Subtotal: $
Checkoutلا تقلق لعدم سماع أولادك لكلامك، ولكن أقلق عندما يراقبك أولادك دائماً.
في تقرير إخباري حديث عن طلبة المدارس الثانوية في مدينة طوكيو في اليابان، يقول كاتب التقرير إنه على الرغم من أنّ النموذج الياباني من الشباب المراهق يتمثل في شخص يمتلكه هاجس التقدم في الدراسة، فإن الواقع مختلف تماما. فيكتب قائلاً: "...لقد تفجَّرت في السنوات الخمس الأخيرة في المدارس الثانوية، الممارسة السائبة للجنس، والشرب المفرط للخمور، والجنوح والرعونة. وبدلا من بذل الجهود في قضاء ساعات طويلة في الدراسة والتركيز بكامل الفكر على الامتحانات والمستقبل المهني... يبدو أن شعارات الجيل الجديد من الأولاد والبنات بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة عاما هي الحصول على المتعة لا غير".
وقد يقول البعض إنَّ الكاتب الصحفي قد بالغ بعض الشيء بهذه الشائنات. لكن مجموعة من الفتيات قالت لكاتب التقرير: "نحن في الحقيقية لا يوجد لدينا أية صداقات جدية، وإنما صداقات من أجل ممارسة الجنس فقط". ويقول الكاتب إنَّ الحياة اليومية للعديد من الطلاب الذين تحدث إليهم، هي دورة لا نهاية لها من التسوق وممارسة الجنس وتناول المخدرات وزيارة صالونات الوشم. وبسبب تعبهم من الاستماع إلى المحاضرات عن فضائل المثابرة والاجتهاد، فهناك أرقام مخيفة عن الطلاب الذين يتركون المدارس الثانوية، لكي يختاروا الجانب "المثير" من الحياة الليلية في المدن بدلا من عناء ومشقة الدراسة.
وقد قال احد الشباب العاملين إلى المراسل الصحفي: "قبل عدة أجيال، كان يُحتمل لمثل هؤلاء الأولاد...أن يختاروا الهروب من البيت. أما اليوم، وبسبب تجنب أولياء الأمور الدخول في الصراعات العاطفية والنفسية لأولادهم المراهقين – فقد صارت ظاهرة الهروب من البيت قليلة، لأن أهل البيت صاروا يتحلّون الآن بالحرية التامة ويعيشون على هواهم... فقد أخذت أعداد الآباء الذين يرمون إلى التمتّع في حياتهم الشخصية تتزايد، وأصبحوا تدريجيا لا يبالون بأولادهم". (ومن المثير للاهتمام، أن كاتب التقرير لم يذكر أي اقتباس عن الوالدين في تقريره. ربما لأنهم لم يكونوا متواجدين أثناء إجراء المقابلات، أو أنهم لا يرغبون في الحديث. ومهما كان، فقد أوضح الأولاد للصحفي أنّ آبائهم ليسوا جزءا مهما في حياتهم).
قد يُصدم الشخص، الذي ليس لديه أية فكرة عن مراهقي هذه الأيام، من تصرفات كهذه - ليس في مدينة طوكيو فقط، وإنما في أي مدينة كبيرة على "النمط الغربي". لكن بالحقيقة يجب ألا يُصدم المرء. لأنها من ناحية تُعتبر نتيجة طبيعية ومنطقية لتلك البيئة الاجتماعية القائمة على فكرة مفادها أنّ الهدف الوحيد الذي يستحق السعي لأجله هو مجرد العمل بعض الشيء لكسب المال ومن ثم "الاستمتاع في الحياة". فلماذا كل هذا الازعاج بالعمل، إذا كنت تستطيع الاحتفال الآن على حساب والديك؟
اسأل أيّ أم أو أب: ماذا تعتقدين (أو تعتقد) بالتصرفات المذكورة أعلاه؟ فسيحدِّقون بك بكل غرابة أو سيردون عليك بحِدّة: "أتسألني ماذا أعتقد بتلك التصرفات؟ إنها بالتأكيد مشينة. لن أدع أبدا ابنتي تفعل ذلك...". ويعرف جميع الآباء في أعماق نفوسهم، حتى الذين لديهم أُسَر متدهورة وفاشلة، ما هو الجيد وما هو السيئ للأولاد. وللأسف، هناك فجوة كبيرة بين معرفتنا للشيء الصحيح الذي نريده لأولادنا، وبين قدرتنا على أن نضمن سلوكهم السليم. ومن الواضح أن هذه الفجوة لا زالت قائمة في العديد من البيوت. ورغم الحديث الطويل، والقيم العديدة التي يتم تقديمها بصورة منمّقة، فان الرسالة الأساسية لم تصل.
وبالنسبة للمراهقين في مدينة طوكيو مثلا، أنا متأكد أن آباءهم ومعلميهم قد بذلوا الكثير من الجهد، وقدموا العديد من النصائح من اجل مستقبلهم وصحتهم، وإمكانية أن يقوموا بالمساهمة في خدمة المجتمع بصورة ايجابية. ولكني متأكد أيضا أن هؤلاء الأولاد ليسوا أغبياء. فالذي يلمسونه هو أنّ آبائهم يهتمون بالدرجة الأولى بعلاماتهم وليس بهم. ولهذا تمردوا عليهم.
