ سيِّدِهِ. فإذا اَضطَهَدوني يَضطَهِدونَكُم، وإذا سَمِعوا كلامي يَسمَعونَ كلامَكُم. هُم يَفعَلونَ بكُم هذا كُلَّهُ مِنْ أجلِ اَسمي، لأنَّهُم لا يَعرِفونَ الّذي أرسَلَني. لَولا أنِّي جِئْتُ وكَلَّمْتُهُم، لما كانَت علَيهِم خَطيئةٌ. أمَّا الآنَ، فلا عُذْرَ لهُم مِنْ خَطيئَتِهِم. مَنْ أبغَضَني أبغَضَ أبـي. لَولا أنِّي عَمِلتُ بَينَهُم أعمالاً ما عَمِلَ مِثلَها أحدٌ، لما كانَت لهُم خَطيئَةٌ. لكِنَّهُمُ الآنَ رَأوا، ومعَ ذلِكَ أبغَضوني وأبغَضوا أبـي. وكانَ هذا ليَتِمَّ ما جاءَ في شَريعَتِهِم: أبغَضوني بِلا سَبَبٍ. (يوحنا 15: 18-25)
إلا أنّ روح العصر يتحمّل ويسعد لمحاولاتنا لتمثيل شيئا من روح المستقبل المقدس وفي الوقت نفسه نساير أولئك الذين هم على استعداد تام لتقديم بعض التنازلات. فهذا النوع من الخليط هو من أكثر الأشياء المرغوبة لروح العصر. وتفضّل حتى الدول الوثنية خليطا مع الروح المسيحية؛ وتريد كذلك أكبر الشركات الرأسمالية أن يكون لها شيء من الروح المسيحية، ثم إنّ المشاريع المُدلِّسة والغشاشة بشتى أنواعها ترغب في التحلّي بقشرة مسيحية، أيْ بمعنى قشرة من الحقيقة. وحتى الذين يقصدون الحروب يريدون أن يُظهِروا شيئا من المحبة المسيحية. فهذا الخليط عزيز عليهم جميعا.
من المفارقات أنّ الحكومة التي يُرادُ بها قمع الشرّ، تستخدم العنف بحكم طبيعتها وتقترف هي الأخرى الشرّ، وبالتالي فهي وحش صاعد من الهاوية.
وما إنْ يُتِمّا شَهادَتَهُما حتّى يَجيءَ الوَحشُ الصّاعِدُ مِنَ الهاوِيَةِ ويُصارِعَهُما ويَغلِبَهُما ويَقتُلَهُما. (رؤيا 11: 7)
وإذا جاز لي أن أقول شيئا جريئا جدا، فأود وضعه بهذا الأسلوب: إنّ الله يبقي جحيم الجرائم البشرية تحت سيطرته بآلة جهنمية، ألا وهي الدولة.
ولكن يمكن لقائل أن يقول: "أنا ذاهب لتشغيل هذا الجهاز وجعله أقل جهنمية؛ وأنا أريد أن أُعَدِّل من الخصائص الشيطانية للجحيم، لذلك سأخدم الدولة." إنّ قرارا كهذا علينا اِحترامه. حسنا؛ فليفعل كل من شاء ذلك، وسأصلي من اجل هذه المبادرة لعلها تساعد قليلا. أما أنا فأرفض ركوب آلات الجحيم. سأركب على متن السفينة التي تبيّن للبشرية كلها الطريق إلى الشاطئ الآخر، الذي لم يُكتَشف بعد. إنه ملكوت السلام والعدل والمحبة الكاملة.
هناك حاجة إلى أشخاص يتجرؤون على قيادة السفينة وتحديد مسارها باتجاه الشاطئ الآخر، ويتجرؤون على اكتشافه، ويتجرؤون على العيش وفقا لأساليب الحياة في البلد على الجانب الآخر. ولكننا ومن هذه السفينة نود أن نبقى على اِتصال دائم بجميع الناس الآخرين. فلدينا رسالة لهم، وبهذا سنستمر في تحمّل مسؤوليتنا تجاه مصير الجنس البشري. ونؤمن أننا بهذا الطريق سنقدم أفضل خدمة للعالم في هذه الساعات المروِّعة للتاريخ.
