ولِذلِكَ يترُكُ الرَّجلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ باَمرأتِهِ، فيصيرانِ جسَدًا واحدًا.
تكوين 2: 24
الزواج مقدس. وفي العهد القديم (أي قبل زمن السيد المسيح) يستخدم الأنبياء الزواج لوصف علاقة الله مع شعبه إسرائيل، مثلما مكتوب في الكتاب المقدس كالآتي:
وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إلى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ. أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ. (هوشع 2: 19–20)
هنا يكشف الله محبته لجميع الناس بأسلوب متميز متمثِّل بالرباط الفريد بين الزوج وزوجته.
الزواج هو أكثر من مجرد العيش معا في سعادة
في العهد الجديد (أي في زمن السيد المسيح وما بعده)، يُستخدم الزواج كرمز للوحدة بين السيد المسيح وكنيسته المقدسة. وفي بشارة يوحنا في الإنجيل يجري تشبيه السيد المسيح بالعريس، وفي سفر الرؤيا نقرأ أن: «عُرسَ الحَمَلِ جاءَ وَقتُهُ، وتَزَيَّنَت عَروسُهُ.» (رؤيا 19: 7)
أما أعجوبة تحويل الماء إلى خمر من قِبل يسوع المسيح في عرس قانا الجليل فلم يكن أمرا بلا مغزى بالتأكيد؛ فمن الواضح أن الرب كان لديه فرح عظيم بمسألة الزواج. ولكن من الواضح أيضا أن الزواج في نظر يسوع أمر مقدس. وقد أخذ الأمر على محمل الجد إلى درجة أنه أخذ يتكلم بِحِدّة لا هوادة فيها ضد أدنى خطوة ترمي إلى تدمير الزواج أو التحلل من رباطه، فقال:
فلا يكونانِ اثنينِ، بل جسَدٌ واحدٌ. وما جمَعَهُ اللهُ لا يُفرَّقُهُ الإنسانُ.» وسألَه الفَرِّيسيُّونَ: «فلِماذا أوصى موسى بأنْ يُعطيَ الرَّجُلُ اَمرأتَهُ كِتابَ طَلاقٍ فتُطلَّقُ؟» فأجابَهُم يَسوعُ: «لِقساوَةِ قُلوبِكُم أجازَ لكُم موسى أنْ تُطلِّقوا نِساءَكُم. وما كانَ الأمرُ مِنَ البَدءِ هكذا. أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ اَمرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزِّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى.» (متى 19: 6 – 9)
يمكننا أن نرى من خلال حِدّة كلام يسوع القاطع وعدم مساومته، مدى بشاعة وشناعة الزنى في نظر الله. والكتاب المقدس بأكمله يحتجّ على الزنى، ابتداء بكتب الأنبياء التي قامت بتسمية عبادة بني إسرائيل للأوثان بالزنى، (راجع إرميا 13: 25–27) وانتهاء بسفر الرؤيا حيث نقرأ عن غضب الله على الزانية العظيمة (في إشارة إلى مملكة بابل التي كانت رمز العهارة والزنى). وعندما يتفكك رباط الزواج، فإن المحبة – التي تمثل وحدة الروح والنفس بين اثنين – تتفكك وتتمزق، ليس بين الشريك الزاني وبين زوجته (أو زوجها) فحسب بل أيضا بينه وبين الله.
في ثقافة يومنا الحالي، نرى أن الزواج، كعرف من الأعراف الاجتماعية، يترنح على حافة كارثة. فالكثير أيضا مما يُسمى «حب» ما هو سوى رغبة أنانية. إلا أننا نرى في نطاق الزواج أيضا أن هناك العديد من الأزواج يعيشون تحت سقف واحد عيشة أنانية. وينخدع الناس عندما يعتقدون بأن الزواج السعيد يمكن تحقيقه بدون تضحية ووفاء، وبالإضافة إلى ذلك، فالزوجان، حتى لو عاشا معا تحت سقف واحد، فتراهما متحفظَين ويخشى كل منهما أن يحب الآخر حبا غير مشروط.
