Subtotal: $
Checkout
قصة ماري من رواية الأبله
يا لوحشية الناس ورأفة الأطفال!
بقلم فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoyevsky
28 فبراير. 2025
يروي هذه القصة الأمير مايشكن (ليون مايشكن) في رواية الأبله. ويرويها لمعارفه الجدد وأقربائه البعيدين، والنساء من أسرة ايبانشِن اللواتي يسألنه عن ماضيه. وقد عاد الأمير مايشكن للتو إلى روسيا في مهمَّة عمل بعد وقت طويل من العلاج الطبيِّ في سويسرا على يد الطبيب البروفسور شنايدر الأخصائي في الأمراض المشابهة لمرض مايشكن. وقد تولَّى الطبيب شنايدر المسؤولية الكاملة لرعاية الأمير بعد وفاة بافليتشف، وكان بافليتشف إنسانا مُحسِنا إلى الأمير، قبل عامين. وتُظهِر قصة ماري البائسة والأطفال شخصية مايشكن — إذ إنَّ محبته تقبل الاستهزاء والسخرية دون تذمُّر كالأبله.
قاطعت آديلايده الكلام بسرعة مرة ثانية وقالت: «جيد جدا، ولكنك ما دمتَ من الخبراء الجيدين في التحديق في الملامح وتحليل الوجوه، فلابد أنك كنت في يوم من الأيام عاشقا مغرما ... فاقصص علينا قصة حبِّك!»
فردِّ مايشكن بذات اللطف والوقار السابق: «أنا لم أكن عاشقا، وإنما أنا ... كنتُ سعيدا بطريقة مختلفة.»
«كيف؟ بماذا؟»
فقال مايشكن كما لو كان يتأمَّل عميقا: «حسنا، سأخبركن.»
بدأ مايشكن يتحدث فقال: «في نظراتكن إليَّ من شِدَّة الاستطلاع ما يدل على أنكن قد تغضبن إذا لم أُلبِّ رغبتكن.» ثم أسرع يقول مبتسما: «لا، كنتُ أمزح!» فأردف قائلا: «كان هناك الكثير من الأطفال، وكنت أقضي وقتي كله مع الأطفال، مع الأطفال وحدهم. لقد كانوا أطفال القرية، مجموعة كبيرة من تلاميذ المدرسة. وليس معنى هذا أنني قمتُ بتعليمهم، لا، لا، إذ كان هناك مدير المدرسة لهذه المهمة — اسمه جوليس تيباو. ومن الجائز أنني كنت أعلِّمهم أيضا، ولكني على الأكثر لم أقُم إلاَّ بقضاء وقتي معهم، وهكذا قضيتُ كل تلك السنين الأربع هناك. ولم أكن أريد أيَّ شيء آخر. وعادة ما كنتُ أقول لهم كل شيء؛ ولم أُخْفِ عنهم شيئا. فبدأ آباؤهم وأقرباؤهم يغضبون عليَّ، لأن الأطفال في آخر الأمر أصبحوا لا يستغنون عني، وكانوا يتجمعون حولي دائما، وفي النهاية أصبح مدير المدرسة عدوي الرئيسي. وقد صار لي أعداء كثيرون هناك، وكل ذلك بسبب قضية الأطفال. حتى أن الطبيب شنايدر نفسه أخذ يلومني. فما الذي كانوا يخشونه؟ فمِن حقِّ المرء أن يقول للأطفال أيَّ شيء — أيَّ شيء. وتدهشني دائما رؤية قِلَّة تفهُّم الأطفال لدى البالغين، بل قِلَّة تفهُّم الأطفال لدى والديهم أنفسهم أيضا. فينبغي ألا يُخفى شيء عن الأطفال بحجة أنهم صغار، وأنهم في مرحلة مبكرة لا تؤهلهم للفهم. فيا لها من فكرة بائسة ومؤسفة! إذ إنَّ الأطفال يلاحظون بسرعة أن آباءهم يعتبرونهم صغارا جدا ولا يفهمون أيَّ شيء، مع أنهم في الواقع يفهمون كل شيء! ثم إنَّ الكبار يجهلون أن الطفل يستطيع حتى في أصعب الحالات أن يُسدي بنصيحة رائعة للغاية. فما أروعهم! فحين ينظر إليك ذلك الطائر الصغير الجميل، وهو فرحان وكله ثقة بك، فمن العار عليك أن تخدعه. فإنني أسمِّيهم طيورا، لأن الطيور خير ما في العالم.
