Subtotal: $
Checkoutأنقياء القلوب
الزواج لا يضمن حياة العفاف
بقلم يوهان كريستوف آرنولد Johann Christoph Arnold
22 يونيو. 2022
هنيئًا لأنقياءِ القُلوبِ، لأنَّهُم يُشاهِدونَ اللهَ.
هذِهِ الوُعودُ وهَبَها اللهُ لنا، أيُّها الإخوةُ، فلنُطَهِّرْ أنفُسَنا مِنْ كُلِّ ما يُدنِّسُ الجَسَدَ والرُّوحَ، ساعينَ إلى القَداسَةِ الكامِلَةِ في مَخافَةِ اللهِ.
متى 5: 8 وَ 2 كورنثوس 7: 1
سورين كيركغارد Søren Kierkegaard (فيلسوف ولاهوتي دانماركي كبير)، يقول: «إنّ نقاء القلب يعني أن يشاء المرء أمرا واحدا؛ وهذا الأمر الواحد هو الله ومشيئته.» إذ تظل قلوبنا منقسمة في الحياة المنعزلة عن الله، ولا أمل لها في الالتئام. فما النجاسة إذن؟ إنّ النجاسة أو وساخة القلب هي الانفصال عن الله. والنجاسة في المجال الجنسي هي إساءة ممارسة الجنس، الأمر الذي يحدث عندما يُمارَس الجنس بأيّ طريقة يحرّمها الله.
إنّ النجاسة لا تنجسنا من الخارج أبدا. ولا يسعنا مسحها وتنظيفها وإزالتها سطحيا على الإطلاق. فتأصُّلها في مخيلتنا، وتنفث من داخلنا كالبثور المتقرِّحة، كما قال يسوع المسيح:
فأجابَ: «أأنتُم حتى الآنَ لا تَفْهَمونَ؟ ألا تَعرِفونَ أنَّ ما يَدخُلُ فمَ الإنسان يَنْزِلُ إلى الجوفِ، ومِنهُ إلى خارجِ الجسَدِ؟ وأمّا ما يَخرُجُ مِنَ الفَمِ، فمِنَ القلبِ يَخرُجُ، وهوَ يُنجِّسُ الإنسانَ. لأنَّ مِنَ القَلبِ تَخرُجُ الأفكارُ الشِّرّيرةُ: القَتلُ والزِّنى والفِسقُ والسَّرقَةُ وشَهادَةُ الزُّورِ والنَّميمةُ، وهيَ التي تُنَجِّسُ الإنسانَ. أمّا الأكلُ بأيدٍ غيرِ مَغسولةٍ، فلا يُنجِّسُ الإنسانَ.» (متى 15: 16–20)
فالقلب الوسخ وغير النقي وغير العفيف لا يقنع أبدا، ولا يشبع أبدا، ولا يكتمل أبدا: فهو يريد دائما سرقة شيء ما لنفسه، ورغم ذلك يظل يشتهي المزيد. ثم إنّ وساخة القلب تلطِّخ النفس، وتُفسِد الضمير، وتُحطم تماسك الحياة، وتقود أخيرا إلى الموت الروحي.
لا يشبع القلب غير النقي ولا يتحرر.
كلما سمحنا لرذيلة النجاسة والأمور غير الشريفة بأن تلمس نفوسنا، فتحنا الباب لقوى شيطانية لها القدرة على بسط سيطرتها على جميع المجالات في حياتنا، وليس على المجال الجنسي فقط. فيمكن للنجاسة التخفّي بصورة ماكرة واتخاذ أشكال مختلفة بصورة غير محسوسة؛ مثل التولُّع بأنواع مختلفة من الرياضة الاحترافية وجعلها كإله؛ وقد تكون بهيئة نزعة طموحة لنيل حظوة عند الناس، أو فرض الهيمنة عليهم. فلو سيطر علينا وسيّرنا أيّ شيء آخر عدا المسيح، فسوف نعيش في نجاسة القلب، وعدم النقاوة.
وتتضمن النجاسة في المجال الجنسي استخدام شخص آخر لمجرد إشباع الغريزة. فنراها عندما يدخل الناس في مواقف حميمة من التقارب الجنسي بشتى أنواعه دون أيّ نية لتكوين رباط دائم.