وكما تقول حكمة قديمة، أنّ القلق لدى المراهقين هو "مجرد مرحلة"، يغضب فيها المراهقون دائما من السلطة الأبوية، وسيفعلون ذلك دائما. ولكن عندما يصبح التمرد أسلوبا من أساليب الحياة، فإننا لا نستطيع القضاء عليه والتخلص منه، ونحتاج إلى نظرة أعمق. فما الذي يتمرد عليه المراهقون بقوة اليوم، ولماذا؟
إنّ الجواب في نظري بسيط: إنه رياء الوالدين. إنّ هذه الكلمة كما يعرف الجميع، كلمة قوية، ويمكن أن يكون هناك شيء من القسوة في الإشارة إلى أنّ هناك من الآباء من يقوم بوعي تام بتنشئة أولادهم على خُلُق معين، بينما يتصرف الأهل بطريقة معاكسة. والحقيقة المرة هي أنّ هذه الأمور تحصل فعلاً على أرض الواقع – وتحصل بطرق متعددة. أنظر مثلا إلى الحزن والألم الذي يفيض من إحدى طالبات الثانوية عند جامعة تكساس الزراعية والتقنية بعد حادثة "المجزرة الكولومبية" وهي تشرح بما تعتقده سبب زيغان الأمور بحيث صارت "سيئة للغاية"، فتقول:
...دعني أخبرك بهذا: إن هذه المسائل لا تمثلني أنا فقط، وإنما تمثل جيلا كاملا يصارع في سبيل إدراك سنّ الرشد وإيجاد معنى لهذا العالم. وقد يلصق الناس علينا دمغة "الجيل القادم Generation Next" (ويعني الجيل المشاكس في إشارة إلى فريق المصارعة الذي كان يحمل هذا الاسم)، ولكننا بالأحرى "جيل لماذا؟ Generation Why?" (وهي أشبه بحركة شبابية أخذت تعيد صياغة جميع قيم الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية).
فلماذا يكذب أغلبكم عندما تقدِّمون عهدكم بالزواج وتقولون سنبقى أوفياء "حتى يفرقنا الموت"؟
لماذا تخدعون أنفسكم بالاعتقاد بأنّ الطلاق هو فعلاً أفضل للأولاد على المدى البعيد؟
لماذا يقوم العديد منكم أيها الآباء المطلقون، بقضاء الوقت الأكبر مع عشاقكم الجدد، أكثر من قضاءه مع أولادكم؟
لماذا بحقّ السماء تقعون ضحية المفهوم الذي يقول إنَّ الأطفال سيحصلون على ذات التربية مثلما تربيهم أمهم أو أباهم إذا تمت تربيتهم من قبل شخص غريب جداً عنهم في مدارس رياض الأطفال؟
لماذا تنظرون باحتقار إلى الآباء الذين يتركون وظائفهم للبقاء في البيت لتربية أطفالهم؟
لماذا تسمحون لنا بمشاهدة أفلام العنف، وتتوقعون منا المحافظة على نوع من البراءة الطفولية؟
لماذا تسمحون لنا بقضاء وقت غير محدود على الانترنت، وتشعرون بالصدمة إذا عرفنا كيف يتم إعداد قنبلة؟
لماذا تخافون كثيرا أن تقولوا لنا "لا" أحيانا؟
اطلقوا علينا ما شئتم من الألقاب، ولكنكم سوف تصابون بالدهشة من فشلنا في التطابق مع الطراز المُهندم الصغير الذي تتوقعونه... لقد حان الآن وقت حصاد ما قمتم بزراعته. وقد تستبعدون هذه الفكرة، ولكني أؤكد لكم أنّ ما حدث من مجزرة في مدينة "لتلتون littleton" سيبدو نقطة في بحر بالمقارنة مع ما قد يحدث عندما يصل "جيل لماذا؟" الـمُهمَل إلى السلطة.
مهما كان في بعض هذه الأسئلة من اتهامات، لكنني اعتقد أن كل سؤال منها صحيح وجوهري لكي يؤخذ بعين الاعتبار من قبل جميع الآباء. إن العديد من القضايا التي أثيرت هي قضايا يصعب الإجابة عليها بمجرد كلمات قليلة، ولكن جميعها يرتبط بقضية مركزية واحدة، هي النظرة المنتشرة بين الشباب إلى أنّ الكبار مزيفون.
يظهر رياء الوالدين بوضوح في فترة مبكرة من الأبوة والأمومة، ولكنه يظهر على الأغلب بشكل دلس وغير ملحوظ. ويكون أحياناً سبب الحيرة التي تنتاب الطفل حينما يسمع الطفل توجيه معين في المدرسة وتوجيه مختلف في البيت؛ أو توجيه معين من أحد الوالدين وتوجيه مختلف من الوالد الآخر؛ أو مجموعة من الإرشادات في احد دروس المدرسة، ومجموعة أخرى تختلف اختلافاً كليّاً في الدرس الآخر. وفي حالات أخرى، تنشأ الحيرة بسبب النصائح المتقلبة: فعندما يتعلم الطفل عبرة معينة أو نظام معين، يرى والديه يخالفونها، أو يضيفون استثناءات عليها، أو يجدون تبريرات لعدم تطبيقها. لكن هذه الأشياء لا تسبب ضرراً كبيراً عادة، فهي جزء من الحياة.
إلَّا أنَّ المشكلة الحقيقية تظهر – وهذا شيء منتشر بصورة واسعة أكثر مما نظن – عندما يجري تعليم الأطفال كما يلي، "افعل بما أقوله وليس بما أفعله" أو "اسمع أقوالي ولا تفعل أفعالي". وعليه، وحينما يقال لهم هذا، وباستمرار، وبأسلوب يشبه المزح، فسيتعلمون تدريجياً، أنّه لا يوجد أبدا أي شيء أسود جداً أو أبيض جداً أي بمعنى ليس دائماً يكون الشيء جيدا أو سيئا، وستتولد عندهم هذه الفكرة لغاية اختيارهم لعمل غير مناسب في وقت غير مناسب. عندئذ، يقاصِصُهم آبائهم لاختيارهم قرارا غير صحيح. وسوف يجد الأولاد هذه العقوبة غير عادلة دائماً.