فنَحنُ سُفراءُ المَسيحِ، وكأنَّ اللهَ نَفسَهُ يَعِظُ بألسِنَتِنا. فنُناشِدُكُم باسمِ المَسيحِ أنْ تَتصالَحوا معَ اللهِ، (2 كورنثوس 5: 20)
إنّ الثورة المسيحية هي ثورة تدعو إلى الوحدة على كافة الأصعدة، الداخلية والخارجية أيْ الروحية والجسدية. فهناك حاجة إلى مثل هذه الثورة لتحقيق التحرّر والمساواة المنشودتين تحقيقا فائضا وثريّا وأيضا لانتشال الحياة بكامل أبعادها من عالم الماديّات ومن الاكتساب والتحصيل البشري. غير أنّ هذه الانتفاضة التي تنشلنا كلنا من حضيض التراب إلى رياض الأخوية، لا تأتي أبدا من الناس بل من الله وحده. وإرادة الله للبشر هي إقامة وحدة تملأُها المحبة والوقار المقدس. هذا وأنّ رغبة الإنسان التي تتصف بالتخريب والخداع لا يقدر أيّ شيء على تحويلها إلى قوة خيّرة إلا إرادة الله المقدسة، فتتحوّل آنذاك إلى رغبة جديدة مليئة بقوة المحبة.
غالبا ما نتذكر أقوال القسيس الألماني يوهان كريستوف بلومهارت Johann Christoph Blumhardt وابنه القسيسكريستوف فريدريش بلومهارت Christoph Friedrich Blumhardt، التي كان مفادها أنّ الله ينتظر أماكن ليتمكن من اقتحامها. فعلى كل فرد أن يفتح نافذته أو نافذتها للسماح بدخول نور الله إليه أو إليها، وينطبق الشيء نفسه على الشعوب. وقال كل من بلومهارت الأب وبلومهارت الابن أنّ المشكلة تكمن غالبا في أنّ الناس لا يفسحون المجال لله ليعمل فيهم، وبسبب تشبثهم بإرادتهم الذاتية وغرورهم فهم يضعون أعمالهم في محل أعمال الله. فلو كان هناك مكانا واحدا فقط يكون الناس فيه متحدين كليا في انتظارهم لله - وليس لسواه - لكي يعمل، فسيتدخل الله في تاريخ الشعوب والجنس البشري...
أنّ الكنيسة المقدسة مدعوة للتأثير في الله - نعم، في الله نفسه - لكي يعمل ويتحرك. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أننا نريد بذلك أن نقول أنّ الله لن يعمل أو لا يمكنه العمل ما لم نسأله أمرا. لكن الله ينتظر منا أن نكون على استعداد للإيمان به، وأن تلتهب صدورنا بتوقع تدخّله في حياتنا. لأن إرادته الثابتة هي العمل بين الناس، لكنه لا يعمل إلا إذا كانوا مؤمنين به، وعلى استعداد ليسألوه أن يعمل، ويقبلوا من كل قلوبهم كل ما سيفعله مهما كان ويستجيبوا له بحياتهم اليومية.
فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرارَ تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأَبنائِكُم، فكَمْ يُحسِنُ أبوكُمُ السَّماويُّ العَطاءَ للَّذينَ يَسألونَهُ؟ (متى 7: 11)
إنّ ما نسأل الله في صلاتنا وتضرعنا هو أن ينعم علينا بذلك العمل الذي لا نكون نحن البشر مصدره، وعمل ليس من جهودنا، وحقيقة لا يسعنا خلقها. وما نلتمسه في الصلاة هو أن يحدث شيء لا يمكن حدوثه أبدا بفضلنا، وشيء يحصل - أخيرا وبعد انتظار - لا يمكننا نحن أن نجعله يحصل أبدا. فصلاتنا هي من أجل إعداد أمر لا يمكننا نحن إعداده أبدا، ومن أجل صنع تاريخ لا يمكننا نحن البشر صنعه أبدا، ومن أجل دينونة (ووخز ضمير) لا يمكننا نحن استدعائها أبدا.