«ومع ذلك، كان معظم الناس غاضبين عليَّ بسبب الأمر نفسه ... أمَّا المعلم جوليس تيباو فكان ببساطة يغار مني. وكان في أول الأمر لا يزيد على أن يهز رأسه بدهشة حين يرى الأطفال يفهمون مني فهما واضحا، مع أنهم لا يكادون يفهمون شيئا مما كان هو يعلِّمهم؛ ثم أخذ يضحك عليَّ، حين قلتُ له إنه لا يمكن لأيِّ مِنَّا أن يعلِّمهم أيَّ شيء، وإنما هم الذين يستطيعون أن يعلِّمونا الكثير. غير أن المسألة التي تحيِّرني هي: كيف يمكنه أن يغار مني ويحكي عليَّ، وقد قضى عمره كله يعمل مع الأطفال؟ لأن الروح تُشْفَى بقضاء الوقت مع الأطفال ... وأتذكر أنه كان هناك في مصح البروفسور شنايدر رجل مسكين يجري علاجه من الجنون. ولا أظن أنه كانت هناك تعاسة بقدر تعاسته. ولكنه لم يكن مجنونا في رأيي، وإنما كان إنسانا بائسا إلى درجة فظيعة لا أكثر؛ وليتكُنَّ تعرفن دور أولئك الأطفال في شفائه، في آخر الأمر ... ولكن مِن الأفضل أن أُحَدِّثُكن عن هذا المريض في وقت آخر. أمَّا الآن فيجب أن أكمِّل القصة. فكان الأطفال في البداية لا يحِبُّونني. إذ كنتُ ضخما جدا، وذا تصرُّفات خرقاء دائما؛ وأنا أعلم أنني قبيح المنظر أيضا ... إضافة إلى أنني كنتُ شخصا غريبا على قريتهم. وكان الأطفال في البداية يستهزئون بي، وعندما رأوني أُقَبِّل ماري أخذوا يرمونني بالحجارة. إلاَّ أني لم أُقَبِّلها سوى مرة واحدة في حياتي كلها.» وهنا لاحظ الأمير ابتسامات تلم بأفواه الفتيات اللواتي كن يصغين إلى حديثه، فأسرع قائلا: «لا، لا تضحكن، لم يكن ذلك حبا على الإطلاق! فلو عرفتن مدى تعاسة تلك المخلوقة، لرثيتن لحالها مثلي.
«كانت ماري من قريتنا. وكانت أمُّها امرأة عجوز دبَّت فيها الشيخوخة وأضناها الهرم. وقد أَذِنَ عُمدة القرية للأمِّ بأن تخصص إحدى نافذتي بيتها المُتداعي الصغير ليكون بمثابة دكان تبيع من خلاله حاجات مثل بريم وخيط وتبغ وصابون، وبقروش قليلة تكاد تقيم بها أودها وتمسك عليها رمقها. وكانت الأم مريضة متورِّمة الساقين بحيث لم تستطِع التحرُّك من مقعدها. وكانت ابنتها ماري، في نحو العشرين من عمرها، ضعيفة هزيلة نحيلة. فقد أضعفها مرض السُّلِّ منذ مدة طويلة، ومع ذلك كانت تشتغل في المنازل المحيطة ببيتها وتؤدي أعمالا شاقة يوميا، مثل — تنظيف الأرضيات، والغسيل، وكنس الأحواش، والعناية بالبهائم في الحظائر. وفي يوم من الأيام، أغوى رجل فرنسي ماري، كان مندوب تجاري متجوِّل، مَرَّ بالقرية، فأخذها معه وذهب بها بعيدا، وبعدها بأسبوع هجرها وتركها خلسة. فعادت أدراجها وهي تشحذ لكي تصل إلى البيت، فوصلت وهي ملطخة بالطين من فوق إلى تحت، ورَثَّة الأسمال، وممزقة الحذاءين. فقد سارت لمدة أسبوع كامل على قدميها، وأمضت الليالي في الحقول، فأصابتها أثناء ذلك نزلة برد رهيبة. وكانت قدماها مغطاة بالقروح، ويداها متوَّرِمتين متشقِّقتين. ثم إنها لم تكن جميلة من قبل باستثناء عينيها الطيِّبتين العذبتين البريئتين. وكانت صامتة للغاية. وأخذتْ ذات مرة تغني أثناء عملها، وإني أتذكر أن جميع الناس قد دُهِشوا عندئذ وأخذوا يضحكون منها: ‹ماري تغني! ماذا، ماري تغني! › فخجلت بفزع، ولم تفتح شفتيها مرة أخرى منذ ذلك اليوم. وكان الناس في تلك الأيام لا يزالون لطيفين معها، ولكنها حين عادت مريضة ممزقة، لم يكن لأحد أيُّ عطف أو شفقة نحوها. فيا لوحشية الناس بأسلوبهم هذا! ويا لقساوة الأفكار التي عندهم عن حالات كهذه! فقبل كل شيء، استقبلتها أُمُّها نفسها بالغضب والاحتقار، قائلة: ‹لقد لطَّختِ شرفي بالعار! › فكانت الأم أول من نبذها من الخزي. وما أن سمع سكان القرية أن ماري عادت إلى بيتها، حتى ذهب كل واحد منهم ليراها هناك، وقد تجمَّعت القرية كلها تقريبا في كوخ المرأة العجوز — شيوخ، وأطفال، ونساء، وفتيات، وكل واحد فيها — حشد متلهف