وباعتباري أباً، فأنا أعرف جيداً مدى صعوبة بقاء إرشادات الوالدين متطابقة دائماً – والعكس صحيح، فما أسهل إرسال إيعازات مربكة للأبناء حتى دون التفطُّن لها. ولما كنتُ قد قدمت المشورة للمئات من المراهقين خلال العقود الثلاثة الأخيرة فقد علمتُ أيضاً مدى حساسية الشباب لمثل هذه الرسائل المتضاربة والحدود المتناقضة التي يرسمها الوالدان لتصرفات أبنائهما، ومدى استعداد الشباب لرفض كلتا الحالتين على اعتبارهما علامة على رياء الوالدين. ولكنني علمت أيضا كيف يمكن حل أسوأ صراع عائلي بسرعة، عندما يتواضع الآباء ويعترفون بتضارب ما أرادوه من أولادهما وبعدم وضوحه أو بأنه غير عادل بحقّ أولادهما. وقد رأيت سرعة استجابة معظم الأولاد لذلك ومسامحتهم لوالديهم.
وفيما يخصّ أساليب الأولاد التي غالباً ما تعكس أساليب والديهم – سواءٌ أكانت أفعالهم أم سلوكهم أم سمات التصرف أم صفاتهم الشخصية – كتب جدي ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold أنّ الأولاد يشبهون جهاز الباروميتر الذي يقيس ضغط الهواء: أيْ بمعنى أنهم يسجلون بوضوح أيّ تأثير أو ضغط يؤثر عليهم، سلباً أو إيجاباً. فغالباً ما نرى مظاهر البهجة والاطمئنان النفسي، والكرم والتفاؤل، بيّنة على الأولاد بالدرجة البينة نفسها التي عند الوالدين. وكذا الحال مع المشاعر السلبية. فعندما يلاحظ الأولاد الغضب والخوف وعدم الأمان أو عدم التسامح لدى الكبار – خاصة إذا كانوا هم الهدف من ذلك – لن يمضي وقت طويل قبل أن يقوموا هم أيضاً بالتصرف بالطريقة نفسها.
تذكرنا شخصية الأب زوسيما Zossima في رواية الأديب الروسي دوستويفسكي Dostoyevsky التي تحمل عنوان "الإخوة كارامازوف"، بأنّ مثل هذه الحساسية لدى الأولاد كبيرة جدا، لدرجة أننا نستطيع تشكيلهم دون حتى معرفتنا بذلك، كما أنه يوبخنا على أننا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أثر كل شيء نقوله أو نفعله بحضورهم. فيكتب قائلاً:
في كل يوم وفي كل ساعة... تأكد أن تكون شخصيتك لائقة وطيبة. فقد تمر بطفل صغير، وأنت شرّانيّ وتتلفظ بكلمات قبيحة وقلبك مليء بالنقمة؛ وربما لم تنتبه أنت إلى ذلك الطفل، لكنه رآك، وقد تبقى شخصيتك غير الطيبة والمخزية في قلبه الأعزل. ومن دون أن تدري، فربما تكون قد زرعت بذرة الشرّ فيه، ويمكن لتلك البذرة أن تنمو فيه... كل ذلك لأنك لم تُربِ في نفسك محبة عاملة، ومحبة معطاءة تتكرّم بحرارة وبسرعة.
وبعكس الأبرياء في عهد دوستويفسكي، فإنّ الأولاد اليوم معرضون إلى وابل مستمر من الصور والانفعالات التي قد يكون تأثيرها بصورة مجتمعة، أكبر بكثير من أكبر رعاية يبديها أحد الكبار في حياتهم العائلية. أنا أتحدث بالطبع عن وسائل الإعلام، وعن الصناعة الخاصة باللهو والترفيه، وعن الانترنت، والطريقة التي أبدلوا بها الوالدين، لتصير هي المرجعية النهائية للسلطة العائلية في الملايين من البيوت "المشبكة" سلكيّاً في جميع أنحاء العالم.
قد يستميت الآباء في محاولة غرس قيم الالتزام والرأفة في نفوس أولادهم، لكن الخبيرة في شؤون الأسرة ميري بايفر Mary Pipher تحذر من أنّ التلفزيون هو بمثابة الوالد الذي له تأثيراً وقدرة أكبر بكثير من الوالدين الحقيقين، لأن من طبيعة التلفزيون الاستحواذ على انتباه الطفل البريء المعتاد على التركيز، وتحصل هذه العملية في كل مرة يُشغّل فيها هذا الجهاز، وعلى طول فترة اشتغاله. وإذا حصل خلاف في البيت فلا داعٍ للاستفسار، مَنْ سيربح في الإجابة؟ التلفزيون طبعاً. فتردف ماري قائلة: "هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية، التي يتعلم فيها الأولاد كيف يتصرفون من خلال مشاهدة التلفزيون، بدلا من مشاهدة الناس الحقيقيين".
لا شك في أن جميع الآباء والأمهات "يحاولون جاهدين" لتنشئة اولاد صالحين. ولكن في ظلِّ حضارتنا التي تقوم على الحدّ من دور الوالدين في كل حركة ومنعطف، فقد صار من المستحيل علينا تنشئة أية أسرة بدون بذل جهد كبير. إلا أننا من ناحية أخرى وبرغم الجهود المبذولة ترانا مقصرين في لعب دورنا كآباء بشكل صحيح. وهذا هو ذنب كل أب وكل أم، وليس ذنب إحدى القوى الغامضة السوداء التي تدعى هوليوود.