وأبشع أشكال النجاسة عندما يتورط شخص في جماع جنسي (أو أيّ عمل جنسي آخر) من أجل الحصول على المال. فإنّ شخصا كهذا «يصير واحدا مع العاهر أو العاهرة،» (راجع 1 كورنثوس 6: 16). وسبب ذلك أن الشخص يستخدم جسد كائن بشري آخر كمجرد شيء ماديّ، ووسيلة إشباع الذات. وبفعلته هذه، فإنه يقترف جريمة بِحقّ الشخص الآخر، بل بِحقّ نفسه أيضا، كما يقول الإنجيل:
أما تَعرِفونَ أنَّ أجسادَكُم هيَ أعضاءُ المَسيحِ فهَلْ آخُذُ أعضاءَ المَسيحِ وأجعَلُ مِنها أعضاءَ امرأةٍ زانِيَةٍ لا، أبدًا أمْ إنَّكُم لا تَعرِفونَ أنَّ مَنِ اتَّحدَ بامرأةٍ زانيةٍ صارَ وإيَّاها جسَدًا واحِدًا فالكِتابُ يَقولُ يَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحِدًا. ولكِنْ مَنِ اتَّحَدَ بالرَّبِّ صارَ وإيَّاهُ رُوحًا واحِدًا. اهرُبوا مِنَ الزِّنى، فكُلُّ خَطيئَةٍ غَيرُ هذِهِ يَرتكِبُها الإنسان هيَ خارِجَةٌ عَنْ جَسَدِهِ. ولكِن الزّاني يُذنِبُ إلى جَسَدِهِ. ألا تَعرِفونَ أنَّ أجسادَكُم هِيَ هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ الذي فيكُم هِبَةً مِنَ اللهِ فَما أنتُم لأنفُسِكُم، بَلْ للهِ. هوَ اشتَراكُم ودَفَعَ الثَّمنَ. فمَجِّدوا اللهَ إذًا في أجسادِكم. (1 كورنثوس 6: 15–20)
إنّ الجنس الذي يُمارَس من أجل مصلحته الذاتية هو جنس منفصل عن الله حتى لو كان في إطار الزواج. وكما كتبتْ الأستاذة الجامعية الكاثوليكية لمادة الفلسفة فون هيلدابراند von Hildebrand أن الجنس في هذه الحالة يمتلك حلاوة سامة تشلّ العلاقات وتدمّرها.
غير أننا سنرتكب خطأ فادحا لو تصورنا أن نقيض مشكلة النجاسة الجنسية والفحشاء هو انعدام المشاعر الجنسية. وفي الواقع، لا يكون بالضرورة الافتقار إلى الوعي الجنسي أرضا خصبة للعِفَّة والنقاوة. فمن يفتقر إلى الشعور المرهف للجنس هو في الحقيقة شخص غير كامل: فإنه يفتقر (أو تفتقر) إلى عنصر مهم في ميوله الطبيعية وتركيبته الداخلية، إضافة إلى افتقاره إلى عنصر يضفي على كيانه (أو كيانها) لونا مميّزا، لو جاز التعبير.
إنّ الذين يسعون إلى حياة العِفَّة والنقاوة لا يحتقرون الجنس، بل إنهم، وبكل بساطة، متحررون من الخوف الذي يفرزه الاحتشام المتزمّت والمفرط، والخوف الذي تفرزه أيضا مظاهر الرياء الزائفة والمُقزِّزة. غير أنهم لا يفقدون أبدا التوقير نحو سِرّ الجنس، بل يصونون أنفسهم منه إلى أن يدعوهم الرب للدخول إلى أرض الجنس بواسطة الزواج.