متعجِّل! وكانت ماري مستلقية على الأرض، عند قدمي العجوز، جائعة رَثَّة الثياب، وكانت تبكي. فلَمَّا رأت جميع هؤلاء الناس يهرعون إلى داخل البيت، أخفت وجهها بشعرها المنفوش ووجهها ملتصق بالأرض. وكان الجميع ينظرون إليها نظرتهم إلى حيوان حقير؛ إذ كان كبار السِّنِّ يلومونها ويذمُّونها، والشباب يضحكون منها؛ والنساء يشتُمنَها ويُسِئْنَ إليها وينظُرنَ إليها باشمئزاز وتقزُّز، كما لو كانت عنكبوتا. ولقد سمحت الأم بهذا كله؛ وكانت تهزُّ رأسها موافقة على ذلك. وكانت الأم مريضة للغاية في ذلك الوقت وعلى حافة الموت تقريبا: وقد ماتت فعلا بعد شهرين. وكانت الأم تعلم أنها ستموت قريبا، ولكنها إلى أن ماتت لم تفكر ولا في الأحلام في أن تصالح ابنتها. حتى إنها أصبحت لا تكلمها، وصارت تجبرها على أن تبيت في غرفة المدخل، ونادرا ما كانت تطعمها. وكانت الأم في حاجة دائمة إلى غمر رجليها المريضتين في حمام ماء ساخن. فكانت ماري تُحمِّم رجليها كل يوم وتخدمها. أمَّا الأم فكانت تقبل جميع خدماتها بصمت ودون أيِّ كلمة شكر، فلم تقُلْ لماري أيَّ كلمة طيبة مطلقا. وكانت ماري تتحمل كل شيء. وبعد ذلك، حين تعرَّفتُ عليها، لاحظتُ أنها كانت ترى أن لا ضير من تلك المعاملة، وتعتبر نفسها الأقل شأنا من بين الناس. وحين أصبحت الأم طريحة الفراش تماما، أخذت عجائز القرية يَجِئْنَ إليها ليجلِسْنَ بجوار سريرها بالتناوب، كما جرت العادة عندهم. بعدئذ، توقفوا كلهم عن إطعام ماري، وأصبح الناس في القرية يطردونها، حتى إنَّ لا أحد منهم وافق على تشغيلها بأيِّ عمل كان كما في السابق. وكان الجميع تقريبا يبصقون عليها، ولم يَعُد الرجال ينظرون إليها كامرأة؛ فكانوا يقولون لها شتى أنواع الكلام البذيء. وكانوا في بعض الأحيان، حين يكونون سكارى يوم الأحد، يُسَلُّون أنفسهم بأن يرموا لها على الأرض دريهمات قليلة، فتجمعها ماري صامتة. وكانت منذ ذلك الحين قد أخذت تبصق دما. وصارت أسمالها آخر الأمر قطعا ممزقة، لدرجة أنها أصبحت تستحي أن تظهر للناس في القرية. وكانت منذ عودتها قد أخذت تمشي حافية القدمين.

«بعد ذلك، بدأ الأطفال على وجه الخصوص، فوج كامل منهم — إذ كان هناك نحو أربعين تلميذا — يلاقونها بصيحات الازدراء والسخرية علنا، حتى أنهم كانوا يرمونها بالوحل. وطلبت ماري من راعي الماشية أن يسمح لها برعاية الأبقار، ولكن الراعي طردها. وأخذت مع ذلك تسير وراء القطيع إلى المرعى كل صباح وترعاه من تلقاء نفسها دون أن يأذن لها الراعي بذلك. ولَمَّا لاحظ الراعي أنها تنفعه في عمله كثيرا، أصبح لا يطردها، حتى أنه أصبح يعطيها أحيانا ما تبقى من عشائه من خبز وجبن. وكان يعتبر ذلك إحسانا منه ونعمة كبرى يَمُنُّ بها عليها. وحين ماتت أمها، لم يتردد القسيس في أن يضع أكداسا من العار على ماري على مسمع ومرأى من جميع الناس في الكنيسة. وكانت ماري واقفة تبكي بجانب التابوت بثيابها البالية. وتجمَّع حشد من الناس للنظر إليها وهي واقفة بجانب التابوت وتبكي. أمَّا القسيس — الذي كان شابا، وكان طموحه كله أن يصبح واعظا عظيما — فأشار في تلك اللحظة إلى ماري وخطب إلى الجميع قائلا: ‹ترون هنا سبب وفاة هذه المرأة العزيزة.› (غير أن كلامه لم يكن صحيحا، لأن المرأة كانت مريضة لمدة عامين)؛ وأردف قائلا: ‹وها هي واقفة أمامكم لا تجرؤ أن ترفع عينيها وتنظر إليكم، لأن أصبع الله دمغها؛ وها هي حافية القدمين ممزقة الثياب — وعِبرة لجميع أولئك الذين يفقدون الفضيلة! ومَنْ هي؟ هي ابنتها نفسها!› وواصل القسيس كلامه على المنوال نفسه. ولكن أتصدقون أن هذا التصرُّف الشائن من جهة القسيس قد أرضى جميع الناس تقريبا؟! ولكن ... بعدئذ، أخذت الأمور منعطفا مختلفا. فقد تحزَّب الأطفال لماري، لأنهم في ذلك الأوان صاروا كلهم إلى جانبي وبدؤوا يحِبُّون ماري.