مع ذلك وفي وسط الملايين من العلاقات الزوجية المليئة بالصراعات والتخبُّط أو التي خَرَّبتها الخيانات الزوجية، تظل محبة الله لبني البشر باقية بقاء أبديا وتصرخ وتناشد الناس باستمرار على الوفاء الزوجي وعلى الالتزام. ويوجد صوت في أعماق كل منا، مهما كان خافتا، ينادينا بالعودة إلى الوفاء في علاقاتنا الزوجية. ونتوق كلنا بالحقيقة، بدرجة أو بأخرى، إلى الاتحاد مع شخص عزيز – بقلوب مفتوحة ومتحرّرة من قيود الخطيئة. ولو اِلتجأنا إلى الله طالبين منه بثقة ليجعل مثل هذا الاتحاد مع شريك آخر أمرا ممكنا، فسوف يلبِّي الله دعاءنا ويقوينا على الوفاء ويتحقق اشتياقنا فعلا.
إنّ السعادة الحقيقية تأتي من خلال أن يضع الإنسان نفسه بمحبة في سبيل شخص آخر. غير أن المحبة لا تسعى إلى العطاء فحسب، بل تشتاق أيضا إلى الاتحاد. فلو أحببتُ شخصا بحقّ، فسوف أكون مهتما بمعرفة ما بداخله، ومستعدا للخروج من وحدتي وانفراديتي نحوه. وسأساعده بمحبة وتواضع لعله يصحو تماما بشأن الله وبشأن الآخرين. ثم إن الحب الحقيقي ليس حبا تملُّكيّا أو استعباديّا مطلقا، بل على العكس، فهو يأخذنا دائما إلى حرية الوفاء الطوعي وإلى حرية الحياة الشريفة الطاهرة الطوعية.
وفي غمرة بركة محبة الكنيسة ووحدتها، فإنه من الممكن أن يحصل كل الإخوة والأخوات فيها على وحدة روحية، فالرب يوحِّدهم بروحه القدوس. إذ يقول الإنجيل:
ومَنِ اتَّحَدَ بِالرَّبّ فقَد صارَ وإِيَّاهُ رُوحًا واحِدًا. (1 كورنثوس 6: 17)
حتى أنه من الممكن أن يصبحوا أيضا قلبا واحدا وروحا واحدة، مثلما حصل مع المسيحيين الأوائل:
وكانَ جَماعةُ المُؤمنينَ قَلبًا واحدًا ورُوحًا واحِدَةً، لا يَدَّعي أحدٌ مِنهُم مُلْكَ ما يَخُصُّهُ، بل كانوا يتَشاركونَ في كُلِّ شيءٍ لهُم. (أعمال 4: 32)
أما الوفاء بين الزوج والزوجة فهو انعكاس للوفاء الأبدي لله؛ لأن الله هو الذي يحفظ كل رباط زوجي حقيقي في التئام ووئام. ولذلك، وبفضل صدق محبة الله نتشجّع وندع الحب يتدفق من خلال حياتنا، ونسمح لمواهب أحدنا أن تتفتّح على الآخر في السراء والضراء.
الحب الجنسي قادر على جعل محبة الله منظورة
هناك فرق بين الحب بين شخصين مخطوبين أو متزوجين، وبين المحبة الأخوية العامة الموجودة بين الناس من رجال ونساء. فلا توجد أية علاقة يعتمد فيها الواحد على الآخر مثل علاقة الزواج. وهناك فرح متميز في قلب المتزوج عندما يكون بقرب الحبيب؛ ولكن حتى لو افترقا، فسوف يبقى بينهما رباط فريد من نوعه. لأنه من خلال علاقة الحب الجنسية في الزواج سوف يطرأ شيء يمكن ملاحظته بل ربما يظهر حتى على ملامح وجهي الزوجين. كما يقول فريدريش فون جاجرنFriedrich von Gagern (1914 – 2000م) وهو طبيب نفساني ألماني كاثوليكي ومؤلف كتب عن الحياة الزوجية: «في معظم الأحوال، لا يصبح الزوج رجلا حقيقيا إلا بزوجته، ولا تكتسب الزوجة أنوثة حقيقية إلا بزوجها.»
