Subtotal: $
Checkoutيرجع أصل زوجتي ليلى إلى محافظة شرناق Sirnak الواقعة في الجنوب الشرقي لتركيا، والمتاخمة للحدود الشمالية للعراق، حيث كانت عشيرتها تسكن لأجيال كثيرة. وهم على الأرجح من بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين لجأوا إلى تلك المناطق النائية والوعرة بحثًا عن الأمان منذ سقوط إمبراطورتيهم قبل حوالي أكثر من 2600 سنة.
وكان اسم قريتهم «هوز» لذلك تُسمى عشيرتهم بال «هوزي» وبالكلدانية «هوزنايه.» وكان أبو جدّ ليلى مختارا لقرية هوز، وكان اسمه يوسف وزوجته شماميه. وكانت العشيرة تملك أراضي زراعية واسعة هناك، وأغنام وماشية وخلايا نحل لإنتاج العسل. أما لغتهم فهي اللغة الكلدانية (أو الآشورية) المشابهة للغة الآرامية، التي كان الناس يتكلمون بها أيام يسوع المسيح.
غير أن البلدات والقرى المسيحية في تركيا، أخذت تتعرّض إلى موجات من الاضطهاد والسبي والإذلال، في مطلع القرن العشرين، من قِبل الأتراك والأكراد، (أذكر هنا الأتراك والأكراد، ولكن لا أريد من هذا التعميم على الجميع. فلدينا حاليا في داخل العراق وخارجه علاقات حميمة مع الكثير منهم.) في زمن الآغاوات، (الآغاوات: آغا أو أغا أو آغة من اللغة التركية، وتعني الكلمة سيد أو رئيس، وهو لقب مدني وعسكري كان مستعملا في عهد الدولة العثمانية.) أثناء غياب التواجد الحكومي والقوانين والأمن آنذاك. فلذلك عانى المسيحيون هناك أشد المعاناة.
وكان جَدّ ليلى، بولص، يحكي لها قصصا كثيرة عن الاضطهاد الذي لاقوه في زمانهم. وغالبا ما كانت الدموع الحارقة تنهمر من عينيه وهو يتذكر تلك الذكريات الأليمة. ولكنه كان دائما يقول: «رغم مرارة التهجُّر والاضطهاد، نحن مع ذلك فرحون، لأن يسوع المسيح لا يزال في قلوبنا. فلا يستطيعون أن ينزعوه مِنّا، أينما كنا، وأينما يجري تهجيرنا.»
لقد كان الأكراد يداهمون بيوت أهالي القرى المسيحية في الليالي ويسلبون زوجاتهم على سبيل المثال، ويقولون للأزواج بأن زوجاتهم أصبحن الآن ملكا لهم، لمجرد إذلال المسيحيين.
ثم إنّه كانت هناك قصة شهيرة عن امرأة شابة كانت متزوجة حديثا اسمها مريم الهوزي، في بداية القرن الماضي، في عام 1913م، وهي من أقارب أجداد ليلى. فجاء مرة، ابن أحد الآغوات الأكراد من القرى المجاورة لهم إلى قرية هوز، وكان اسمه تمر ابن أوصمان، فرأى مجموعة من الفتيات في الحقل، وكانت مريم تحلب الغنم. فدنا إليها ذلك الرجل، وطلب منها، وعلى مرأى ومسمع من بقية الفتيات الأخريات، أن تصطحبه عنوة ليقترن بها ولتكون له. وكان ذلك يعني أن تتنكر مريم لإيمانها بالرب يسوع المسيح لكي تتزوجه، إضافة إلى اقتراف الفحشاء والخيانة الزوجية. الأمر الذي رفضته مريم بشدة.
فهددها بالقتل قائلا: «ألا تعرفين أني قادر على قتلك في هذه اللحظة؟»
فردّت عليه وقالت: «أنا أعلم ذلك، ولكن خير لي أن أموت على دين المسيح من أن أتبعك أنت ودينك.»
فحاول الرجل حملها بالإكراه على ظهره ليخطفها، ولكنها صارت تقاوم وتضربه على رأسه، وأفلتت منه وبدأت تصرخ، فسخط عليها، فرفع خنجره وطعنها عدة طعنات في بطنها، فانفتحت بطنها وماتت في الحال أمام الجميع. غير أن نورا من السماء نزل على جثة تلك المرأة المسيحية مباشرة، وصار جسمها كله يشعّ بياضا. فرأى الجميع ذلك، ومن ضمنهم القاتل طبعا. فانتابه الفزع من شدة الخوف والرهبة، فهرب على الفور من هناك.