«وإليكن تفصيل ما حدث ... كنتُ أريد أن أصنع إلى ماري معروفا. وكانت في حاجة ماسة إلى شيء من المال، ولكني لم أكن أملك قرشا واحدا آنذاك. وكان لديَّ دَبُّوس صغير له فص من ماس، وبعته لبائع متجوِّل يتنقل من قرية إلى قرية، ويشتري ويبيع ملابس قديمة. فأعطاني ثمانية فرنكات فقط حقَّ الدَّبُّوس؛ رغم أن قيمة الدَّبُّوس كانت بالتأكيد تساوي أربعين فرنكا. وكنتُ أحاول لوقت طويل أن ألتقي بماري على انفراد. فالتقينا أخيرا بجانب سياج من شجيرات خارج القرية، في ممر فرعي يؤدي إلى الجبل، ووقفنا خلف شجرة. ثم أعطيتها الثمانية فرنكات، وأوصيتها بأن تحرص عليها، لأنه لم يكن في وسعي جلب المزيد لها. ثم قَبَّلْتُها وقلتُ لها إنها يجب أن لا تظن أني لديَّ أيُّ نيَّة شريرة، وإنني لم أقبِّلها لأنني مغرم بها، بل لأنني أرثي لحالها، وقلتُ لها إنني منذ البداية لم أعتبرها مطلقا آثمة بل مجرد تعيسة. وكنتُ أرغب رغبة قوية في مواساتها وتعزيتها وإقناعها بأنها يجب عليها أن لا تعتبر نفسها دون الجميع، ولكنني أعتقد أنها لم تفهم كلامي. وقد أحسستُ أنا ذلك على الفور، رغم أنها ظلَّت صامتة طول الوقت تقريبا، وواقفة أمامي مُطرِقة إلى الأرض، خافضة عينيها بخجل كبير. فلَمَّا فرِغتُ من كلامي، قَبَّلَتْ يديَّ، وأخذتُ يدها على الفور لأُقَبِّلها، ولكنها سحبتها. فكانت تلك اللحظة هي اللحظة التي شاهدنا فيها الأطفال، مجموعة كبيرة منهم. وقد علمتُ لاحقا أنهم كانوا يراقبونني منذ مدة طويلة. فأخذ الأطفال يُصفِّرون صفيرا عاليا، ويصفِّقون بأيديهم تصفيقا قويا، ويضحكون ضحكا عاليا، أمَّا ماري فهربت من هناك. وحاولتُ أن أكلِّمهم، ولكنهم أخذوا يلقون بالحجارة عليَّ.
«وعلم جميع الناس بالنبأ في ذلك اليوم نفسه، فعلمتْ به القرية كلها. ووقع اللوم كله على ماري مرة أخرى؛ فأخذوا يحتقرونها أكثر من أيِّ وقت مضى، حتى أني سمعت أنهم يريدون أن تعاقبها السلطات، ولكن ذلك لم يتحقق والحمد لله. غير أن الأطفال لم يتركوها في سلام: فقد أغاظوها أكثر من ذي قبل وأخذوا يرمونها بالوحل؛ وصاروا يطاردونها، وكانت تهرب منهم، هي التي كانت رئتاها ضعيفتين، وكانت تنهج وتلهث. ورغم كل ذلك، فإنهم استمروا في مطاردتها، صارخين عليها وشاتمينها. واضطررتُ مرة إلى التدخُّل بالقوة ولكن بأسلوب إيجابي؛ وبدأتُ بعد ذلك التكلُّم معهم كل يوم كلما سنحت لي الفرصة بذلك. فكانوا يقفون في بعض الأحيان ليُصغوا إلى كلامي، ولكنهم مع ذلك كانوا يغيظون ماري. وأخبرتهم عن مدى شقاء ماري، فما هي إلاَّ فترة وجيزة حتى أخذوا يكفُّون عن إهانتها، ويَدَعونها تمرُّ صامتين. وتوصَّلنا شيئا فشيئا، أنا والأطفال، إلى أسلوب التحادث، ولم أُخفِ عنهم شيئا، بل أخبرتهم بكل شيء. فكانوا ينصتون إليَّ بكثير من الاهتمام، وسرعان ما أخذوا يرثون لحال ماري، ويشفقون عليها. حتى إنَّ بعضهم صار يُحَيِّيها بلطف عندما كان يقابلها بالصدفة قائلا: ‹صباح الخير.› وكانت العادة في القرية أن يُحَيِّي الناس بعضهم بعضا بتحية الصباح إذا تلاقوا في الأزقة، سواء كانوا متعارفين أو غير متعارفين. ويمكنني أن أتخيَّل مدى دهشة ماري من تلك التحيات الأولى التي صدرت عن الأطفال. ففي ذات يوم، حصلت فتاتان صغيرتان على شيء من الطعام وحملتاهُ إليها، ثم جاءتا ترويان لي ذلك. فقالتا إنَّ ماري تأثَّرت وأخذتْ تبكي، وإنهما الآن تحبانها كثيرا. ولم تمضِ مدة طويلة حتى أخذ جميع الأطفال يحِبُّونها، وزادت لديهم في الوقت نفسه أكبر مشاعر المحبة والأُلفة نحوي أنا أيضا. فأصبحوا يأتون إليَّ في أحيان كثيرة، ويطلبون مني أن أروي لهم قصصا. وأظن أنني كنت أجيد رواية القصص، لأنهم أصبحوا يحِبُّون كثيرا سماعها مني. وبعد ذلك، بدأتُ أقرأ وأطالع لمجرد أن يكون لديَّ المزيد لأحكيه لهم، لذلك كنتُ غالبا ما أحكي لهم قصصا في السنوات الثلاثة الأخيرة.
