وقالَ اللهُ: «لِنَصنَعِ الإنسان على صُورَتِنا كَمِثالِنا، وليَتَسَلَّطْ على سمَكِ البحرِ وطَيرِ السَّماءِ والبهائمِ وجميعِ وُحوشِ الأرض وكُلِّ ما يَدِبُّ على الأرض.» فخلَقَ اللهُ الإنسان على صورَتِه، على صورةِ اللهِ خلَقَ البشَرَ، ذَكَرًا وأُنثى خلَقَهُم. وبارَكَهُمُ اللهُ، فقالَ لهُم: «أُنْمُوا واَكْثُروا واَمْلأوا الأرض، وأَخضِعوها وتَسلَّطوا على سمَكِ البحرِ وطَيرِ السَّماءِ وجميعِ الحيوانِ الذي يَدِبُّ على الأرض.»
في الفصل الافتتاحي لقصة الخليقة، نقرأ أن الله خلق البشر – الذكور والإناث – على صورته، وباركهم وأمرهم بأن يثمروا ويعتنوا بالأرض. وقد أظهر الله نفسه منذ البداية أنه الخالق الذي رأى أن كل ما صنعه: «حَسَنٌ جدُا» (تكوين 1: 31). فنرى هنا أن الله، ومن أول بداية الكتاب المقدس، يكشف لنا قلبه. فلذلك نكتشف هنا قصد الله لحياتنا.
وإن الكثير من المسيحيين في هذا القرن، إن لم يكن معظمهم، يصرفون النظر عن قصة الخلق لأنهم يعتبرونها مجرد خرافة. في حين يصر آخرون على أن أدقّ تفسير حرفي لسفر التكوين هو وحده التفسير الصحيح. أما أنا فأكنّ التوقير للكتاب المقدس كما هو عليه. فمن جهة لا أنوي استبعاد الجدل في أي شيء فيه، ومن جهة أخرى، أعتقد بأن العلماء على حق في تحذيرهم من أن الكتاب المقدس يجب أن لا يؤخذ حرفيا. وكما يقول الرسول بطرس:
أنَّ يومًا واحدًا عِندَ الرَّبِّ كألفِ سنَةٍ، وأنَّ ألفَ سنَةٍ كيَومٍ واحدٍ. (2 بطرس 3: 8)
صورة الله تميزنا
إن الكيفية التفصيلية التي تم فيها خلق الكائنات البشرية تبقى سرّا خفيا علينا نحن البشر ولا يكشف عنها سوى الخالق. غير أني على يقين من شيء واحد وهو أنه لا يمكن لأي شخص أن يجد أي معنى أو هدف في حياته من دون الله. فبدلا من أن نرفض قصة الخلق لمجرد أننا لا نفهمها، فيجب علينا من باب أولى إيجاد معناها الروحي الحقيقي، وإعادة اكتشاف مغزاها لنا ليومنا الحاضر.
وفي عصرنا الفاسد ضاع التوقير لقصد الله المبين في سفر التكوين ضياعا كاملا. فنحن لا نقدّم إلى الخليقة ما تستحقه من تقدير؛ تلك الخليقة التي تتضمن المغزى في أن الرجل والمرأة خلقا على صورة الله كشبهه. فهذه المشابهة تميزنا بصفة خاصة عن سائر المخلوقات وتجعل حياة الإنسان مقدسة:
مَنْ سَفَكَ دَمَ الإنسان يَسفُكُ الإنسان دَمَهُ. فعلى صُورةِ اللهِ صَنَعَ اللهُ الإنسانَ. (تكوين 9: 6)
أما النظر إلى الحياة بطريقة تختلف عن ذلك، كتقييم الناس بحسب فائدتهم فقط وليس بحسب ما يراهم الله، فهذا معناه احتقار لقيمتهم كبشر وإهمال لكرامتهم.
ما المقصود من أن الله خلقنا على صورته؟ إن المقصود من ذلك هو أن نكون نحن البشر صورة حيّة تعبّر عن من هو الله. ومعناه أن نكون معاونين له، فهو الذي يواصل عمله في الخلق وتنمية الحياة من خلالنا. ومعناه أيضا أننا ننتمي إلى الله، فيجب على كياننا ووجودنا أن يبقيا دائما متعلقين به ومرتبطين بسلطانه. وفي اللحظة التي نفصل فيها أنفسنا عن الله، نفقد القدرة على رؤية هدف وجودنا على الأرض.
وعندما نقرأ في سفر التكوين نرى أننا حصلنا على روح من الروح الحيّة لله:
وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأرض وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً. (تكوين 2: 7)
وبإعطائنا روحه جعلنا الله كائنات مسؤولة تملك الحرية للتفكير والعمل، وتؤديها بمحبة.