في الزواج الحقيقي يسعى كل شريك إلى إسعاد الآخر. وبتكميل أحدهما للآخر، سوف تتقوى الوحدة بينهما وتنمو. ومن خلال الحب بين الزوج والزوجة ومن خلال الوفاء بينهما ومن خلال ثمرهما (الإنجاب) فسوف يعكسان بكل ذلك صورة الله بطريقة عجيبة ورائعة.
ونكتشف في الرباط الفريد للزواج المعنى الأسمى لأن يصير الزوجان جسدا واحدا. وبالتأكيد، فإن معنى أن يصير الزوجان جسدا واحدا هو أن يصيرا واحدا جسديا وجنسيا، ولكنه يعني أيضا أكثر من ذلك! فهذا الرباط هو رمز لشخصين ارتبطا معا وانصهرا معا قلبيا وجسديا وروحيا، في عطاء متبادل ووحدة كاملة.
عندما يصبح الشريكان بالزواج جسدا واحدا، فإنهما لا يُعتبران بعد اثنين بل بالحقيقة واحدا. لأن اتحادهما ثمرة علاقة أكبر من علاقة العِشرة أو الشراكة؛ إنها ثمرة أسمى علاقة جنسية. وكما يكتب الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشة Friedrich Nietzsche عن ذلك الاتحاد بأنه ناتج عن «قرار اثنين يريدان أن يخلقا اتحادا أكبر منهما شخصيا. وهو توقير أحدهما للآخر، وتوقير عملية إتمام مثل هذا القرار.»
فلا يمكن للزواج أن يرضي المطالب الجنسية بضمير مرتاح سوى بهذا التوقير وبهذا الاتحاد السامي. فمن خلال رغبة الزوجين في إنجاب الأطفال وفي أن يثمرا ويكثرا وفي تآزرهما الحميم الذي يمثل وحدة الله مع خليقته ومع شعبه سوف يعطي الزواج صورة منظورة عن محبة الله الفياضة.
عندما يكون الله في مركز الزواج فالوحدة الكاملة القلبية والروحية والجسدية ممكنة
وفقا للترتيب الإلهي للزواج، هناك على الأقل ثلاثة مستويات مختلفة من الاختبار يعيشها الزوجان ويرتقيان من خلالها في حياتهما الزوجية. فالمستوى الأول – وهو الأروع – وحدة الروح: أي بمعنى وحدة القلب والنفس في الله. فيمكننا في هذه الوحدة أن يكون لنا شركة بعلاقات قلبية وشريفة ليس مع شريك حياتنا فحسب، بل أيضا مع جميع المؤمنين. والمستوى الثاني وحدة العواطف: أي بمعنى أن جريان عواطف الحب من القلب إلى القلب يكون قويا جدا إلى درجة أن الشخص يمكنه أن يسمع دقات قلب الآخر، إذا جاز التعبير. أما المستوى الثالث فهو الوحدة الجسدية: وهو تعبير الوحدة الذي يحصل عندما ينصهر الجسدان ويندمجان في اتحاد تام.
للأسف، هناك عدد كبير من الأزواج في يومنا هذا يكتفون بالمستوى الثالث، أو ربما بالمستوى الثاني. غير أن الزواج المؤسس على الجسد والعاطفة وحدهما محكوم عليه بالفشل وخيبة الأمل. فبالرغم من أن موجات الجاذبية العاطفية أو الجسدية تُعتبر أمرا طبيعيا، إلا إنها قد تخلّف ورائها جروحا عميقة إن لم تكن موضوعة تحت راية السيد المسيح.
قبل مدة قصيرة، أخبرتني امرأة أعرفها بأنها وزوجها انضمّتْ إلى كنيستنا لا من أجل تكريس حياتهما لله وإنما لمجرد أنهما أرادا الحصول على مراسيم زفاف كنسية. فقالت: «لم أتكلم مطلقا مع زوجي عما كان الله يريده لحياتنا، أو ماذا كنا نريد عمله قبل وبعد الزواج.» وتردف قائلة: «لم أكن أنا وزوجي على الموجة نفسها ليتفق ويفهم أحدنا الآخر.» أما الآن فقد هجرها زوجها هي وأطفالهما الخمسة. وصارت ترى الآن بوضوح الحقيقة الموجعة أنه بسبب عدم ترسّخ وعودهما الزوجية على السيد المسيح، فقد افتقرا إلى أساس رصين يبنيان حياتهما الزوجية عليه.