«وفيما بعد، وعندما أخذ الناس يلومونني — ومنهم الطبيب شنايدر — على أنني أكلِّم الأطفال الصغار كما لو كانوا أشخاصا كبارا، دون أن أخفي عنهم شيئا، قلتُ لهم إنه من العار أن نخدع الأطفال؛ وإنهم يفهمون كل شيء على أيِّ حال، مهما كثرت الأمور المخفية عنهم، وإنَّ ما نخفيه عنهم قد يتعلَّمونه تعلُّمًا فاسدًا، أمَّا أنا فأُعلِّمهم إياه بطريقة سليمة. ولا يحتاج المرء سوى أن يتذكَّر طفولته ليدرك صحة الحقائق في ما أقول. ولكنهم لم يقتنعوا بكلامي ... وكنتُ قد قَبَّلْتُ ماري قبل موت أمها بنحو أسبوعين؛ ولكن حين خطب القسيس مُحرِّضا الناس في الكنيسة على ماري، كان جميع الأطفال قد انحازوا سلفًا إلى صفِّي. وحدَّثتهم في الحال عن عمل القسيس المُشين وشرحته لهم. فغضبوا جميعا عليه، حتى أن بعضهم بلغ به الغضب أنه كسر له زجاج نوافذ بيته بالحجارة. وطبعا، أوقفتهم عن ذلك، لأنه عمل سيء؛ غير أن جميع أهل القرية سمعوا بذلك في الحال، فأخذوا يتهمونني بأنني أُفسِد الأطفال. ثم أدركوا جميعا أن الأطفال أصبحوا يحِبُّون ماري، فارتعبوا بشدة؛ أمَّا ماري فكانت فرحانة جدا. وبلغ من أهل القرية القلق لدرجة أنهم حَظَروا على أطفالهم مقابلتها، ولكن الأطفال كانوا يركضون إلى خارج القرية إلى مكان القطيع الذي كانت ماري ترعاه، حيث يبعد بنحو نصف ميل عن القرية. فكان بعضهم يحمل إليها أطعمة لذيذة، أمَّا البعض الآخر فكان يركض إلى هناك لمجرد معانقتها وتقبيلها وأن يقول لها: ‹أنا أحبك يا ماري› ثم يعودون إلى القرية راكضين بأسرع ما يمكن أن تتحملهم أرجلهم. غير أن ماري طارت من الفرح بسبب هذه السعادة غير المتوقعة؛ فإنها لم تحلم مطلقا بإمكانية حدوثها في يوم من الأيام. فكانت ماري خجلانة من كثرة الإحسان إليها وفرحانة كثيرا. أمَّا الأطفال، ولاسيَّما البنات، فكانوا يحِبُّون على الأكثر أن يركضوا إليها ليقولوا لها بأنني أحبها، وبأنني أحدِّثهم عنها كثيرا. وحكوا لها أنهم قد علموا مني كل شيء عنها، وأنهم الآن يحِبُّونها ويرثون لحالها ويشفقون عليها، وستظل مشاعرهم نحوها هكذا دائما. وكانوا من بعد ذلك يركضون إليَّ بوجوه مليئة بالبهجة والسرور، ليقولوا لي إنهم رأوا ماري قبل قليل، وإنها تسلِّم عليَّ. وكنتُ عادة ما أتمشى في المساء إلى الشلال؛ وكانت هناك بقعة واحدة مخفية تماما عن القرية وتحيط بها أشجار الحور. وكان الأطفال يجتمعون حولي هناك في المساء، حتى أن بعضهم كان يأتي سِرًّا. وكان حبي لماري يسعدهم أكبر السعادة، وكانت تلك هي النقطة الوحيدة التي خدعتهم فيها. إذ إنني لم أخبرهم بأنهم كانوا متوهمين، وبأنني لم أكن أحب ماري، وإنما كنت أرثي لحالها كثيرا فقط. فرأيت أنهم أرادوا أخذ الموضوع كما كانوا يتصورونه، وكان لديهم فرح كبير فيه، ولذا لم أقُلْ شيئا وتظاهرتُ بأن تخمينهم صائب.
