في كل مرة عندما كان المؤمنون يحصلون على الوحدة فيما بينهم خلال اجتماعاتهم، ولا سيما عند احتفالهم بالمعمودية، أو بالعشاء الرباني، أو «بالولائم الأخوية،» كانت قوة حضور المسيح غنية عن البيان وغير قابلة للجدل؛ فكانت الأجساد العليلة تُشفى، والشياطين تُطرد، والخطايا تُغفر. فصار الناس متيقنين من الحياة الجديدة والقيامة، لأنهم رأوا كيف تحرّروا من جميع ذنوبهم وأثقالهم الروحية ومن ضعفهم، وكيف انصرفوا عن آثام الماضي.
اجتماعات المعمودية والعشاء الرباني
أما الطبيعة المقدسة للمعمودية وللعشاء الرباني فلم تتطّلب في ذلك الوقت أيّ طقوس إكليروسيّة. فظاهريا، كانت المعمودية تُحتسب كالاغتسال البسيط أكثر من كونها طقس كنسي، والعشاء الرباني كان يُحتسب كوجبات طعام اعتيادية. فكانت تجري في تلك الأوقات والمناسبات تلاوة شهادة الإيمان المسيحي الرَّسُولي على مسامع الكنيسة المجتمعة، وقراءة الكتابات النبوية اليهودية، وأقوال الرب يسوع المسيح، والأناجيل. وكان الشهود الممتلئون من الروح القدس يحدّثون الجماعة بشهاداتهم وبقدرة الرب يسوع المسيح في تغيير حياتهم، وكان المؤمنون يدعون المسيح في الصلوات، وكانت العطايا تُقدَّم والترانيم تُرَنَّم تسبيحا لله والمسيح. وكان الله يستجيب لهم بمجيء المسيح إليهم وحلول روحه القدوس عليهم.
كانت العطايا المقدمة تمثِّل امتنان وشكر وتكريس مجتمع الكنيسة. فكانت باكورة حصاد جميع أنواع المحاصيل الزراعية، وكل دخل وإيراد، كثُر أو قلّ، يجري التبرّع به، حتى من قِبَل الذين كانوا يقاسون الحرمان، وذلك من أجل الجود والعطاء. وكان المسؤول عن اجتماع الجماعة يتسلم هذه العطايا، من ثمار وطيور وزهور وعناقيد عنب وخمر وخبز، التي كان يأتي بها كل فرد من أفراد الجماعة إلى المائدة. عندئذ، كانوا يغسلون أياديهم.
أما العناصر الاحتفالية للعشاء الرباني فكانت تُفصل عن بقية الأطعمة: فكانت توضع أرغفة الخبز في ثلاثة أو خمسة صفوف على المائدة، ويُصب الخمر في الكأس. وأحيانا كانت تُمْزَجُ بالماء. وكان الطعام الذي يستمتعون بتناوله في المآدب المشتركة يُعتبر بمثابة تقدمة شكر منظورة. وكانت تلك اللقاءات الأخوية المصحوبة بالصلوات المرفوعة من قلوب متفانية تتكلّل تكلّلا مهيبا ووقورا بالاحتفال بالعشاء الرباني بمقاسمة الخبز والخمر. وكان المؤمنون أثناء مآدبهم المشتركة يتقاسمون تناول كل ما موجود من أطعمة، شاكرين ومسبحين الله على كل ما أكلوه.
فبهذا الأسلوب ارتبطت الولائم الأخوية في البداية والأصل بالعشاء الرباني للخبز والخمر. وهذه الوليمة التي كانت تسمى «وليمة الشكر» أو «وليمة التقدمات»، التي كانت تستخدم فيها العطايا مباشرة لإطعام الفقراء وأنبياء الكنيسة ورسلها، ليس لها مقابل في أيّ ديانة أخرى. لقد قال إيريناؤس Irenaeus، في تعاليمه إنّ هذه التقدمات – تقدمات الشكر لله – هي الذبائح الحقيقية والصحيحة الوحيدة. أما سِلسُس Celsus، المعادي للمسيحيين، فاستغرب وأنتقد المسيحيين على تقديمهم وتناولهم باكورات الحصاد وثمار الأشجار والخبز والخمر في مآدبهم، في حين كانوا يرفضون الذبائح والقرابين الدموية الوثنية مُعتبِرينها ذبائح شيطانية. لقد كان الوثنيون واليهود يحرقون ذبائحهم لتكريم الله؛ أما المسيحيون فاستخدموها لإطعام الفقراء. فكان الطعام المقدَّم في مآدبهم الأخوية المشتركة يُرْسَل حتى إلى أولئك الغائبين بسبب المرض أو السجن.