خذ العنف مثلا. إنّ الجميع معني بهذا الأمر، ومتفق على انه شيء سيء للأولاد. ولكن هل هناك مّنْ يقوم حقاً بفعل شيء حيال ذلك؟ بدءاً بالقاعات المبجلة للكونغرس ونزولاً، لا يوجد شيء يُذكر. وقد لاحظتْ الكاتبة الروائية باربرة كنج سولفر Barbara Kingsolver من خلال الكتابة عن رعب "المجزرة الكولمبية" في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، أنه بدلا من القضاء على القوى الحقيقية التي تهدد الأولاد فإننا نقلل من شأنها، فتقول:
في أعقاب عمليات القتل التي حدثت في المدرسة الثانوية في مدينة لتلتون في ولاية كولورادو، أمسينا أمام مشهد لشعب محتار في أمره وقد ضلَّ سبيله ولا يعرف ماذا يعلِّق على هذه المجزرة. لكن، لماذا يؤمن الطلاب – مهما ضاق صدرهم بالأشرار - بأنّ البنادق والقنابل هي الردّ السليم؟ لو كنا حقا نهتم بهذا السؤال، لكان من المفروض أن نبدأ بالبحث فيه منذ فترة طويلة. فلماذا يصرّ الشعب على تمجيد العنف كتعبير مشرّف لاستنكار ورفض شيء ما؟ فحتى في الأماكن التي سئمنا من الأشرار فيها مثل يوغسلافيا والعراق والسودان ومدينة واكو في ولاية تكساس وغيرها، لماذا نؤمن بأنّ البنادق والقنابل هي الردّ السليم؟
دعونا ألا نقلل من مأساة رهيبة عن طريق التظاهر بأنّ تلك المجزرة لم يكن لها أيّ داعٍ أو معنى. فبقولنا أنها "بدون معنى" فإنما نريد بذلك قول أنها "بدون سبب"، وعليه لا تتطلب منا القيام بأي عمل أو إجراء. ثم وبعد فترة مناسبة من التحسُّر والأسف وتقليب كفينا على ما حدث، نعود إلى أعمالنا كالمعتاد ونستمر على الوتيرة نفسها. إلَّا أنَّ ما يتطلب الشجاعة هو الإقرار بأنّ هذه الحادثة فيها أكبر المعاني والمدلولات.
يعتاد الأولاد الاِقتداء بتصرفات الكبار على كل المستويات المتاحة لهم. فأولاد شعبنا يكبرون في بلد يلجأ أهم الرجال فيه وأكثرهم تأثيرا – من الرؤساء إلى أبطال الأفلام السينمائية – إلى حلِّ المشاكل من خلال قتل الناس. ويمكن التنبؤ تماما بأنّ بعض الأولاد الذين يتوقون إلى الشهرة والتأثير، سوف يحصلون على البنادق والقنابل. وليس من المستغرب أن يحصل ذلك حتى في إحياء الطبقة الغنية؛ هذا وأنّ العنف الذي تمارسه المؤسسات الحكومية مزروع في بيوت الأحياء الميسورة في النواحي الراقية للمدن. فلا تنظر كثيراً إلى العصابات الموجودة في منزل أخيك قبل أن تتفحص البنتاغون في بيتك. فالمأساة التي حصلت في مدينة لتلتون كانت وليدة حتمية ولدت من حضارة تروِّج بكل تفاخر وبصوت عالٍ تصفية الحسابات على الصعيد العالمي بإطلاق النار بسرعة (من قِبَلنا نحن الأمريكيين الأخيار على غيرنا الأشرار مثل زمان الـ "كاوبوي"). وهذه الحضارة هي نحن.
وقد يبدو لك بوضوح أنّ كل من النازيين والقوة البحرية الأمريكية و"فيلم المبيد Terminator" وقوات شرطة نيويورك يقتلون لأسباب وجيهة متعددة. ولكن، وكما يعرف كل الآباء، أنّ الأولاد جيدون في تجاهل مكرنا المحبوك بل حتى قادرين على النظر من خلاله ومعرفة حقيقته. وإنَّ ما يراه الأولاد هو كالآتي: القتل وسيلة مجيدة للعقاب والسيطرة. أما الأمريكيون الذين لا يؤيدون ذلك فيتعرضون للسخرية. لكن دعونا نواجه الأمر على حقيقته، فالقسم الأكبر من الأمريكيين يعتقد أن سفك الدماء ضروري من اجل المحافظة على أسلوب حياتنا، بالرغم من انّ ذلك يعني وجود خطر إطلاق النار بصورة خاطئة – مثل قصف المدنيين أو الحكم خَطَأً على الأبرياء بالإعدام.
فإذا كان رأيك كهذا، فإني أتسأل عما إذا كنت على استعداد للذهاب إلى مدينة لتلتون لكي تشرح لبعض من أمهات الضحايا عن هذه المخاطر التي نقبل بها. فهذا قد صار ما يتضمنه معنى "طريقة حياتنا" في المجتمع الذي يحتضن العنف. فقد علّمنا أولادنا بألف طريقة أنّ الشخص الشرير يستحق الموت، وذلك بالتلويح بالأعلام لإثارة المشاعر الوطنية تارة، أو بالمسلسلات التلفزيونية التي يصاحبها الضحك الوهمي تارة أخرى...
هل تعتقد أنّ ذلك تَطرُّف؟ لا تخدع نفسك. فالموت هو التطرف، والأولاد يراقبون ما يجري.