«فيا لمشاعر الرقة والحنان التي أظهرتها تلك القلوب الصغيرة! فلم يتحمل الصغار فكرة أن تظل ماري بهذه الهيئة الرديئة جدا، رَثَّة الثياب وحافية القدمين، تلك المرأة التي يحبها صديقهم العزيز ليون. فهل تصدقون أنهم تمكنوا من أن يجلبوا لها حذاء وجوارب وملابس كتانية بل حتى ثوب لا بأس به. أمَّا كيف تمكنوا من تدبير كل ذلك فلا يسعني استيعابه. فقد عمل حشد الأطفال بأكمله. وعندما سألتهم لأستفهم منهم، فإذا بهم يضحكون فقط بمرح، وكانت البنات يُصَفِّقْنَ بأيديها ويُقَبِّلني. وكنتُ أنا أيضا أذهب سِرًّا في بعض الأحيان لرؤية ماري. فقد تفاقم مرضها في ذلك الوقت تفاقما شديدا فلم تكد تستطيع أن تمشي. وتوقفتْ أخيرا عن العمل للراعي، ولكنها ظلت تخرج مع القطيع كل صباح. وعادة ما كانت تجلس بقرب القطيع. وكانت هنالك صخرة تهبط هبوطا عموديا وفيها ما يشبه أن يكون مصطبة بارزة، فكانت ماري تجلس في القاع على الصخرة بعيدا عن الأنظار، في الزاوية، وتلبث على هذه الحال لا تكاد تتحرك، من الصبح حتى ساعة عودة القطيع إلى القرية. وفي ذلك الوقت، كانت واهنة جدا بسبب مرض السُّلِّ حتى صارت تجلس في معظم الأحيان مغمضة العينين ومُسنِدة رأسها إلى الصخرة وهي تغفو وتتنفس بكثير من العناء. وبلغ وجهها من الهزال لدرجة أنه أصبح أشبه بهيكل عظمي، وكان العرق يتصبب على جبينها وجانبي وجهها. وكنتُ أجدها على هذه الحال دائما. وكنتُ لا أزورها إلاَّ للحظة قصيرة، فقد كنتُ أنا أيضا أحرص على أن لا يراني أحد. فما أن أظهر لها حتى تنتفض وتفتح عينيها وتهرع تُقَبِّل يديَّ. فأصبحتُ لا أسحب يديَّ حين تُقَبِّلهما، فقد لاحظتُ أن تقبيل يديَّ يسعدها. وكانت ترتعش وتبكي طوال وقت جلوسي معها. وقد حاولتْ بالفعل أن تتكلَّم في بعض الأحيان، ولكن كان من الصعب فهمها. وكانت في بعض الأوقات كالمجنونة، من فرط انفعالها الرهيب وانشداهها المذهل. وكان الأطفال يصحبونني أحيانا. وقد ألِفوا في مثل تلك الأحوال أن يقفوا غير بعيد، ليقوموا بمهمة الحراسة والحماية، وكان ذلك يبهجهم كثيرا! حتى إذا انصرفنا بقيت ماري وحيدة من جديد، مغمضة العينين، مسندة رأسها إلى الصخرة، لَعَلَّها كانت تحلم بشيء ما.
«وفي ذات صباح، لم تقوَ على أن تتبع القطيع، ولبثت في كوخها الصغير المهجور. وسرعان ما علم الأطفال بذلك، فجاءوا كلهم تقريبا يزورونها في ذلك اليوم. وكانت هي مستلقية على سريرها وحيدة تماما. وقام الأطفال لوحدهم برعايتها مدة يومين، فقد سارعوا لزيارتها بالتناوب لتقديم لها الرعاية؛ ولكن عندما عرف أهل القرية أن ماري تحتضر فعلا، جاءت عجائز تجلس بقربها وتعتني بها. وأنا أعتقد أن الناس في القرية أخذوا يُشفقون عليها؛ وعلى كل حال، لقد توقف الناس عن توبيخ الأطفال ومنعهم من رؤيتها، كما كانوا يفعلون من قبل. وكانت ماري في حالة نوم طوال الوقت، إلاَّ أن نومها كان متقطعا — إذ كان يمزِّق صدرها سعال رهيب. وكانت العجائز تخرج الأطفال من الدار، إلاَّ أن الأطفال كانوا يهرعون إلى النافذة ولو للحظة قصيرة ليقولوا: ‹نهارك سعيد يا ماري العزيزة! › فكانت ما أن تراهم أو تسمعهم حتى تنتعش، وكانت تحاول رفع نفسها مستندة على كوعها وتحييهم بِهزِّ رأسها وتشكرهم، غير مبالية بالعجائز. وعادة ما كان الأطفال يجلبون لها الحلوى، ولكنها نادرا ما كانت تقدر على أن تأكل شيئا منها. وأؤكد لكم أنها ماتت سعيدة للغاية بفضل محبة الأطفال لها. وبفضلهم نسيتْ شقاءها المرير؛ وكأنهم جلبوا لها غفران خطاياها، لأنها ظلت إلى النهاية تعتقد أنها خاطئة كبيرة. وفي كل صباح، كان الأطفال يتدافعون على نافذتها تدافع الطيور التي تضرب زجاج نافذتها بأجنحتها، ويصيحون قائلين لها: ‹نحن نحبك يا ماري!›
«وماتت ماري بسرعة. وكنت أظن أنها كانت ستعيش زمنا أطول من ذلك بكثير. ففي اليوم السابق لوفاتها، ذهبتُ لكي أزورها عند غروب الشمس للمرة الأخيرة؛ ولابد أنها عرفتني، لأنها مسكت يدي بحرارة ضاغطة عليها. ولكن كم كانت يدها هزيلة! وفي صباح اليوم التالي، جاءوا إليَّ وقالوا لي إنَّ ماري قد ماتت! فأصبح من المستحيل عندئذ ضبط الأطفال. فقد زينوا تابوتها بالورود، ووضعوا إكليلا على رأسها. ولم يقُم القسيس بأيِّ تحقير للميتة في الكنيسة في هذه المرة. ومهما يكن من أمر، فإنَّ الذين حضروا الدفن كانوا قِلَّة قليلة من الفضوليين؛ ولكن عندما حان وقت رفع التابوت وأخذه إلى المقبرة، هرع الأطفال جميعهم نحوه ليحملوه بأنفسهم. وبالطبع لم يتمكنوا من فعل ذلك بمفردهم، ولكنهم أصروا على المساعدة وتعاونوا في حمله، وأخذوا يسيرون بجانب التابوت وخلفه، وهم يبكون. ومنذ ذلك الحين، قام الأطفال بالاعتناء بقبر ماري؛ فكانوا يزرعون الورود حوله ويزينونه بالزهور كل عام.