لكن حتى لو كنا نملك روحا حيّة، فنحن لسنا سوى صورة للخالق. ولو رأينا أن الله مركز الخليقة ومحورها وليس البشر، لأدركنا نحن البشر مكاننا الحقيقي والصحيح في ترتيبه الإلهي للأمور. أما الذي ينكر أن أصله من الله، والذي ينكر أن الله واقع حيّ في حياته، فتراه سرعان ما يضيع في فراغ رهيب. وفي النهاية يجد نفسه واقعا في فخ تأليه الذات، الأمر الذي يجلب معه احتقارا لذاته واحتقارا لقيمة الآخرين.
كلنا يشتاق إلى ما لا يُفنى
ماذا كان مصيرنا لو لم ينفخ الله فينا نسمة حياة؟ إن نظرية التطور برمتها التي نادى بها العالم داروين، هي في حد ذاتها خطيرة وعقيمة لأنها لا تتمركز حول الله. وهناك شيء في داخلنا يصرخ ويحتج ضد الفكرة القائلة بأننا جئنا إلى الوجود بواسطة كون لا هدف له. ففي أعماق نفس الإنسان عطش لما هو دائم ولما هو خالد وغير فانٍ.
ولما كنا قد خُلِقنا على صورة الله، والله أبديّ، فلا يمكن أن نتلاشى، في نهاية الحياة، كالدخان. فحياتنا متأصِّلة بالأبدية. ويقول القسيس الألماني كريستوف بلومهارت Christoph Blumhardt: «إن حياتنا تحمل علامة الأبدية، أي بمعنى علامة الله الأبدي الذي خلقنا على صورته، ولا يريدنا أن نُبتَلع إلى زوال، بل يدعونا إليه، إلى ما هو أبدي.»
لقد غرس الله الأبدية في قلوبنا: «إِذْ صَنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً فِي حِينِهِ وَغَرَسَ الأَبَدِيَّةَ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ،» (جامعة 3: 11) وفي أعماق كل منّا اشتياق جارف إلى الأبدية، أي بمعنى اشتياق إلى حياة الآخرة مع الله في ملكوته. وعندما نتنكر لهذه الحقيقة ولا نعيش سوى من أجل الحاضر، فإن كل ما يحدث لنا في الحياة يظل غامضا ومغلّفا بألغاز محيرة، ويبقى كياننا الداخلي غير مقتنع وغير راضٍ على حالنا. فلا يوجد أي شخص أو أي تنظيم بشري قادر على أن يُشبِع اشتياق أرواحنا.
يتحدث صوت الأبدية إلى ضمائرنا بطريقة مباشرة جدا، لذلك يمكن اعتبار الضمير العنصر الغيور في داخلنا؛ فهو يحذرنا ويوقظنا وينهض بنا ويقودنا إلى العمل الذي يوصينا به الله، كما مكتوب في الكتاب المقدس:
فغَير اليَهودِ مِنَ الأُمَمِ، الّذينَ بلا شريعةٍ، إذا عَمِلوا بالفِطرةِ ما تأْمُرُ بِه الشَّريعةُ، كانوا شريعةً لأنفُسِهِم، معَ أنَّهُم بِلا شَريعةٍ. فيُثبِتونَ أنَّ ما تأمُرُ بِه الشَّريعةُ مكتوبٌ في قُلوبِهِم وتَشهَدُ لهُم ضمائِرُهُم وأفكارُهُم، فهيَ مرَّةً تَتَّهِمُهُم ومرَّةً تُدافِعُ عَنهُم. وسيَظهَرُ هذا كُلُّهُ، كما أُبشِّرُكُم بِه، يومَ يَدينُ اللهُ بِالمَسيحِ يَسوعَ خفايا القُلوبِ. (رومة 2: 14–16)
وفي كل مرة تنجرح النفس وتتلوث بالخطيئة ينبهنا ضميرنا بهذا الجرح بتوجُّع أليم. وإن كنا نصغي إلى ضميرنا فإنه سيرشدنا وسيقودنا في الطريق الصحيح. أما عندما ننفصل عن الله، فيضطرب ضميرنا ويترنح ويضلّ وينحرف ويخدر. ولا تنطبق هذه الحقيقة على الفرد فحسب بل على الزواج أيضا.