من الواضح أن الطريقة الملتوية التي نتعامل بها مع العنف ليست ظاهرة اجتماعية أو سياسية فحسب بل أيضاً ظاهرة لها جذورها في كل غرفة من غرف المعيشة في بيوتنا. والمسألة هنا ليست مجرد مسألة العنف. فبغض النظر عما إذا كانت المسألة رذيلة أو فضيلة، فإنه من غير المجدي محاولة تعليم أبنائنا عن العنف، ما دامت أفعالنا وكلماتنا على خلاف بعضها مع بعض.
والجنس هو موضوع آخر يكثر فيه تشويش الأولاد ولا يتلقون وضوحاً قاطعاً فيه وذلك من خلال التعاليم المغلوطة من قِبَل الآباء الذين لديهم أفضل النوايا – وإذا لم يكن هذا التشويش بسبب رياء الأهل ومساومتهم، فسيكون إما بسبب الإيعازات المتضاربة أو الأفكار الغامضة التي يقدمها الآباء لأولادهم. وكما هو الحال مع العنف، كذلك الأمر مع الجنس: فهو واحد من أكثر موضوعات اهتمام الوالدين، ومن أكثر الموضوعات التي يتم الحديث عنها. ولكن في خضم قلقنا نحن الآباء بشأن موضوع الجنس لدى أولادنا مثل: ماذا يجب علينا أن نقوله لننصح أولادنا وبناتنا؟ وكيف سنقوله؟ ومتى سنقوله؟ ينسى ويغفل العديد منا عن أهم عنصر في الموضوع وأهم عنصر في التربية ألا وهو الرسالة القوية التي يسلمها أولياء الأمور لأولادهم من خلال أفعالهم والتزامهم الشخصي بقيم الجنس الشريف وليس من خلال كلامهم وإرشادهم لهم. فما لم نبدأ شخصيّاً بتطبيق قناعاتنا في الحياة، وما لم نطلب من أنفسنا الأشياء نفسها التي نطلبها من أولادنا، فإن جميع جهودنا المضنية المتعلقة بالنموذج الأخلاقي سوف تتهاوى نحو الحضيض.
وتعقيبا على المعضلة الغائرة في القِدم عن كيفية نقل قيمنا إلى الجيل القادم، كتب بلومهارت Blumhardt، أحد قساوسة القرن التاسع عشر، معاتبا الآباء المتدينين الذين لديهم نزعة إلى تقديم الإرشادات الكلامية في الأخلاق وتقديم المواعظ الإنشائية لأولادهم، وناقداً "أوهامهم" فيما إذا كان هناك نفع في الاستعجال بأخذ أولادهم إلى الكنيسة. فيقول: "لو عاش المسيح في كتبكم المقدسة فقط...وليس في قلبكم...لفشلت كل جهودكم الرامية إلى تقديمه لأولادكم". ونرى هنا أنّ بلومهارت أوضح النقطة إيضاحاً مفعماً، سواءٌ الشخص آمن أو لم يؤمن بالأساس.
كان رايَن Ryan، وهو احد الشبان الذين أعرفهم، ويوجد حاليا في السجن خلف القضبان، والتي كانت نشأته الممتازة في عائلة متدينة مجرد واجهة، كان يعرف جيدا ما الذي يتحدث عنه بلومهارت. فقد كان طالبا في المدرسة الكاثوليكية الخاصة، وكانت له شعبية كبيرة في هذه المدرسة التي درس فيها منذ الصف الأول. وكان لديه أصدقاء دائماً، ويتمتع بشهرته كمهرج للصف. وكان رياضيا واعدا، يلعب كرة السلة وكرة المضرب وكرة القدم والهوكي، وكان مسيحيا نموذجياً، يحضر القداديس باستمرار وحتى أنه صار من أحد الأولاد الذين يخدمون مذبح الكنيسة. ولكن حياته رغم كل ذلك لم تكن سعيدة، فيقول:
كان كل شيء في بيتنا يدور حول المال، وحول ما قد يقوله "الجيران" عنا. وكان يبدو كل شيء جيدا من الناحية الظاهرية. وقد حققت عائلتنا كل ما يُعتبر "نجاح" في نظر معظم الناس. أما خلف أبواب دارنا وجدرانه فتكمن مشاهد من القتل النفسي والعقلي.
كان أبي يعمل بصورة جادة لكي يجعل من شركته شركة ناجحة، ولهذا لم أكن أراه كثيرا. كان يعمل ست عشرة ساعة في اليوم، وكانت أمي من ناحية أخرى خارجة عن السيطرة – إذ كانت عنيفة مثل القطة المتوحشة، وأنانية إلى حد كبير. وكان لسانها سليط لا يرحم، ولم تستخدمه للكلام بل للصراخ. وحتى في عدم غضبها، لم تكن حارّة القلب وطيبة اللسان. فعمري ما سمعت منها كلمة "أنا أحبكَ" أو "أنا آسفة". لقد كانت تشعر بالاستياء لكونها أم! وكانت الكلمات التي تستخدمها لاذعة – لاسعة حقا. كانت تزمجر قائلة: "ما أنت إلَّا ضيف ببيتي، فلماذا لا تبتعد عني. اذهب وافعل شيئا لدماغك". وفي الوقت الذي كنت فيه في سن المراهقة، كنت اشعر بأني انسان مسحوق وغريب الأطوار، ولم أملك ثقة أو اعتداداً بالنفس ولا شعوراً بالقيمة كإنسان.
أما فيما يتعلق بالدين، فقد كنا نذهب سوية كأسرة إلى الكنيسة في أعياد الميلاد والفصح فقط (أما بقية الأوقات فقد كنتُ أذهب بمفردي)، والمرة الوحيدة التي سمعت فيها أمي تتحدث عن الله في البيت، كان لتبرير نظاماً معيناً في البيت أو لتبرير عقوبة ما. والكتاب المقدس لم يكن موجودا في البيت أصلاً. فتخيل انك ترسل أولادك إلى مدرسة كاثوليكية، وأنت نفسك بدون إيمان...