«ومنذ أن دُفِنتْ ماري أخذ أهل القرية يضطهدونني بسبب قضية الأطفال. وكان الكاهن ومدير المدرسة من أكبر المُحرِّضين على اضطهادي. حتى أن أهل القرية حرَّموا على الأطفال أن يروني، ووعد الطبيب شنايدر بأن يسهر على تنفيذ ذلك. ولكننا مع ذلك فقد رأى بعضنا بعضا بالفعل؛ وكنا نتخاطب بالإشارات من بعيد. وعادة ما كانوا يرسلون إليَّ خطابات صغيرة. وفي النهاية، تمت تسوية الأمور؛ غير أن ما حدث كان حسنا جدا في ذلك الوقت. فقد قرَّبني ذلك الاضطهاد من الأطفال بشكل غير مسبوق.
«في السنة الأخيرة، تصالحتُ تقريبا مع القسيس ومدير المدرسة جوليس تيباو. أمَّا الطبيب البروفسور شنايدر فكان يجادلني كثيرا في ‹نظامي› الضار للتعامل مع الأطفال، كما لو كان لدي نظام. فيا له من هراء! وفي النهاية، أفصح شنايدر لي عن فكرة غريبة جدا — وحدث هذا قُبيل سفري مباشرة. فقال لي إنه توصَّل إلى استنتاج مفاده أنني أنا نفسي طفل حقا، طفل من جميع النواحي، وأنني ليس لي من صفات الشخص البالغ الراشد إلاَّ القامة والوجه، أمَّا من ناحية التطور الداخلي، والنفس، والشخصية، وربما الذكاء أيضا، فما أنا بالشخص البالغ الراشد، وأنني قد أظل على هذه الحال حتى لو عشتُ ستين عاما. فضحكتُ كثيرا جدا. فقد كان مُخطئا طبعا، لأنني لست طفلا. ولكنه كان على حقٍّ في نقطة واحدة وهي أنني لا أحب صحبة الكبار. وقد عرفتُ ذلك منذ وقت طويل. فلا تُعجبني عشرتهم لأني لا أعرف كيف انسجم معهم. فمهما يقولوا لي من كلام حسن، ومهما يُظهِروا لي من طيب، فإنني أشعر دائما بضيق معهم، حتى إذا استطعتُ أن أتركهم وأن أمضي إلى رفاقي أحسستُ بارتياح وغبطة؛ ورفاقي هم دائما أطفال، لا لأنني أنا نفسي طفل، بل لأنهم يجتذبونني لا أكثر! فإنني منذ بداية إقامتي في تلك القرية، وأثناء نزهاتي الحزينة التي كنتُ أقوم بها في الجبال بمفردي، كنتُ إذا التقيتُ أحيانا، ولاسيَّما عند الظهر، ساعة الخروج من المدرسة، بتلك المجموعة الصاخبة من الأطفال الذين يركضون حاملين حقائبهم وألواحهم، ويصرخون ويضحكون ويلعبون، كنتُ أشعر آنذاك أن نفسي كلها تتجه إليهم وتندفع نحوهم على الفور. ولا أدري كيف أفسِّر هذا وكيف أعلله، ولكنني ما التقيتُ بهم مرة إلاَّ وشعرتُ بسعادة قوية تملأ قلبي وتغمر نفسي. وكنتُ أتوقف وأضحك سعيدا، حين أرى أرجلهم الصغيرة المتحركة النشيطة المتراكضة، وحين أرى هؤلاء الأولاد والبنات يركضون معا، وحين أرى ضحكاتهم ودموعهم (ذلك أن عددا منهم كان يتَّسع الوقت لديهم أثناء الطريق من المدرسة إلى المنزل، للمشاجرة والبكاء والمصالحة ومعاودة اللعب)، وكنتُ عندئذ أنسى جميع أفكاري الحزينة. وبعد ذلك طوال تلك السنوات الثلاثة، أصبحتُ لا أستطيع حتى أن أفهم كيف ولماذا يمكن أن يشعر البشر بالحزن. فقد كانت حياتي كلها متمركزة على الأطفال.