وبالنسبة إلى المسيحيين العزاب، لا يكمن الحلّ في كبت المشاعر الجنسية؛ إذ لا يمكن الحصول على حياة العفاف والنقاوة والقداسة إلّا بتسليم المشاعر الجنسية للمسيح تسليما كاملا، ووضع الأمر كله بيده، والانقياد لإرادته. وينطبق ذات الأمر على الزواج. فإنّ القداسة المتميزة للمجال الجنسي في الزواج يعهد بها الشريكان أحدهما إلى الآخر. غير أن هذه العطيّة، بمعناها السامي المُقدّس، لم تأتِ من فضلهما هما شخصيّا، ليهبها أحدهما إلى الآخر، بل هي عطيّة الله الذي خلقنا ككائنات جنسية. وعليه، كلما استسلمنا للتجربة وإغواء إبليس – حتى لو كانت مجرد في أفكارنا – اقترفنا ذنبا بِحقّ الله، الذي خلق الجنس فينا لتحقيق مقصده. وإنّ مقصده هو قدسية الزواج.
عموما، يشاء الله أن ينعم على قلب كل إنسان بانسجام روحي ووضوح قاطع خالٍ من الالتباسات. ويتضمن ذلك وضوحا تاما عن حياة العِفَّة والنقاوة، كما يوصينا الإنجيل:
اِقْتَرِبُوا إِلَى اللَّهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ. (يعقوب 4: 8)
وكما يكتب ايبرهارد آرنولد، فيقول:
لو افتقر قلب الإنسان إلى رؤية واضحة عن الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، ولو كان منقسما وغير موحَّد في كيانه – وغير «سليم» كما يصفه يسوع المسيح – فسوف يكون القلب ضعيفا وواهنا، ومتراخيا وعاجزا عن قبول مشيئة الله، وعن اتخاذ قرارات مهمة، وعن اتخاذ موقف قوي. فلهذا السبب علّق يسوع أهمية عظمى على كل من توحيد القلب، والبساطة، والوئام، والتضامن، والقطعيّة، والإقدام. فنقاوة القلب ما هي سوى نزاهة مطلقة، نحن في أمس الحاجة إليها، للتغلب على الشهوات التي تضعفنا وتقسّمنا. فإنّ ما يحتاج القلب هو عزيمة قوية أحادية الاتجاه، ليكون متفتِّحا، وصادقا ومستقيما، وواثقا وشجاعا، وثابتا وقويا.
السبيل الوحيد إلى العفاف هو التواضع.
في التطويبات التي ذكرها يسوع المسيح في موعظته على الجبل، بارك يسوع الأنقياء والودعاء؛ وقال إنهم سيرثون الأرض ويشاهدون الله. ثم إنّ فضيلتي النقاء والوداعة ترتبط إحداهما بالأخرى، لأن كلتيهما حصيلة تسليم الإنسان نفسه كليّا إلى الله. وفي الحقيقة، إنهما يتوقفان عليه. غير أننا لا نحصل على فضيلة النقاء والوداعة بالولادة؛ فينبغي خوض صراع لأجلهما باستمرار. فليس هناك أروع من فضيلتي النقاء والوداعة من بين الفضائل التي ينبغي أن يسعى إليها المسيحي.
لا يقتصر الصراع الروحي الذي يخوضه الإنسان ضد النجاسة الجنسية، والمغريات، والزِّنى، على الشباب. إذ لا يتناقص هذا الصراع عند الكثير من الناس حتى عندما يكبرون ويزداد رشدهم، بل يبقى صراعا شديدا لمدى العمر. وإنّ الاشتياق إلى العفاف والحياة الشريفة أمر صالح وضروري بالتأكيد، إلّا أنه يستحيل على المرء أن «يجزم» بعدم استسلامه للإغراءات مرة ثانية في المستقبل. فلذلك لا توهب عطيّة العفاف إلّا عندما يعيش الإنسان نعمة الغفران ويتذوّقها. غير أننا حتى لو اختبرنا