وفي المدرسة الثانوية صادقتُ مجموعة "سيئة"، وبدأت بتجريب المخدرات والكحول. وأظن أنني فعلت ذلك لكي أكون مقبولا لدى هذه المجموعة. ثم بدأت في السرقة من اجل المال لإدامة العادة التي شرعت بها. وقبيل إكمالي لسن الثامن عشرة كنت قد حاولت سلفاً الانتحار، بالإضافة إلى وضعي بالحبس بتهمة الاعتداء بالسلاح. هذا وقد تمّ إرسالي إلى مركز إعادة تأهيل من المخدرات. والتحقت بعد ذلك بسلاح البحرية، وسرعان ما طردت منه، بعد إجراء فحص ثبت من خلاله أنني أتعاطى الكوكايين...
أما بالنسبة للعلاقات العاطفية، فلا تسأل عنها، فالشيء الايجابي الوحيد الذي أتذكره، هو أنني مجرد لم أجعل أية امرأة حُبْلَى، ولكني كذبت وخدعت، وسرقت في مرحلة سن البلوغ. ولم أقم بتسديد أيّ قرض قط، أو دفع الضرائب، ولم يَدُمْ معي أيّ حساب مصرفي أكثر من ستة أشهر. وقد سكنتُ في السيارات وعلى المقاعد في الحدائق، وعلى آرائك الغرباء وفي المستشفيات.
وأنا لا اشعر بالراحة عندما أذكر ذلك، لأني كنت معتاداً أن اخفي كل شيء خلف قناع لطيف، مثل ذكائي ووسامتي ومظهري الحسن. وربما لا يزال الله قادرا على محبتي، ولكني اشعر بالانزعاج والقلق، فلو عرف الناس تاريخ حياتي، سوف يهربون عني. وأسوأ شيء لي هو عندما يرفضني الناس فهناك أشدّ الألم...
لا أحد ينكر أنّ الشرّ يتواجد كالوباء. ولكن من ناحية أخرى يتظاهر الجميع بأنه يمكن التخلص منه ببساطة بمجرد الاستعانة بالوصفة الدينية القديمة ذات التأثير السحري، مثل: واظب على تأدية صلواتك المفروضة، لا تترك ولا تتخلى عن المدرسة، وتناول الفيتامينات. وكأنّ هذا كل ما نحتاجه جميعنا!
سندي Cindi امرأة شابه عاملة، تعيش حاليا في بوسطن، ولم تنشأ في بيت متدين. ولم يسيء أي من والديها إليها. ورغم ذلك كانت الفجوة بين وعود أبيها بتقديم المحبة الأبوية لها والحنان، وبين هجره للأسرة عندما كانت في الخامسة، قد تركت أثرا في نفسها لا يمكن إزالته. وكما هو الحال مع رايَن Ryan، كانت تعرف أنه مهما كان السبب للعلاقة المتهرئة في داخل الأسرة، فإنها غالبا ما تنتهي باستبعاد الطفل أو تهميشه لإفساح المجال لشيء آخر، ألا وهو أولويات الكبار الأكثر أهمية. كما تعلم أيضا أنه يستحيل الكذب على الأطفال أحياناً، فتقول:
أجلسنا والدينا نحن الأولاد الأربعة على الأريكة. وكان عمري آنذاك خمس سنوات. وأخذا يتكلمان معنا ويذكران كلمة – طلاق – التي لم يكن لدي أية فكرة عن معناها. ولكني رفعت نظري فرأيتُ أخي الأكبر قد أجهش بالبكاء والعويل، فأدركت عندئذ أنّ هناك مشكلة، ولذلك أجهشت بالبكاء أنا أيضاً. بعدئذ، ذهبنا جميعا إلى النوم، فجاءت أمي تسأل كل واحد منا نحن الأولاد: "مع من تريد أن تعيش؟" لم نفهم السؤال بطبيعة الحال بصورة جيدة، ولكني أتذكر جيداً، عندما ذهبتْ أمي إلى غرفة الأولاد، انتابني الخوف من احتمالية فصل إخواننا عنا نحن البنات. ولكن يا له من ارتياح كبير حلّ علينا عندما لم يحصل ذلك، ولم ننفصل.
وفي وقت لاحق من تلك الليلة، نزلتُ من غرفتي لأشرب الماء، فرأيت أبي خارجا من البيت وهو يحمل حقيبة في يده والساعة المنبهة ملفوفة بسلكها الكهربائي. فنظر إلي وقال: "حبيبتي، تذكري! بابا يحبك"، ثم خرج. وما تزال تلك الذكريات حية أمامي. لقد خرج فعلا...
أما اليوم وبعد أن أصبحت سندي راشدة فلا تبدي أي علامة من علامات الشعور بالنقص الذي أدى إلى سحقها وهي طفلة صغيرة، ولازمها طوال فترة المراهقة التي حاولت فيها حتى الانتحار. ففي الوقت الحاضر تساعد سندي عشرات الشابات يومياً، فقد قلبتْ سندي تجربتها القاسية وحوّلتها إلى أهداف ايجابية؛ وتلك المعاناة التي كانت تهدد يوما بتدميرها، تساعدها الآن في تقديم نوع من الإرشاد للآخرين، حيث لا يقدر على تقديمه أولئك الذين كانت طفولتهم سعيدة. ولكنها ما زالت تتساءل أحيانا عن معنى الحب، فتقول:
ماذا يعني أذن أن يقول الأب لطفلته الصغيرة "أنا أحبك"، ويتركها بعد ذلك؟ فقد بدأتُ استصعب أن أثق حتى بحب زوجي لي...