«لم أفكر يوما في أن أترك تلك القرية، ولا خطر ببالي ساعة أنه ينبغي أن أعود إلى روسيا في يوم من الأيام. وكنتُ أحسبُ أنني سأبقى هناك دائما. ولكنني رأيتُ أخيرا أن الطبيب شنايدر في الحقيقة لم يتمكن من الاحتفاظ بي لفترة أطول ولم يرِدني أن أكون عالة عليه؛ وفي ذلك الأوان إنما حدث أمر يبلغ من خطورة الشأن، فيما يظهر، لدرجة أن شنايدر نفسه استحثَّني على الرحيل، وكتب رسالة جوابية باسمي قائلا بأني قادم. وسوف أتقصَّى الأمر، وأطلب النصح بشأنه. وربما يتغير نصيبي في الحياة؛ ولكن هذا ليس الشيء الرئيسي. فإنَّ الشيء الرئيسي هو التغيير الشامل الذي جرى لي سلفًا. فقد تركتُ هناك أشياء كثيرة — كثيرة جدا. فقد مضت كلها. وعندما جلستُ في القطار، قلتُ لنفسي: ‹أنا الآن ذاهب لأعيش بين الناس. وربما لا أعرف الكثير، غير أني قد بدأتُ حياة جديدة. › فصممتُ أن أنجز مهمتي بعزم وإخلاص. وربما تصادفني المشاكل وخيبات الأمل عندما أعيش بين الناس، ولكنني، وقبل كل شيء، قررتُ أن أكون لطيفا وصريحا مع الجميع؛ ولا شك في أنهم لن يطالبوني بأكثر من ذلك. وربما هنا أيضا سيرونني كطفل؛ ولكن، لا بأس من ذلك. إذ يراني الجميع كأبله لسبب ما، فصحيح أني كنتُ ذات مرة مريضا جدا لدرجة أنني كنت حقا وكأنني كالأبله؛ ولكنني لست بأبله الآن. فكيف يمكنني أن أكون أبله عندما يكون بمقدوري أن أرى بنفسي أن الناس يعتبرونني أبله؟ وعندما أدخل مكانا، أقول في نفسي: ‹أراهم ينظرون إليَّ نظرتهم إلى أبله، ولكنني عاقل، غير أنهم لا يُقَدِّرون ذلك. › ... فغالبا ما تراودني هذه الفكرة.
«حين تلقَّيتُ في مدينة برلين الرسائل الصغيرة التي استطاع الأطفال فعلا أن يرسلوها إليَّ من هناك، أدركتُ أخيرا مدى محبتي لهم. فأثارت الرسالة الأولى مشاعر مؤلمة في داخلي! فما أشدَّ حزنهم حين صحبوني إلى محطة القطار! فكانوا قد بدأوا يستعدُّون لرحيلي قبل شهر من سفري، قائلين: ‹ليون مسافر، ليون مسافر، وإلى الأبد! › وأصبحنا نلتقي قرب الشلال في كل مساء، كما عهدنا ذلك سابقا، ونتحدث عن فراقنا. وكنا أحيانا مرحين كما كنا من قبل؛ ولكنهم تعوَّدوا حين يتركونني ليذهبوا إلى النوم، أن يُقَبِّلوني ويعانقوني بحرارة، الأمر الذي لم يفعلوه من قبل. وكان بعضهم يأتي سِرًّا لرؤيتي بنفسه، لمجرد تقبيلي ومعانقتي بمفرده، وليس أمام جميع بقية الأطفال. وفي يوم رحيلي، جاءوا مجموعة واحدة ليصحبوني إلى المحطة. وإنَّ المحطة تبعد عن قريتنا مسافة ميل. وحاولوا عدم البكاء، ولكن بعضهم لم يستطِع السيطرة على نفسه وبكى بصوت عالٍ، خاصة الفتيات. فمشينا بخطى سريعة حتى لا نصل متأخرين، ولكن كان أحدهم يندفع من بين الحشود بين الحين والآخر لإلقاء ذراعيه الصغيرتين حولي وتقبيلي وإيقاف الموكب بأكمله لمجرد ذلك السبب. ومع أننا كنا في عجلة من أمرنا، إلاَّ أننا كنا نتوقف جميعنا عن المشي، وننتظره ليكمل توديعي. وحين ركبتُ وتحرَّك القطار، هتفوا كلهم: ‹هَلِّلويا! › ولبثوا في أماكنهم إلى أن اختفى القطار عن أبصارهم اختفاء تاما، وكنتُ أنا أيضا أنظر إليهم ...»
المقالة مقتطفة من كتاب «الإنجيل في روايات دوستويفسكي»