تقابلتُ لأوّل مرةّ مع مُعادين للساميّة عندما كُنت في الثالثة من عُمري أثناء مُراقبتنا لرتل من شباب هتلر وهُم يمُرُّون من أمام نافذة منزلنا في الشارع الشرقي Ostendstrasse وهُم يُغنُّون أُغنية حتى أنا فهمت معناها في ذلك الوقت. كانت تقول: «عندما تسيل دماء اليهود من خناجرنا.....إلخ»، وما زلت أذكر الرُعب الذي كان يظهر على وجه والديَّ.
وسرعان ما قرّرت عائلتنا ترك البلد. وفي نهاية عام 1933 عُدنا ثانية إلى مدينة روزفادوف في بولندا المُطلة على نهر سان. وكان مُعظم سُكّانها من اليهود الذين يعملون كحرفيين، وخيّاطين، ونجّارين وتُجّار. وكان هناك فقرٌ شديدٌ لكن بالرُغم من هذا الفقر الشديد كُنّا نُعتبر من الطبقة الميسورة، وعشنا في روزفادوف طوال الستّة أعوام التالية.
وفي عام 1939 بدأت الحرب، وفي غضون أسابيع دخل الألمان إلى مدينتنا. واختبأ أبي وأخي الأكبر في العُليّة العليا، وكُنّا عندما يقرع أحد على الباب ويسأل عنهما نُخبره أنهُما ليسا بالمنزل.
وجاء الإعلان العام الرهيب أن كلّ اليهود عليهم أن يجتمعوا في الميدان الرئيسيّ بالمدينة. وأُعطيت لنا مُهلة ساعات قليلة فقط. فأخذنا ما استطعنا حمله – مجرد وضعناه في صُرّة لنتمكّن من حمله على ظهورنا. ومن الميدان أجبرنا جنود قوات الـ SS للسير على الأقدام باتجاه نهر سان، والذي كان يبعد عدة أميال عن القرية. وكان الرجالُ المُجنّدين يرتدون الزيّ العسكريّ ويركبون الدرّاجات البُخاريّة من على جانبيّ الطريق. ولن أنسى كيف توقّف أحدهُم وصرخ فينا لكي نُسرع، ثم توجّه ناحية والدي وضربه.
وعند ضفّة النهر، كان هُناك جنود آخرين بزيّهم الرسميّ ينتظروننا. فقاموا بتفتيشنا بحثا عن الأشياء الثمينة من مال أو مُجوهرات أو ساعات. (ولم يجدوا المبلغ الذي أخفاه والدي في ملابس أُختي الصغيرة). ثم أمرونا أن نعبُر النهر إلى أرض ليس فيها إنسان. ولم يُخبرنا أحد بما يجب أن نفعله، لهذا وجدنا مأوى في قرية عبر النهر.
وبعد عدّة أيّام سمعنا فجأة أنّ هذه المنطقة سيحتلّها الألمان أيضا. فانتابنا الذُعر واشترى والديّ بالأموال التي أخفوها ومتشاركين مع عائلتين أو ثلاثة حُصانا وعربة لكي تحمل الأطفال الصغار والأشياء القليلة التي حملناها على ظهورنا.
واتجهنا شرقا إلى روسيا أملا في الوصول إلى الحدود قبل حلول الظلام، لكننا وجدنا أنفُسنا في غابة كبيرة عندما حلّ الظلام. وهناك هاجمنا رجال مسلّحون وطلبوا أن نُعطيهم كلّ ما نملك. كانت لحظات مُرعبة لكن كان هناك بعض الرجال في مجموعتنا ممّن كانت لديهم الشجاعة لمُقاومتهم. وفي النهاية رحل الرجال آخذين درّاجة وأشياء أُخرى صغيرة.
قضت أسرة يوسف سنوات الحرب في سيبيريا. ونجح يوسف بأعجوبة في الهروب إلى فلسطين عام 1943، وبعد الحرب تقابل مع يهود نجوا من مُعسكرات الإبادة. فيقول يوسف:
لقد بدأت الدفعات الأولى من الأطفال الذين تمَّ تحريرهم من معسكري الإبادة Bergen-Belsen و Buchen-wald الألمانيين في الوصول إلى فلسطين في عام 1945. وارتعبتُ ممّا سمعته من هؤلاء الصبيان الذين بالرغم من أنّهُم لم يتجاوزوا سنّ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، إلاّ أنّهُم كانوا قد مرّوا بأحداث رهيبة. وكان مظهرهم يشبه العجزة. وشعرتُ بالاشمئزاز والإحباط.
صارعت مع موضوع الاحتلال البريطاني للبلد طوال الثلاث سنوات التالية. وامتلأت بالكراهية نحو البريطانيين وخاصّة بعدما بدأوا في وضع قيود على هجرة الناجين من الهولوكوست إلى فلسطين. وقُلنا إنّنا نحن اليهود لن نسير مرّة أُخرى مثل الغنم للذبح، على الأقل ليس بدون قتال ضارٍ. وشعرنا أنّنا نعيش في عالم من الوحوش، وأنّنا يجب أن نكون مثل الوحوش حتّى نستطيع أن نحيا في العالم.
وعندما انتهت الوصاية البريطانية على فلسطين، دارت حروب أكثر بين اليهود والعرب من أجل الأرض. والتحقت بالجيش لأنّي كُنت مُقتنعا أنّه لا يمكن أن أسمح لنفسي بالاستمرار أن أُسحق بالأقدام...
وأثناء حملاتنا على رام الله واللد، أمرت كتيبتي الفلسطينيين أن يترُكوا بيوتهم خلال ساعات. ولم نسمح لهم أن يرحلوا بسلام لكننا سكبنا غضبنا عليهم. فضربناهم وعاملناهُم بقسوة. ولقي بعضهم حتفه. ولم تكن لدينا أوامر بفعل هذا، لكننا فعلنا هذا من تلقاء أنفسنا. فقد أطلقنا العنان لأدنى غرائزنا واحقرها.
وفجأة، لمعت أمام عينيّ طفولتي في وقت الحرب في بولندا. واستعدت في ذهني خبرتي كطفل في العاشرة من عُمره يُبعَد عن بلدته. والآن أمامي هؤلاء الناس - رجال ونساء وأطفال - يهربون بكلّ ما يمُكنهم أن يحملوه. والخوف في عيونهم، خوف أعرفه أنا جيّدا. شعرت بألمٍ عميق، لكنني كنت تحت الأوامر، واستمررت في البحث عن أشياء قيمّة. وعلمت أنّني لم أعُد ضحيّة، لكني الآن أملك القوة والنفوذ.
ترك يوسف الجيش لكن كان ما زال غير سعيد. ومن ثم ترك اليهوديّة، وترك الدين برُمّته، وحاول أن يعطى معنى للعالم من خلال تفسير شروره بالمنطق. لكن لم ينجح الأمر معه. وفي نهاية المطاف جاء إلى أحد مجتمعات برودرهوف المسيحية، فقال:
هنا اختبرت لأوّل مرة حقيقة الغُفران. وأسأل نفسي: كيف لا يُمكنُني أن أغفر للآخرين على الرُغم من أنّني أنا نفسي بحاجة إلى الكثير من الغُفران مرة بعد أخرى؟ وفوق كل شيء، فإني كلي أمل أنه في يوم من الأيّام سيمتلئ الناس في كافة أنحاء العالم بالروح نفسه الذي خلصني.
بقلم يوهان كريستوف آرنولد Johann Christoph Arnold
ولقراءة السيرة الذاتية الكاملة للكاتب اِقرأ كتاب «مسيرتي في البحث»