وأكثر ما أتذكره من حياة الطفولة هو ذلك الفراغ الرهيب في نفسيتي وكياني. فقد بذلت كل ما في وسعي لإملائه، ولأني لم استطيع ملئه بحب أبي، فبحثت عنه في مكان آخر.
فقد فقدت عذريتي وأنا في الرابعة عشرة من عمري. لأني بدأت أخرج مع رجل اكبر مني سنا. وكنت وكأنني ابحث عن شخص يرعاني ويحميني. ولكنه أصبح بعد ذلك مؤذيا لي. وعرفت أمي بالأمر، فأنهتْ العلاقة حالا. وقام هذا الرجل بملاحقتي خلسة لمدة عامين بعد ذلك، ولكنني بالحقيقة لم يكن عندي مانع. فقد استحوذتُ على انتباهه. وجعلني ذلك أشعر بأن هناك شخصا ما يهتم بي حقاً.
وقد أُصِبْتُ في المدرسة الثانوية بمرض النهم (الشراهة في الأكل) وقاومت مشاكل أخرى أيضا. وكنت اكره أن أكون منفردة لوحدي. فكلما كنت وحيدة كنت أشرب الخمور حتى الجنون وتنتابني هستيريا، وعندما أكون في حالة سكر كنت اكتب واكتب مذكراتي. وكنت احسّ باستمرار أن الشعور بالخوف وعدم اطمئنان القلب والنفس يعود كله إلى غياب أبي. فكنت أصرخ وأصرخ له، وأسأله لماذا لا يعود إلى البيت... وللآن، وكأني لا أزال انتظر عودته إلى البيت.
منذ فترة طويلة، تشير الإحصائيات إلى أنّ مصير الزواج يكون على الأرجح إما الانفصال أو الطلاق. ولكن الانفصال والطلاق لم يكونا مطلقاً الحدث القانوني الوحيد الذي تنتهي به الأمور، فهناك تبعات كثيرة أخرى. ولهذا السبب - ومهما كان "الطلاق ضروريا" – فإنه من المستحسن أن نتذكر كيف يبدو الطلاق في نظر الطفل، ولاسيما الطفل الذي يحسّ بأنّ الطلاق سيترك بصماته على نفسيته وعلى عواطفه طوال حياته.
ومع ذلك فإنّ إدانة الأزواج الذين يتعرضون للطلاق يُعتبر تصرفاً قاسي القلب وغير مجدٍ؛ مثلما تراه آن Anne، وهي صديقة انكليزية، هجر والدها البيت عندما كانت طفلة صغيرة، فتقول: "يشعر الكبار باليأس في الأزمات، ويفعلون ما يجب عليهم القيام به". ورغم أنّ آن تقرّ بأنّ الأطفال يقعون عادة تحت وطأة النتائج، إلَّا أنّ الكبار يدفعون ثمنها أيضا. لكنها تردف مناشِدة بعد ذلك من أنّ الآلام والمعاناة التي يسببها الطلاق، يجب ألّا تكون نهاية كل قصة طلاق. فتحكي عن تجربتها الشخصية، وتقول:
كان لي أم رائعة، فحتى بعد أن قررتْ اختيار الطلاق (وهو الخيار الوحيد الذي رأته)، كانت مخلصة معي. فقد ضحّت بجميع أفراح الأمومة، واشتغلت دواماً كاملاً في سبيل دعم احتياجاتي، وإخلاصها هذا هو الذي سندني في حياتي وأنقذني. فقد قدمتْ لي أعزّ سني عمرها - إحدى وعشرون سنة.
نعم، فالطلاق يطبع دائما بصماته الجارحة على كلا الزوجين، وإذا كان لديهم أولاد، فسيؤثر على أولادهم أيضا. ولكنني أعلم من خلال ما مررتُ به، بأنّ قرار أمي في وضع احتياجاتي قبل احتياجاتها، هو الذي قد أنقذني. فقد أتاح لي الفرصة للشفاء. وما أزال "في طريق الشفاء"، ولكني اعلم بأنّ الشفاء الكامل واِلتئام شخصيتي آتيان لا محالة.
بدون نساء مثل سندي وآن – أي بدون المرونة التي يظهرها كل طفل، لكي يتغلب على العقبات التي يضعها الكبار أمامه جراء ريائهم وفشلهم – ستخلو التحديات أمام الوالدين في تربية أولادهم من أي أمل. فبأمثلة كهذه يمكننا رؤية أنه مهما بلغت درجة وقوع المرء في اليأس والحزن بسبب الأخطاء التربوية الماضية إلا أنه حتى أسوأ أب أو أم له الحقّ في التفاؤل والأمل.
وقد كتب مرة مالكوم اكس Malcolm X (الشخصية الأمريكية المسلمة المعروفة) فيما يخصّ معالجة مسألة إخفاقات الآباء، مذكرا إيانا بشكل عام بمصادر ذلك الأمل، فقال:
يقدم لنا الأطفال درسا نحن الكبار يجب أن نتعلمه، وهو: أننا يجب ألّا نخجل من الفشل، بل يجب أن ننهض ونحاول مرة ثانية. فأغلبنا نحن الكبار نخاف كثيراً ونتردَّد، ونتحفظ كثيراً ونحترز في أفعالنا، ونخشى على نفسنا كثيراً، فعليه ترانا منكمشين كثيراً على نفسنا ومقيَّدين، وجامدين لا نتحرك ولا نبدع...ولهذا السبب يفشل العديد من الناس. وقد استسلم للفشل معظم الكبار الذين ما يزالون في منتصف أعمارهم.