الغفران مرة، سوف تستمر معركتنا مع هذه التجارب والإغراءات الجنسية دائما. ولكننا مع ذلك، يمكننا أن نتشدّد ونثق بالله. فلا يهم عدد المرات التي نتعرض فيها للتجارب الجنسية، ومحاولات إبليس للإيقاع بنا في الخطيئة، أو مدى الآلام الروحية الناجمة عن تلك التجارب؛ لأن يسوع المسيح سوف يتشفع لنا عند الله بالنيابة عَنّا لو سألناه ذلك. وسوف ننال بيسوع الانتصار على كل تجربة، فيقول الإنجيل:
ما أصابَتكُم تَجرِبَةٌ فوقَ طاقةِ الإنسانِ، لأنَّ اللهَ صادِقٌ فلا يُكَلِّفُكُم مِنَ التَّجارِبِ غَيرَ ما تَقدِرونَ علَيهِ، بَلْ يهَبُكُم معَ التَّجرِبَةِ وَسيلَةَ النَّجاةِ مِنها والقُدرَةَ على احتِمالِها. (1 كورنثوس 10: 13)
غير أن الإنسان المتواضع هو وحده القادر على اختبار طيبة الله الواسعة واللامحدودة. أما المتكبر فلا يمكنه ذلك أبدا. لأن المتكبرين يفتحون قلوبهم لجميع أنواع الشرور: فحشاء، وكذب، وسرقة، وروح القتل. وحيثما توجد واحدة من هذه الخطايا توجد الأخريات على مقربة منها. وإنّ الذين يسعون إلى فضيلة العفاف بقوتهم البشرية المحدودة، سيتعثرون دائما. ويبدو لهم فيما يظنون أنهم لديهم ثقة بالنفس، إلّا أنهم يقعون في الظلمة والخطيئة، لأنهم يعتقدون أنه بإمكانهم التعامل مع مشاكلهم بالاعتماد على ذاتهم.
لا يوجد فينا نحن البشر من لا يواجه إغواء وتجارب في المجال الجنسي، غير أن أملنا الوحيد في التغلب على هذه التجارب يكمن في استعدادنا للاعتراف بصراعنا في هذا المجال لشخص نثق فيه. وعندما نفعل ذلك، نجد أننا لسنا الوحيدين في هذا الصراع.
أخبرني شاب يدعى فرانك Frank عن صراعه الروحي من أجل حياة العفاف، فكتب لي رسالة يقول فيها:
لقد كنتُ أعتبر نفسي، ومنذ طفولتي، شخصا متميزا وشخصا «متديّنا.» وبمجرد ترسّخ هذه النظرة في داخلي، بدأتُ أستصعب كثيرا إخبار ومصارحة والديّ أو أيّ شخص آخر بمشاكلي. وبينما كنت أكبر استنفدتُ طاقتي كلها في محاولة أن أكون ولدا «فاضلا.» وكان يعجبني مراقبة الناس الذين كانوا يبدون في نظري ذوي شخصية قوية ومسيطرة، ومن ثم محاولة تقليدهم. وقد استمر لديّ هذا الهوس بالذات طوال سنوات دراستي في المعهد. واخترتُ أن أتبع الناس الأكثرية، وأنجرف إلى حيث يأخذني تيار الحياة الجامعية في الكُليّة.
وكلما كبرتُ، رأيتُ زملائي يصبحون راشدين نافعين يؤدون مهامهم على أكمل وجه. ولمّا فزعتُ من تخلفي عن الرُكَب، قمتُ بتهذيب جهودي لأخفي إحساسي العميق بعدم الثقة بالنفس، الأمر الذي استفحل حينها وتحوّل إلى اضطراب ذهني. وبدلا من البحث عن من هو حسن الخُلق لأقتدي به، توجهت نحو أولئك الذين كانوا في نظري موهوبين روحيّا، وحاولت تقليدهم.
وبمرور السنين، ازداد خوفي من وجود أمر فادح مزمن في حياتي. وبسبب تكبُّري الروحي، عذبني الألم وابتليت بسوء الظن والشكوك والكراهية. وفي الوقت نفسه، كان لدي علاقة غير شريفة سِرّا. ولكني أخفيت كل هذا، وعشتُ في خوف مستمر من أن ينكشف أمري.