محبة الله معناها الوحدة
يعمل روح المسيح في نفوس المؤمنين على ترجمة محبة الله إلى خدمة عملية للآخرين. وكل من يخدم الفقراء والمعوزين والمعدمين فإنما هو يخدم المسيح ذاته، لأن الله قريب من هؤلاء المتألمين. ثم إنّ محبة الله لنا معناها أن نحب الله وأخانا الإنسان: إذ تصبح علاقتنا مع الله علاقة بعضنا مع بعض. أما توقع مجيء ملكوت الله في أيّ لحظة، فيلعب دورا كبيرا في صياغة شكل الحياة والخدمة في الكنيسة، ويوحِّد المؤمنين في إرادة مشتركة واحدة، ويخلق حياة أخوية. فالحياة المسيحية المشتركة والتفاني المشترك ما هما إلّا نتائج إيجابية تثمر بفضل معارضة مجتمع الكنيسة لروحية عصرنا الحالي الذي تعمّه التجزئة والخلافات.
إنّ مثل هذا الاتحاد لجماعة المؤمنين بفضل الروح القدس، لا يحتاج إلى أيّ نماذج موضوعة مسبقا، أو إلى تحديد صيغ حياتية معينة عن الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها شكل حياة الجماعة. ونرى أنه حتى في الفترة الأولية للكنيسة الأولى، كان شيوخ الكنيسة وشمامستها الذين تحتاجهم كل جماعة من جماعات المؤمنين، يحتفظون بالمهام التي أسندت إليهم سابقا من قبل الكنيسة، ولكنهم كانوا أيضا ينالون مواهب النعمة الإلهية الموهوبة لهم من الروح القدس.
ورغم أن رحلات السفر الشاقة التي قام بها الرُّسُل وأنبياء الكنيسة بلا كلل أو ملل، ساعدت على تقوية الوحدة بين جماعات المؤمنين، إلّا أن وعيهم بأنهم جميعا كانوا واحدا، لم يصنعه إلّا الله الواحد، والرب الواحد، والروح القدس الواحد، والإيمان الواحد، والمعمودية الواحدة، والكنيسة الواحدة، والنفس الواحدة، حيث كان هذا الوعي موهوبا للجميع على حد سواء.
لذلك، وبفضل عمل الروح القدس، أثمرت هذه الوحدانية المبيّنة أعلاه إلى مساواة كان أساسها الله وحده. فمثلما أن ظاهرة قطيعة الإنسان مع الله ظاهرة مشتركة لدى جميع الناس قبل إيمانهم، نرى أن شيئا مماثلا يحصل، ولكن معاكس له، عندما ينعم الروح القدس بنعمته الإلهية إنعاما متساويا وكاملا على جميع المؤمنين. فإنّ الذين يملك الله على قلوبهم سينظرون إلى ظاهرة عدم المساواة بأنها دافع يحثهم على أن يصبحوا إخوة وأخوات في محبة كاملة ومساواة كاملة.
الفقر سمة المسيحيين الأوائل
كانت علاقات المسيحيين الأوائل «كإخوة» وَ «أخوات» لأنهم كانوا مُتَّحدين بفضل الروح القدس الواحد. لقد كانوا «منذورين للرب» وَ «قديسين» وَ «مختارين» وَ «مؤمنين» كما جاء في كتابات المسيحيين الأوائل. ثم إنّ إحساسهم المشترك بفقرهم الروحي وبالذنب جعلهم كلهم «فقراء.» ومن الجدير بالذكر أن المسيحيين الأوائل في السنوات المبكرة للكنيسة كان يُطلق عليهم تسمية «فقراء،» لأن الناس (من غير المسيحيين) كانوا يرون طبيعة إيمان المسيحيين بالله وموقفهم إزاء الأمور المادية الدنيوية بأنهما فقر.
ولمَّا أدرك المسيحيون الأوائل مساواتهم في الفقر وفي النعمة، صارت رسالتهم بسيطة. لقد بلغت رسالتهم إلى أكثر المجرمين انحرافا، وأقلّ العمال أو العبيد ثقافة وتعليما، ووَهَبتْ لهم شفاء روحيا كاملا. كما عملتْ حتى على تنوير أذهان أعمق المفكرين، فنالوا وضوحا تاما. إذ إنّ كشف أسرار الله موهبة إلهية توهب من الله، وتمنح وضوحا بسيطا خاليا من التعقيد. أما يسوع المسيح فهو كاشف الله. وعندما يكشف يسوع المسيح النقاب عن طبيعة الله، يصبح طبيب كلٍّ من المرضى والخطأة على حد سواء.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «شهادة الكنيسة الأولى»