فيجب أن يكون قصد صلواتنا هو لكل ما كان يريده الله دائما. فاهتمام الله الوحيد هو انتظارنا لنصبح مستعدين له. وهذا الاستعداد بحدّ ذاته هو صلاة حقيقية. وسيأتي الله إلينا ويقيم عندنا كاستجابة لصلاتنا الحقيقية.
لذلك سيحلّ علينا الروح القدس في الصلاة، وفي اجتماعات العبادة. إلا أنّ الفرد في الجماعة هو ليس الوحيد الذي ينسى حاله أو حالها الشخصي ليدع الله يعمل من خلاله فحسب بل حتى الأخوية كلها كجماعة تتعدى سلطتها البشرية المحدودة إذا سمحت لله أن يعمل فيها. إنّ روح المستقبل الإلهي يحلّ علينا ويَهْدينا إلى مستقبل الكون كله (الفردوس). لأن الروح الذي نسأله لينزل ويحلّ علينا لا يسعى إلى مسك كياننا والاستيلاء على قلوبنا فحسب بل أيضا إلى مسك العالم برمته والاستيلاء على قلوب جميع الخلق. ولهذا السبب نسأله أن يأتي ويهزّ العالم كله في هذه اللحظة بالذات. ونؤمن أنّ اجتماعاتنا المخصصة للعبادة هي الساعات التاريخية من أجل العالم كله.
وهكذا نصلي نحن في اجتماعاتنا من أجل أن يكون لنا إيمانا واحدا يؤمن بأن الله سيتدخل في تاريخنا المعاصر، وبأنّ الله سيصنع تاريخا يقودنا إلى تاريخه النهائي.
وهذا ما صلّى من أجله المسيحيون الأوائل باِسم يسوع المسيح.
إنّ الدعوة للمضي في طريق الصليب الأليم، والدعوة للثورة وللدينونة التي تسبق الخليقة الجديدة، يجب أن يسمعها الناس مرة ثانية في يومنا الحاضر. وها نحن كلنا نسمعها في الكلمات النبوية ليسوع، حين قال (بما معناه): "توبوا وغيِّرُوا حياتكم من أساسها، لأن مُلك الله قريب." (اقرأ متى 4: 17)...
استندت ثورة الإيمان للمسيحيين الأوائل على اليقين بأنّ كل فرد وكل ما يتعلّق بالمجتمعات في العالم لا بل كل الغلاف الجوي المحيط بالأرض، سيتحرّر من هيمنة الشرّ: وسيتم الإطاحة بجميع القوى الاقتصادية والسياسية الحالية وسيؤسس الله حكمه.
أن تكون مستعدّا هو كل ما في الأمر! فلنكن مستعدين! وتوقعنا وترقبنا لدخول الله حياتنا هو استعدادنا الفعّال. وهذا يعني بسط ذراعينا للمسيح لكي نُصلب معه. ويعني الركوع له والاستعداد ليجعلنا متواضعين. ثم إنه يعني طرح جانبا كل ما نملك من سلطة بشرية على نفوسنا ليتسنى له وحده أن يحصل على سلطة علينا.
وفي هذه الأيام التي ينزل فيها غيظ الله ودينونته فإنّ أكثر ما مطلوب هو جعل قلب يسوع يتوهج في العالم والتاريخ. وهذا ما أُرسِلتْ من أجله الكنيسة المقدسة: ففي خضم تصاعد أمواج الذعر، وفي خضم البحور المسعورة للدماء المراقة، فمن الواجب على الكنيسة المقدسة أن تقذف بنفسها نحو الأمواج وتجلب راية المحبة لأولئك الذين يغرقون في دوامة السخط الخالي من المحبة.