لقد لاحظتُ في كثير من الأحيان على الذين كان يمكن مساعدتهم بمرحلة مبكرة، كيف يقعون فريسة اليأس وفقدان الأمل بالتخلّص من آثامهم، ومن ثم يغرقون أكثر فأكثر في الخطيئة الجنسية، أي بمعنى في الزنى. فتتراكم مشاكلهم كجبل من الثلج الذي ينهار لاحقا، ويسبب كارثة. حتى أن البعض منهم وصل لدرجة السقوط في حياة الجريمة والمخدرات والإدمان على المسكرات، لمجرد أنهم لا يرون أيّ مخرج من فخ الجنس الدنس. وفي أغلب الأحيان، فإنّ كل ما يحتاج إليه مثل هذا الشخص الغارق هو صديق أو قسيس يرشده إلى الله، ويشجّعه على العمل من أجل حياة الطهر والنقاوة التي يتشوّق إليها حقا. (فاتني القول إن فرانك في القصة السابقة تواجه أخيرا مع حالته الشخصية المزرية وطلب المساعدة). ثم إنّ الانهماك الشديد بالذات، الذي هو على الأغلب تكبُّر روحي متستِّر، يحجب عنه وعد الله العظيم بأنه يمكن التغلّب على كل تجربة – لو كان ببساطة راغبا في الاعتراف بسقطاته، والكفّ عن الانشغال بالذات.
أما المتواضعون فيستلهمون قوتهم من الله. فربما يسقطون، ولكن الله يمدّ يده إليهم دائما، ليرفعهم، وينجيهم من الدوامة المنحدرة.
ولابد من وضع كل شيء في حياتنا تحت لواء يسوع المسيح، وليس صراعاتنا الروحية فقط. لأن يسوع المسيح قادر على التغلب على الشهوات التي تمزقنا، وتبدد قوانا. فكلما زاد تملّك روحه القدوس علينا، زاد اكتشافنا لحقيقة شخصيتنا.
من هم أنقياء القلوب؟
نرى في الموعظة على الجبل، كيف يتناول يسوع بحزم المجاهدة اليومية من أجل العفاف والنقاء. ويقول: «مَنْ نظَرَ إلى اَمرأةٍ لِيَشتَهيَها، زَنى بِها في قلبِهِ،» وهذه الآية مأخوذة من هذا المقطع الإنجيلي:
وسمِعتُمْ أنَّهُ قيلَ: لا تَزنِ. أمَّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ نظَرَ إلى اَمرأةٍ لِيَشتَهيَها، زَنى بِها في قلبِهِ. فإذا جَعَلَتْكَ عَينُك اليُمنَى تَخْطَأ، فاَقلَعْها وألْقِها عَنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يُلقَى جَسدُكَ كُلٌّهُ في جَهَنَّمَ. وإذا جَعَلَتْكَ يدُكَ اليُمنَى تَخطأُ، فاَقطَعْها وألْقِها عنكَ، لأنَّهُ خَيرٌ لكَ أنْ تَفقِدَ عُضوًا مِنْ أعضائِكَ ولا يذهَبُ جسَدُكَ كُلُّه إلى جَهَنَّمَ. (متى 5: 27–30)
إنّ مجرد تطرُّق يسوع المسيح في حديثه عن الأفكار الشهوانية – دع عنك الأفعال الشهوانية – يرينا ذلك وحده مدى أهمية الموقف الحازم للقلب في هذه المعركة.
أما ديتريش بونهوفر فيكتب ويقول: «من هم أنقياء القلوب؟ .... لا يوجد أنقياء القلوب إلّا الذين قد سلموا قلوبهم كليّا إلى الرب يسوع، لكي يظل وحده القدوس الساكن في قلوبهم؛ وإلّا الذين لم تتنجّس قلوبهم بشرورهم – أو بفضائلهم البشرية العاجزة.»
بمقدور أنقياء القلوب من رجال ونساء التمييز بين كل ما هو خيّر وكل ما هو شرير وباطل في المجال الجنسي. وهم متنبِّهون لمزاياه الحقيقية، وعلى وعي تام بخيره وجماله كعطيّة إلَهِيّة. غير أنهم على وعي أيضا بأن أدنى انتهاك لهذه العطيّة، سيفتح الباب للأرواح الشريرة بالدخول إلى قلوبهم، وهم يعلمون بعجزهم عن تحرير أنفسهم من هذه الأرواح بقوتهم الذاتية البشرية. فلهذا السبب، يتجنبون أيّ وضع يدنِّس النفس، ويمقتون فكرة جرّ الآخرين إلى الخطيئة.
