Subtotal: $
Checkoutهناك خطيئتان بَشَريتان رئيسيَّتان تنشأ منهما جميع الخطايا الأخرى، وهما: نفاذ الصبر والكسل.
قول من فرانز كافكا Franz Kafka
وهو كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية
ويُعَدُّ أحد أفضل أدباء الألمانيين في فن الرواية والقصة القصيرة
لو سألت أي شخص أن يذكر لك المخاطر التي تواجه الأولاد اليوم، لسرد عليك قائمة من المخاطر التي يمكن التنبؤ بها، مثل التشرُّد وسوء التغذية وسوء التربية وسوء الرعاية الصحية. وهذا كله صحيح. لكنني كلما عملت لفترة أطول مع الأولاد، أشتدّ بي القلق لوجود موجة صامتة أخرى تحمل تهديدا ووعيدا بالحجم نفسه: مثل عقلية تجنب الأمور وتحاشيها. ولك أن تسميها ما تشاء – مثل اختيار طريق راحة البال أو إنكار الموضوع على حقيقته أو التعنت بالرأي - لكن إذا كان هناك أي شيء يميز التربية ككل، فهو ليس إلَّا عادة الإصرار على إدارة ظهورنا نحن الآباء لأصعب المشاكل، وتلقف إجابات مريحة تخدرنا وتعيدنا إلى سباتنا.
وعلى الرغم من أنّ الميل إلى اختيار أسهل الحلول في تسوية المشاكل وأقلّها إيذاء يُعتبر من السمات الطبيعية للإنسان، إلا إنّ ذلك نادرا ما يكون التوجه السليم في تربية الأولاد. هذا وأنّ الفكرة القائلة بأنّ تربية الأولاد هي "مشكلة" هي بحد ذاتها فكرة سلبية بالتأكيد. فقبل كل شيء ينبغي أن نتشرّف ونفرح في تربية الأولاد الذين ننجبهم إلى العالم. لكن الآباء والأمهات الذين ينظرون إلى مسؤولياتهم الطبيعية بهذه النظرة الإيجابية أخذتْ أعدادهم تتناقص شيئا فشيئا. ونتيجة لذلك فلم تعد الأبوّة واجبا طبيعيا؛ بل أصبحت الحكومات تقوم بملاحقة الناس من أجل القيام بها. كما أصبحت الأمومة أيضا موضعا للنقد، وشكلا من أشكال التضحية العظيمة؛ وأصبح يُنظر إلى حب الأم لأولادها (الذي تحول الآن إلى أمر "مقيِّد") على أنه نوع من الفن أو المهارة التي يجب إتقانها.
وابتداء من صحف التربية وإلى الكتب الشعبية نرى بأنّ الحكمة التي تُقدّم للناس هي حكمة واحدة لا غير، وهي أنّ الأطفال على الرغم من حلاوتهم ولطفهم، غير أنّ تربيتهم واجب لا شكر عليه. ولهذا تسعى هذه المجلات دائما إلى تقديم النصيحة للأزواج من أجل قضاء عشاء رومانسي على ضوء الشموع، أو قضاء الوقت معا في عطلة أو نهاية أسبوع طويلة لوحدهم. ولا تسألني أين الأطفال من كل هذه المشاريع؟ فقلما يُذكرون - وهذا شيء محزن، لأن الساعات التي تقضيها مع أولادك خلال نشأتهم، هي بالحقيقة ستكون فيما بعد، من أجمل اللحظات الممتعة في حياتك الزوجية. أما فيما يتعلق بصراع الآباء وتضحيتهم والأوقات الصعبة التي يمرون بها، فهي مفيدة وهامة بالقدر نفسه مثل اللحظات الممتعة. فالذكريات السعيدة هي مجرد لحظات – ممتعة – أما الأوقات العصيبة فلا تعمل إلّا على تعزيز العلاقات وتلطِّف الأواصر التي تربط بين أفراد الأسرة.
فما بالنا نحن الوالدين ننسى الأفراح بسهولة عندما نفكر في تربية أولادنا ونسرع في ذكر المشاكل والعقبات؟ ولماذا نسعى بحرص شديد إلى صون ووقاية أنفسنا من الألم والمشقة، ونتردد كثيرا في قبول العمل الشاق الذي نعلم به جيدا بأنه ما تستوجبه تربية أولادنا؟ ولماذا نستميت في تجنب الجزء الصعب من الأبوة والأمومة، ونتعامى عن سبلها التي تساعدنا جميعا في النمو؟ وتقول "كلير Clare" بهذا الخصوص، وهي إحدى الأخوات من أفراد رعيتنا:
ربما يرجع السبب إلى أنّ جيلنا لم يَنْمُ نموا حقيقيا على الإطلاق. فما زال العديد منا يسعى إلى شريك الحياة المثالي أو إلى السيارة المثالية، أو إلى أي نوع آخر من السعادة التي يصعب الحصول عليها. فنحن لا نعلم ما هي التضحيات، وما هو العطاء غير الأناني الذي يجب تأديته من دون ترجي الشكر والمديح. فلا أدري كيف يتوقعنا الناس أن نصير...