أما أهالي القرية فأوصلوا نبأ استشهاد مريم الهوزي والنور السماوي الذي نزل على جثتها إلى أسقف زاخو، المرحوم مار طيمثاوس مقدسي، لأن قرية هوز كانت تابعة لأبرشية زاخو آنذاك. (زاخو: مدينة عراقية متاخمة للحدود العراقية – التركية.) فدرس الأسقف إمكانية بناء مزار (أي بمعنى كنيسة صغيرة على ضريحها). وصار قبرها مزارا للاستشفاء، وكان المسيحيون من القرى المجاورة يأخذون ترابا من الأرض المحيطة بقبرها للتبرُّك به، ولشفاء الأطفال المصابين بأنواع الحمى. كما قال لهم بأن يضعوا إناء صغيرا مملوءا بالماء على قبرها، ليأتي كل من يطلب الشفاء ليشرب منه لكي يشفى. وهذا ما حصل بالفعل. فكان يرتاد ذلك القبر كثير من المرضى وغيرهم، لينالوا الشفاء.
إلاّ أن عدم استقرار الأوضاع بسبب اشتداد الاضطهاد الذي لاقاه المسيحيون خلال الحرب العالمية الأولى، جعل أهالي هوز يهربون منها، الأمر الذي حال دون إكمال ذلك المزار. لذلك اضطر أجداد ليلى وعشيرتهم أيضا، إضافة إلى بقية أهالي قريتهم والقرى المجاورة لهم إلى النزوح الجماعي من أراضيهم. فهاجر المختار يوسف، مع قسم من العشيرة إلى شمالي العراق، عبر الجبال الوعرة حيث لاقى الكثير منهم حتفه أثناء الرحيل، ولا سيما بسبب افتراسهم من قِبل الدببة الجبلية. فقد قُتِل كل من جَدَّي ليلى بالدببة، متي وثرميه، أي أهل والدها. ونتيجة لذلك، تمّ تبني والد ليلى، الذي كان صغيرا آنذاك، من قبل أخيه الأكبر المتزوج: مراد وزوجته كاترينا.
ومن جراء الفوضى التي أصابتهم بسبب الاضطهاد، هاجرت شماميه، زوجة المختار، مع القسم الآخر من العشيرة إلى روسيا بعيدا عن زوجها. إضافة إلى أن جماعات أخرى هاجرت إلى فرنسا، ولكن بعد فترة طويلة، علمت شماميه بمكان زوجها يوسف – في المنطقة الشمالية للعراق – فالتحقت بأسرتها هناك. فهكذا جاء أقارب زوجتي ليلى من تركيا، وسكنوا في مدينة زاخو العراقية، المتاخمة للحدود التركية.
وهناك، وتحديدا في قرية «شكه فت مارا» التابعة لمدينة زاخو، كانت ولادة ليلى في يوم السبت المصادف 6 يناير/كانون الثاني من عام 1962م. ثم انتقلت أسرتها إلى محلة النصارى في مدينة زاخو عندما صارت بعمر ثلاث سنوات.
وعندما بلغت ليلى عمر ست سنوات، انتقلت أسرتها إلى مدينة الموصل، حيث ترعرعت هناك وشربت من تراثها. أما أسرة جدها بولص – واسم جدتها ورديه – فانتقلت مباشرة من مدينة زاخو إلى مدينة بغداد، وسكنت في منطقة السعدون. ثم طالبت جدتها ورديه – التي كانت امرأة تقيّة وتخاف الله – بأخذ ليلى إلى بيتهم في بغداد، وذلك لجعلها قريبة من الكنيسة ولكي ترتاد الأخوية، لأن حيّ الزهور الذي سكنته أهل ليلى في الموصل كان بعيدا عن الكنائس.
بعد ذلك بعدة سنوات، اشترت أسرة ليلى منزلا في مدينة بغداد، وفي منطقة قريبة من منطقتنا، وانتقلت الأسرة كلها إلى بغداد، وانضمّت ليلى إلى أسرتها. وصارت ليلى ترتاد الكنيسة المحلية نفسها والأخوية نفسها التي كنتُ أرتادها أنا. وهكذا تعارفنا.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «غمدت سيفي»
nancy george
عظيم هو ايمانها