فابتداء من الإصحاح الثاني من سفر التكوين تتبين لنا أهمية الزواج. فعندما خلق الله آدم، قال الله بأن كل ما صنعه «حَسَنٌ جدُا.» ثم خلق المرأة لتكون مُعينا ورفيقا للرجل، لأنه رأى أنه «لا يَحسُنُ أنْ يكونَ آدمُ وحدَهُ، فأَصنعُ لَه مَثيلاً يُعينُه.» (تكوين 2: 18) فهذا سرّ ذو معنى عميق: فالرجل والمرأة – أي بمعنى الرجولة والأنوثة – ينتمي أحدهما إلى الآخر ويشكلان صورة تعكس شخصية الله، فيمكن إيجاد سمات كل من الرجولة والأنوثة فيه. فلذلك يكوّنان معا شيئا لا يمكن أن يصبح لا منفصلا ولا وحيدا.
إن كل شيء خلقه الله، يعطينا فكرة عن طبيعة الله – مثل الجبال الشاهقة والمحيطات الواسعة والأنهار والمساحات الكبيرة من المياه؛ والعواصف والرعد والبرق والكتل الجليدية الهائلة والصحاري والمروج والأزهار والأشجار. فهناك قوة وخشونة ورجولة، لكن هناك أيضا رِقَّة وأمومة ورهافة حسّ. ومثلما أن مختلف أشكال الحياة في الطبيعة لا يوجد بعضها بمعزل عن بعض، فهكذا الأمر أيضا مع أولاد الله – ذكور وإناث – فلا يعيشون فرادى بعضهم بمعزل عن بعض. فبالرغم من اختلافهم إلا أنهم كلهم مخلوقون على صورة الله، ويحتاج بعضهم إلى بعض ليحققوا مقاصد الله الحقيقية لهم.
عندما تتشوه صورة الله تفقد علاقات الحياة هدفها
في الكثير من مجتمعات عصرنا اليوم، نرى أن الفروق بين الرجل والمرأة غير واضحة ومشوهة، وهذه بحد ذاتها ظاهرة مأساوية. فصورة الله الطبيعية والشريفة تتعرض للتدمير. وهناك كلام لا ينتهي عن تحقيق المساواة للمرأة، غير أنهنّ يتعرضنّ في الواقع لسوء المعاملة والاستغلال بشكل غير مسبوق. وفي الأفلام والتلفزيون والمجلات والإعلانات والإنترنت فإن المرأة المثالية (وتدريجيا الرجل المثالي أيضا) لا يُنظر إليها سوى كمادة للجنس.
وعموما، فلم يعد يُنظر إلى الزواج نظرة مقدسة في مجتمعات عصرنا الحاضر. هذا وقد تزايد عدد الذين ينظرون إلى الزواج بأنه مجرد تجربة أو أنه مجرد عقد بين اثنين من الناس، ويقيسون كل شيء فيه وفقا لما ترتئيه اهتماماتهم الخاصة. وعندما تفشل العلاقات الزوجية فهناك دائما حرية اختيار الطلاق دون أن ينطوي ذلك على ذنب أو عيب، ويلي ذلك محاولة جديدة للزواج من شريك آخر. وكثير من الناس لم يعد يهمهم تقديم وعود بالوفاء والإخلاص، فهم يعيشون معا عيشة المعاشرة لا غير. أما النساء اللواتي يحملن ويلدن ويربين الأطفال أو يستمرِرنَ في الزواج من الزوج نفسه فقد أصبحن في أحيان كثيرة موضع احتقار. وكثيرا ما يُنظر إليهن وكأنهن ضحايا الظلم التي تحتاج إلى «الإنقاذ» من هيمنة الجنس الخشن حتى لو كان زواجهن زواجا سليما وناجحا.
أما الأطفال فلم يعد هناك تثمين لهم ككنوز عزيزة وغالية على القلوب. ففي كتاب سفر التكوين يأمر الله: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا» ولكن في يومنا هذا نرى أن الكثيرين يتجنبون ما يسمونه «عبء» الأطفال، ذلك النسل غير المرغوب فيه، وذلك باللجوء إلى الإجهاض الذي صار مُشرَّعا في عدد متزايد من دول. وصار يُنظَر إلى الأطفال بأنهم مصدر إزعاج وبأن مجيئهم إلى العالم يكلف الكثير، بما في ذلك تربيتهم وتعليمهم ولاسيما تعليما عاليا. فصاروا في نظر الناس يشكلون نزيفا اقتصاديا في حياتنا المادية، حتى أنهم ينظرون إلى تقديم المحبة والحنان إلى الأولاد بأنها تستنزف الكثير من الوقت.