من الواضح أن الجميع لا يجلس في نفس القارب. فالعديد من الآباء والأمهات يرون كما ترى جين Jane، وهي أخت أخرى من أفراد رعيتنا (أم لخمسة أطفال)، وهي تقول:
أنا أعتقد بأنّ الأمومة هي من أنبل المهام قاطبة، لأنكِ لا يمكنكِ القيام بها طبقا لما يريحكِ، أو تفصيلها تبعا لمرامكِ. فيجب أن تكوني مستعدة لأن تتخلي عن كل شيء عندما تأخذين على عاتقك هذه المهمة، مثل: وقتك، والليالي المريحة، وهواياتك، وتصميمك على اللياقة البدنية، أو أي جمال كنتِ عليه، وكل المُتَع الصغيرة الشخصية التي كنت تحسبينها كحق من الحقوق اِبتداء من وجبات العشاء المتأخرة وإلى قضاء وقت طويل في البانيو وإلى رحلات نهاية الأسبوع وإلى رحلات الدراجات الهوائية وما إلى ذلك... ولا أريد القول بأنه لا يجوز لكِ الحصول على كل هذه الأمور بل عليك أن تكوني مستعدة للتخلي عنها، إذا كنت تنوين الحصول على الأطفال، وأن تعطيهم الأولوية.
إنّ الكثير من النساء، ولاسيما في الدول الفقيرة، نادرا ما يعتبِرْن موضوع التخلي عن هذه الأمور نوعا من التضحية. لأن هذه الأمور هي من مظاهر الحياة المريحة، ولا يبلغها إلَّا من ذوي المستوى المعيشي العالي. وحتى لو سمحت لنا ظروفنا الثريّة بضمان مظاهر الحياة المريحة فلا ضير أبدا في التفكير والتنبّه للموضوع. كما لا يجوز لنا أن ننسى أنّ التطور التكنولوجي الذي أزال عنّا مشقة أغلب الأعمال التي كان أجدادنا يقومون بها في الماضي - من قطع الأخشاب وحرث الأرض وإشعال النار للتدفئة وللطبخ ونقل الماء – لم يجنبنا من عناء العمل الشاق الذي يعرق فيه الإنسان ومن الانتظار الطويل فحسب بل حتى حرمنا من بناء الشخصية التي يشكلها العمل الشاق. لأن معنى المشقة لم يعد مألوفا لدينا، ولم يعد بوسعنا أن ننقل مثل هذه القيم إلى أولادنا.
في المجتمع الذي نشأتُ فيه، كان العمل البدني الشاق جزءا من الحياة اليومية. ولم يجد احد صعوبة في البحث عنه. ولم يكن هناك أنابيب للشرب والتصريف داخل البيوت، ولا تدفئة مركزية، ولا حتى كهرباء لسنوات عديدة. وطهي الطعام كان يتم على نار الموقد، لذلك كانت هناك حاجة إلى فلق وإلى تصفيف الكثير من الخشب، إضافة إلى نقل المياه. والحشيش كان يتم قصّه بالمنجل؛ وكان خشن وثقيل ومرتفع، وخاصة بعد سقوط المطر. وعندما كنت شابا مراهقا، كنت أتذمر بلا انقطاع من المساعدة في الأعمال المنزلية التي لم يكن لها نهاية، غير أنّ والداي لم يرثيا لي أو يعتبران هذه الأعمال حملا قاسيا عليّ. وكلما استرجعتُ تلك الذكريات شعرت بالامتنان لهما. لأنني أرى الآن كيف علمني إصرارهما ضبط النفس، والتركيز في إداء العمل، والمثابرة، والتصميم على تحمل جميع مشاق العمل حتى إنجازه تماما – وهي أمور يحتاجها كل شخص ليصير أبا.
أعرف بعضا من الآباء الذين لم يعودوا ينقلوا الماء في زماننا الحاضر، لكنهم سيخدعون أنفسهم إذا كانوا يظنون أن تربية الأولاد لا تنطوي على عمل شاق. خذ الانضباط مثلا، فثبوت الوالدين باستمرار في موقفهما ضد الرغبات المعوجة للأولاد غالبا ما يكون أمر شاق على النفس ومُزهِق. فمن الأسهل علينا دائما أن نتخطاها ونتركها تنزلق من أمامنا. إلّا أنّ مَنْ يفضل راحته أكثر من جهاده في سبيل الطاعة التي يجب أن يتحلى بها الأولاد، سيجد أن مشكلة عدم الطاعة ستستفحل تدريجيا عند الأولاد على المدى البعيد.
هذه المقالة مقتطفة من كتاب «اسمهم اليوم»