من بين جميع الآباء الذين قد تعرفت عليهم وأكثر ما يكونون أولى للتعرض للاستسلام واليأس في عائلاتهم، لا يوجد أحد مثل كريم Kareem الذي لديه ما يكفيه من الأسباب لتجعله يرفع الراية البيضاء ويستسلم كليا، وهو سجين لمدى الحياة، وقد تابعت حالته لعدة سنوات.
كريم من سكان حيّ بروكلين في مدينة نيويورك، وقد ترعرع في أسوأ المجمّعات السكنية في المدينة. وقد درس فيما كان يعرف في ذلك الوقت بأكثر المدارس الثانوية تعرضا لحالات الانتحار في البلاد. انتهت طفولته عندما كان في السادسة كما يقول: في تلك الليلة التي وجد فيها أمه معلقة من سقف غرفة نومها. وعندما صار أب وله طفل في الثالثة من عمره الذي كان بإمكانه التمييز وهو طفل بين صوت المفرقعات النارية وبين الإطلاقات المفاجئة لمحركات السيارات وبين الطلقات النارية، قرر الانتقال إلى مقاطعتنا شبه الريفية، لأنه لم يعد يتحمل بعد الحياة في شوارع مدينة نيويورك كما أراد وضع حدّ لدوامة الجريمة والفقر التي ابتلت بها أسرته جيلا بعد جيل.
أول ما سمعت عن كريم كان في العناوين الرئيسية في الصحف، بسبب قيامه بعملية الاختطاف والاغتصاب والقتل لطفل محلي يبلغ الثامنة من عمره. وكان كريم يعيش على بعد عشرين دقيقة بالسيارة من منزلي. وفي الشهور التي تلت اعتقاله، قمت بزيارته في سجن المقاطعة. ومنذ ذلك الحين بقينا على علاقة معا، رغم أنه يقضي الآن عقوبة السجن المؤبَّد بدون اطلاق مؤقت بين فترة وأخرى في سجن يبعد عنا عدة مئات من الأميال.
وبالنظر إلى الأعمال الشريرة والجرائم التي اعترف بارتكابها، كان كريم يشعر دائما بأنه مثقل بذنبه، رغم أن ندمه قد أعطاه شيئا من الشعور بالسلام (وقد تغير في السنة الماضية تماما، لدرجة أن زملاءه بدأوا يطلقون عليه اسم "القس"، ويلجؤون إليه من اجل الحصول على المشورة. وإضافة إلى شعوره بالذنب، كان يحمل عبئا آخرا أثقل: ليس لأنه مجرم مدان، وإنما لأنه أب، فقد أدى فشله في الحياة إلى حرمانه بصورة دائمة من فرصة تربية أطفاله بالطريقة التي كان يحلم بها.
ولكن القصة لا تنتهي هنا. فقبل عامين، دخل ابن كريم إلى الصف الثالث في المدرسة الصغيرة التابعة لكنيستي؛ ومنذ ذلك الحين وهو يتحسن اجتماعيا وأكاديميا وفي جميع النواحي الأخرى. والأفضل من كل ذلك، فقد منح تحسن الأبن أملاً جديداً للأب لدرجة أن عذابه على مصير أسرته انتهى كليا، وبدأ يجتهد لكي يعوض الوقت الذي خسره – رغم أن دوره كأب كان محدودا بالرسائل أو الزيارات النادرة. ورغم كل هذا، فقد كان الأب على دراية تامة من أنه مهما لان قلبه شخصياً، فإن ذلك لن يحرِّره من قضبان السجن.
وقبل عدة أسابيع فقط، عندما بدأت بكتابة هذا الكتاب، عرض علي معلم ابن كريم قصيدة كتبها الولد عن أبيه، والتي أود أن اذكرها هنا:
أبي رجل بحقّ. هل تفهم ذلك؟
يحبني أكبر حب يقدر عليه...
يريد مني أن أتعلم في المدرسة:
ويعتقد أن التعليم شيء رائع فعلا.
في عيد ميلادي أهداني دراجة،
إذ يعرف تماما ما أريد.
يرسل لي رسالة كل أسبوع.
وحبي لأبي لن يزول...
سيأتي اليوم الذي سنشاهد فيه معا
الثلوج فوق جبال روكي.
سنجد ذهباً
أكثر مما نستطيع حمله.
سوف نأخذه إلى أمي في البيت ونقول:
"انظري يا أمي إلى هذا الذهب!"
سوف نستبدله من اجل إعادة أبي إلى البيت...
ورغم أني قد لا أرى أبي مرة أخرى،
إلّا أنّ أبي سيكون دائما أحسن صديق لي.
لقد قيل إن الحالمين هم الذين سيغيرون العالم وليس الواقعيون. وإذا كان هذا الكلام يبدو مثل شعار مبتذل، فهذا صحيح لأننا، نحن البشر، قد جعلناه مبتذل. فلدى الأطفال فعلا قوة لتغيير الواقع من خلال الأمل الموجود في عيونهم. صحيح أن البراءة قد تزول خلال مراحل نموهم، ولكن يجب علينا ألّا نسرق التفاؤل منهم أبدا، أو أن نقلل من فرحتهم. فالأخذ بعين الاعتبار اشتياق طفل ليس أمراً قليل الأهمية. فالعالم بحاجة ماسة لأحلامهم، مهما بدت غير واقعية لعقولنا نحن الكبار.
وللمزيد من المطالعة عن موضوع التربية، إليكم هذين الكتابين: «لماذا يهمنا الأطفال» و «اسمهم اليوم»