من الضروري جدا في معركتنا لأجل العِفَّة والنقاوة، أن نرفض أيّ شيء ينتمي إلى ميدان الفحشاء، بما في ذلك الجشع والتباهي، وكافة أشكال الانغماس في الشهوات. ولا يجوز لموقفنا من هذه الأمور أن يشوبه أيّ سرور بالشهوة الدّنِسة حتى لو كان قليلا، بل يجب أن نرفضها رفضا تاما. فلو كانت قلوبنا نقية وعفيفة، فسوف نردّ تلقائيا على أيّ شيء يهدد صفاء موقفنا العفيف هذا.
وهنا تقع مسؤولية عظمى على كاهل مجتمع الكنيسة في المحاربة اليومية من أجل أن تسود أجواء نقية عفيفة بين جميع أفراده، مثلما أوصت الكنيسة المقدسة الرسولية الأولى:
أمَّا الزِّنى والفِسْقُ والفجورُ على أنواعِها فلا يَليقُ بالقِدِّيسينَ حتّى ذِكرُ أسمائِها. لا سَفاهَةَ ولا سَخافَةَ ولا هَزلَ، فهذا لا يَليقُ بِكُم، بَلِ التَّسبيحُ بِحَمدِ اللهِ. (أفسس 5: 3–4)
ثم إنّ الجهود المُنصبَّة لأجل حياة النقاوة والعفاف، يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع العمل المتفاني لأجل العدل، ولأجل خلق مجتمع أخوي متضامن داخل الكنيسة، لأنه لا يوجد أيّ نقاء حقيقي للقلب من دون أيّ مشاعر اشتياق للعدل، كما يوصينا الإنجيل:
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ مُتَدَيِّنٌ وهوَ لا يَحفَظُ لِسانَهُ، خدَعَ نَفسَهُ وكانَت دِيَانتُهُ باطِلَةَ. فالدِّيانَةُ الطّاهِرَةُ النَّقيَّةُ عِندَ اللهِ أبينا هِيَ أنْ يَعتَنيَ الإنسان بِالأيتامِ والأراملِ في ضِيقَتِهِم، وأنْ يَصونَ نَفسَهُ مِنْ دَنَسِ العالَمِ. (يعقوب 1: 26–27)
لا تتعلّق فضيلة العفاف بالمجال الجنسي فقط؛ فلو عرفتَ أن جارك جائع، ومن ثم تنام دون إطعامه، فهذا أمر ينجس القلب. فلهذا السبب وضع المسيحيون الأوائل كل ما كان يملكونه في صندوق مشترك – مأكلهم ومشربهم، وحاجياتهم، وطاقاتهم، وحتى نشاطاتهم الفكرية والإبداعية – وتخلّوا عن كل هذه الأشياء وقدَّموها لله. ولأنهم كانوا قلبا واحدا وروحا واحدة، وجعلوا كل شيء عندهم مشتركا، تمكنوا عندئذ كجماعة واحدة من خوض المعركة مع شتى أنواع الشرور والفساد لغاية الانتصار.
الزواج لا يضمن حياة العفاف
من الوهم أن نظن أن الصراع من أجل النقاء والعفاف سينتهي حالما يتزوج المرء. إذ إنّ الزواج نفسه ممكن أن يكون فَخّا. ويظن الكثير من الشباب أن جميع مشاكلهم سوف تُحَلّ بمجرد أن يتزوجوا، ولكن الكثير من مشاكلهم لا تبدأ في الحقيقة إلّا بعد الزواج.
مما لا شك فيه أن الاتحاد الزوجي بين الزوج والزوجة نعمة عظيمة. فله أن يعطي تأثيرا شافيا، خصوصا فيما يتعلق بالتخفيف من حدة ال «أنا» أي بمعنى تخفيف التمركز حول الذات والأنانية. ولكن لا يمكن للتأثير الشافي للزواج أن يُقدِّم شفاء كاملا من ذاته أبدا. إذ لا يقدر أيّ بشر على أن يحلّ مشكلة عذاب ضمير شريك حياته المثقّل بالآثام أبدا. فلا يمكن الحصول على الشفاء الكامل إلّا بالرب يسوع المسيح.