أما لو أُريد للزواج بأن يكون سليما ومتعافيا حقا فلابد من تأسيسه على الترتيب الإلهي – أي بمعنى تأسيسه على وحدة الروح والقلب والنفس. فالغالبية العظمى من الناس اليوم، بما فيهم نحن الذين ندعي بأننا مسيحيون، ليس لديهم أدنى فكرة عما قد هيأه الله للذين يحبونه ويكرمونه بكل صدق. فعندما نحتضن من كل قلوبنا ونقبل ترتيب الله لعلاقاتنا الزوجية فسوف نلمس بركاته علينا. فالاختبارات القلبية التي ينعم بها الله علينا في خطوبة أو في زواج هي أكبر من تصوراتنا. لكن، للأسف، يعيش الكثيرون منا، نحن البشر، في عالم الحواس واللذات والماديّات فقط، المتعلق بالنوم والأكل والشرب، ولا نعطي أبدا لأنفسنا فرصة لننظر إلى ما هو أهم: أي بمعنى إلى حياتنا الروحية. وينطبق هذا على العديد من الزواجات في زماننا الحاضر. فنرى أن الجنس هو البؤرة الرئيسية التي يتمحور حولها الزواج اليوم، أما اتحاد القلوب فلا يسعون إليه بالمرة ولا يذكرونه أصلا. فهل من المستغرب أن لا نجد سوى حفنة قليلة من الأزواج الذين يبقى بعضهم وفيّا لبعض لمدى الحياة؟
إن كل من عاش قرب البحر يعرف شيئا عن قوة الطبيعة في المدّ والجزر. وهكذا الحال مع الزواج، كما هو الحال مع علاقة الصداقة، حيث توجد تيارات المدّ والجزر. فحينما تكون العلاقة في حالة الجزر (أي عند المصاعب) فسرعان ما نفقد صبرنا، ونبتعد عن شريك حياتنا، بل حتى ننبذ أي جهد لتجديد الحب. أما لو كان الله في مركز حياتنا، فسوف يمكننا التوجّه إليه من أجل استمداد الإيمان والقوة والعزيمة حتى في أوطئ حالات جزرنا.
فكلما عشنا بأسلوب يليق بمستوى صورة الله التي خُلِقنا عليها، زاد إحساسنا بضرورة إبقاء الله في مركز حياتنا وبأن وصاياه مناسبة جدا لنا. وسوف نحسّ بأن هذه الوصايا ليست مفروضة علينا كقوانين غريبة أو أوامر. بل بالعكس، فسوف نرى أنها تتطابق وتنسجم مع طبيعتنا الحقيقية باعتبارها مخلوقة على صورة الله. ولكن كلما تنكَّرنا لصورة الله في داخلنا ودمرناها، بدت لنا سيادته بأنها أمر غريب علينا، وسوف يسلّط موقفنا المُلحد هذا ضغطا معنويا سلبيّا علينا الذي سيؤدي بدوره إلى سحقنا تماما.
فعندما يثمر الزوجان ثمار العطاء أحدهما للآخر، وذلك بتكميل بعضهما لبعض بمحبة، وعندما يثمران معا بإنجاب الأطفال – فسيصبح الزواج مباركا ومقدسا بفضل هذه الأهداف، وسوف يجعلان منه فرحا سماويا أيضا. وعلى الرغم من ذلك، فنرى في قصة الخلق وقبل مجيء وصية الله «أَثْمِرُوا،» فقد سبقتها حلول بركة وهي: نعمة الله بخلق شريك حياة للإنسان الأول. وبتقديم هذه النعمة الإلهية إلى الإنسان، فكأن الله يريد أن يقول: «تحيا صورتي فيكما.» فكلما اقتربنا من الزواج وجب علينا أن ننظر إلى هذه الحقيقة بتوقير عظيم؛ إذ تحيا في كل شخص وفي كل زواج طاقات مقتدرة للتعبير الصادق عن صورة الله.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «دعوة إلى حياة العفة والنقاوة»