فمن الضروري أن نكون مستعدين في سبيل هذه المهمة. لذلك، وفي غضون ذلك الوقت الذي نتضرّع فيه لله ليطلّ بيومه الأخير علينا، نسأله أن يبعثنا في إرساليات مختلفة. لا لكي يرسلنا إلى أولئك القلة من الناس الذين نلتقي بهم هنا في منطقتنا على هذا التلّ فحسب بل أيضا إلى جميع الخلق، ومن ضمنهم الأغنياء والمظلومين - وبالأخص المظلومين. لكن ليرسلنا كأنبياء إلى الأثرياء أيضا تماما مثلما ذهب مرة يوحنا المعمدان إلى هيرودس الملك وضحّى برأسه.
وكانَ هِيرودُسُ أمسَكَ يوحنَّا وقَيَّدَهُ في السِّجنِ، مِنْ أجلِ هِيرودِيَّةَ الّتي تَزوَّجَها وهيَ اَمرأةُ أخيهِ فيلبُّسَ. فكانَ يوحنَّا يقولُ لَه: ((لا يَحلُّ لكَ أنْ تأخُذَ اَمرأةَ أخيكَ)). وكانَت هيرودِيَّةُ ناقِمَةً علَيهِ تُريدُ قَتلَه فلا تَقدِرُ، لأنَّ هِيرودُسَ كانَ يَهابُهُ ويَحميه لعِلْمِهِ أنَّهُ رَجُلٌ صالِـحٌ قِدِّيسٌ. وكانَ يَسُرُّهُ أنْ يَستمِـعَ إليهِ، معَ أنَّهُ حارَ فيهِ كثيرًا. وسنَحَتِ الفُرصةُ لِهيرودِيَّةَ عِندَما أقامَ هِيرودُسُ في ذِكرى مَولِدِه وَليمَةً للنُّبَلاءِ وكِبارِ القادَةِ وأعيانِ الجَليلِ. فدخَلَتِ اَبنَةُ هيرودِيَّةَ ورَقَصَتْ، فأعجَبَت هِيرودُسَ والمَدعوِّينَ. فقالَ المَلِكُ لِلفَتاةِ: ((أُطلُبـي ما شِئتِ فأُعطيَكِ)). وحلَفَ لها يَمينًا مُشدَّدًا قالَ: ((أُعطيكِ كُلَّ ما تَطلُبـينَ، ولَو نِصفَ مَملكَتي!)) فخَرجَتِ الفَتاةُ وسألَت أُمَّها: ((ماذا أطلُبُ؟)) فأجابَتْها: ((رأسَ يوحنَّا المَعمدانِ!)) فأَسرَعَت إلى المَلِكِ وقالَت لَه: ((أُريدُ أن تُعطِيَني الآنَ على طَبَقٍ رأسَ يوحنَّا المَعمَدانِ!)) فحَزِنَ المَلِكُ كثيرًا، ولكِنَّهُ أرادَ أنْ لا يَرُدَّ طَلَبَها مِنْ أجلِ اليمينِ الّتي حلَفَها أمامَ المَدعوِّينَ. فأرسَلَ في الحالِ جُنديًّا وأمرَهُ بأنْ يَجيءَ برَأسِ يوحنَّا. فذهَبَ وقطَعَ رأسَهُ في السِّجنِ، وجاءَ بِه على طَبَقٍ وسلَّمَهُ إلى الفَتاةِ فحمَلَتْهُ إلى أُمِّها. وبلَغَ الخبَرُ تلاميذَ يوحنَّا، فجاؤُوا وأخَذوا جُثَّتَهُ ووضَعوها في قَبرٍ. (مرقس 6: 17-29)
لا يمكننا أن نطلب من الله أن يوافينا، أو أن يهبنا طريق المسيح لنتبعه، أو أن يرسل الروح القدس بفيضه لينزل علينا، ما لم نكن نحن من جانبنا على استعداد لكل شيء. ويتعين على جميعنا أن يتفق كليا على هذا الأمر. فالله لا يهبنا أيّ شيء إلَّا إذا كنا في وحدة فيما بيننا حول ما نسأله، لكن بعد ذلك سوف يستجيب لنا بالتأكيد.
هذا المقال مقتطف من كتاب "ثورة الله"