لذلك فإنّ وثيقة الزواج ليست ضمانا لحياة العفاف. فكلما فقد الزوجان العلاقة الحقيقية مع الله، فَقَدَ الجنس بسرعة سموّه وكرامته، وأصبح هدفا وغاية في حد ذاته. فإنّ السطحية في المجال الجنسي معناها الدمار، حتى لو كانت في الزواج، لأنها تخرّب سِرّ الرباط الزوجي المقدس بين الرجل والمرأة.
ونرى في يومنا هذا مأساة حقيقية حيث إنّ الكثيرين، ومن ضمنهم العديد من المسيحيين، يستخدمون وثيقة الزواج كرخصة لإشباع كل شهوة عندهم. وقد حكى لي زوجان متوسطا العمر عندما قابلتهما مرة، كيف كانا يشاهدان من وقت لآخر في حجرتهما الخاصة أفلام فيديو خليعة لتساعدهما على «إبقاء علاقة حبهما حيّة» كما كانا يظنان. ولم يريا أيّ شيء باطل في ذلك. وكان تبرير عملهما كالآتي: «ألا يريد الله للزوجين أن يمتِّع أحدهما الآخر؟» فلم يتمكنا من أن يريا كيف انحرفت علاقة حبهما وصارت رخيصة. أما محاولتهما في استبدال حياتهما بحياة الناس الآخرين من خلال مشاهدتهما لتلك الأفلام الخليعة، فلم تؤدِّ إلّا إلى تأجيج عدم قناعة أحدهما بالآخر.
لا شيء في الدنيا يحتاج إلى معونة وبركة الله أكثر من العلاقة الزوجية. لذلك، عندما يقترن رجل بامرأة، يجب أن يكون لهما الموقف نفسه الذي كان لموسى عندما جاء إلى العليقة التي كانت تتوقد بالنار وهي لا تحترق، فقد قال له الله: «اِخلَعْ نَعلَيكَ مِن رِجلَيكَ، فإِنَّ المكانَ الَّذي أَنتَ قائمٌ فيه أَرضٌ مُقَدَّسة!» (خروج 3: 5) ويجب أن يكون موقفهما موقف التوقير لخالقهما، ولسِرّ الزواج دائما.
لو كان اقتران الزوجين موضوعا تحت بركة الله، لتمكن الجنس من تحقيق وظيفته المُرتبة من الله تحقيقا وافيا: فالجنس مليء رقة وسلام وسِرّ خفي. وحاشا له أن يشابه تصرفا حيوانيا متعديا وشهوانيا، ولكنه يخلق ويعبّر عن رباط فريد من الحب السامي والباذل للذات.
فعندما يعيش الزوجان الأمور الجنسية بهذه الطريقة، سيشعران بأن اقترانهما لا يمكن أن يكون المقصود منه التناسل فقط. ولكن عليهما في الوقت نفسه أن يتذكرا أنه بفضل اقترانهما فربما تولد نفس جديدة إلى هذا العالم. ولو تحلّيا بالتوقير حقا، فسوف يكنّان العجب لقدسية هذه الحقيقة، بحيث يصبح اقترانهما بمثابة صلاة لله.
فمن دون المسيح لا يستطيع أيّ رجل أو امرأة عاشا في فحشاء وزِنى أن يستوعبا العمق السرّي للمجال الجنسي. أما مع المسيح فيمكن لهما أن يحصلا على شفاء كامل واستيعاب كامل. فيقول الإنجيل:
نَحنُ نَعرِفُ أنَّ المَسيحَ متى ظهَرَ نكونُ مِثلَهُ لأنَّنا سنَراهُ كما هوَ. ومَنْ كانَ لَه هذا الرَّجاءُ في المَسيحِ طهَّرَ نَفسَهُ كما أنَّ المَسيحَ طاهِرٌ. (1 يوحنا 3: 2–3)
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «دعوة إلى حياة العِفَّة والنقاوة»