فهل من المستغرب أن الكثيرين في عصرنا هذا قد فقدوا الأمل؟ وأن العديد من الناس قد تخلوا أيضا عن إمكانية الحب الوفي المؤبد؟ فقد فقدت الحياة قيمتها؛ وأصبحت رخيصة؛ ولم يعد يراها معظم الناس كهبة إلهية. والتقدم في الهندسة الطبية البيولوجية وفي تقنيات تصوير الجنين على الشاشات، مَكَّنت أعدادا متزايدة من الأزواج من أن يختاروا الإجهاض لأسباب أنانية. وهكذا فالحياة بدون الله باطلة بشكل غير معقول، وليس هناك غير الظلمة وغير الجروح البليغة من جراء الانفصال عنه.
وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها العديد من الأفراد المتفانين، إلا أن الكنيسة في يومنا هذا وفي بلدان كثيرة قد فشلت فشلا ذريعا في مواجهة وضع الانحلال هذا. فكم يجدر بكل فرد منّا أن يعود إلى البداية ليسأل نفسه مرة أخرى: لماذا خلق الله الرجل والمرأة بالأساس؟ والجواب على ذلك هو أن الله خلق كل إنسان على صورته، وحدد عملا ودورا خاصا متميزا لكل رجل وامرأة وطفل على وجه الأرض، وهو عمل يتوقع منا الله إنجازه. فلا يجوز لأي شخص أن يتجاهل قصد الله لخليقته وله شخصيا وإلا فسوف يعاني معاناة روحية بليغة ويدفع ثمنا باهظا، كما يخبرنا الكتاب المقدس:
ها هُوَ الشِّرِّيرُ يَحْمِلُ الشَّرَّ. يَحبَلُ بِأعمالِ الأذَى، وَيَلِدُ الخِداعَ. قَدْ يَحْفِرُ إنسانٌ حُفرَةً وَيُغَطِّيها لِتَكُونَ فَخّاً. فَيَقَعُ هُوَ فِيها. يَهوِي عَلَى رَأْسِهِ الفَخُّ الَّذِي صَنَعَهُ. وَعَلَى جُمجُمَتِهِ يَقَعُ عُنْفُهُ وَظُلْمُهُ. (مزامير 7: 14–16)
إن الماديّة التي تسود عصرنا، قد أفرغت الحياة من كل هدف أخلاقي وروحي. وهي تفصلنا بعضنا عن بعض، وتعيقنا عن رؤية العالم بإجلال وتعجُّب وعن رؤية مهمتنا الحقيقية. وقد تمرّضت نفوسنا وأرواحنا من جراء حمى الاستهلاك التجاري التي قد أصبنا بها، فأخذ هذا المرض يحدث تآكلا فادحا في ضمائرنا، حتى أن الضمير نفسه لم يعد قادرا على التمييز بين الخير والشر. ومع ذلك فلا تزال في داخل كل منا احتياج روحي عميق الجذور يجعلنا نشتاق إلى البِرّ والفضيلة والحياة المستقيمة.
ولن نحصل على شفاء الروح إلا عندما نؤمن إيمانا راسخا بأن الله هو خالقنا وبأنه هو واهب الحياة والحب والرحمة. وهذا ما نقرأه في الإنجيل:
هكذا أحبَّ اللهُ العالَمَ حتّى وهَبَ اَبنَهُ الأوحَدَ، فَلا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بل تكونُ لَه الحياةُ الأبدِيَّةُ. واللهُ أرسَلَ اَبنَهُ إلى العالَمِ لا ليدينَ العالَمَ، بل ليُخلِّصَ بِه العالَمَ. (يوحنا 3: 16–17)
ثم إن صورة الخالق تظهر في ابن الله – يسوع المسيح – بأقصى درجات وضوحها وبشكلها النهائي، مثلما يشهد الإنجيل للمسيح:
هوَ صُورَةُ اللهِ الّذي لا يُرى وبِكْرُ الخَلائِقِ كُلِّها. (كولوسي 1: 15)
وباعتبار يسوع المسيح صورة الله الكاملة والطريق الوحيد للآب، فهو يقدم لنا الحياة السليمة والوحدة والوئام والفرح ورضا النفس. ولا يمكننا أن نتذوق حقّه الإلهي وخيره علينا إلاّ عندما نعيش حياتنا في ظلّه، ولا يمكننا أن نحصل على ما مُقدّر لنا إلاّ فيه. وما مُقدّر لنا هو أن نصبح صورة الله؛ إذ سوف تسود صورة الله على الأرض بروحه القدوس، الذي هو روح المحبة الخلاَّق، المعطي للحياة.
هذا المقال مقتطف من كتاب «دعوة الى حياة العفة والنقاوة»