Subtotal: $
Checkoutفي الأول من شهر مايو/أيار عام 1919م، في أعقاب هزيمة ألمانيا الصارخة في الحرب العالمية الأولى، استعادت القوات الرجعية شبه العسكرية مدينة ميونيخ من مجموعة من الشيوعيين الذين كانوا قد استولوا على المدينة. وقامت بإلقاء القبض على صحفي يبلغ من العمر تسعة وأربعين عاما، كان قد شغل منصب وزير الثقافة في حكومة ميونيخ الثورية القصيرة العمر، واسمه غوستاف لانداور. وفي صباح اليوم التالي، وسط صرخات الجنود على غوستاف لانداور «أيها اليَساريّ القذر،» ضربوه وأطلقوا النار عليه وداسوه حتى مات.
رغم ما تفوه به الجنود من اتهامات، لم يكن غوستاف لانداور يساريّا أو بلشفيا (شيوعيا). فقد كتب في العام السابق لهذا الحادث، أن البلاشفة (اليساريين أو الشيوعيين) كانوا «يعملون من أجل قيام نظام عسكري، سيكون أكثر فظاعة من أي شيء شهده العالم من قبل.» لقد كان غوستاف لانداور شيئا مختلفا تماما: كان ثائرا على السلطة بطريقة خالية من العنف. وكان يعتقد أن الحل الوحيد لمشاكل أوروبا الرأسمالية ذات النزعة العسكرية، هي الحياة في مجتمعات تطوعية مرتبطة بعضها ببعض من خلال العمل المشترك، والمحبة الأخوية، وبشيء آخر كان قد توصل إليه. وكان يعني مصطلح «الاشتراكية» بالنسبة إلى غوستاف لانداور، «نضال من أجل الجمال والعظمة وثراء الشعوب» (من كتاب «من أجل الاشتراكية» 1911م)، بعيدا عن نظام الدولة المفروض بالقوة، ويفترض أن تكون حركة على مستوى القاعدة الشعبية، تظهر عندما يبدأ الناس العيش بشكل مختلف، «بناء عالم جديد في غلافه القديم.»
وُلد غوستاف لانداور في عائلة يهودية من الطبقة المتوسطة في مدينة كارلسروه Karlsruhe في ألمانيا، في 7 نيسان 1870م. وتأثر جيله بشكل كبير بمنابع الرومانسية الألمانية، سعيا من خلال تركيز تلك الحركة على الحياة الداخلية، إلى إيجاد إصلاح سياسي للمصانع والأحياء الفقيرة والسطحية البرجوازية المحيطة بهم.
«لا يمكن أن يأتي التحول في المجتمع إلا من خلال المحبة والعمل والهدوء.» غوستاف لانداور
تأثر غوستاف لانداور بشكل كبير بعد إنهاء دراسته الجامعية، بالحياة الثقافية والسياسية في برلين في تسعينيات القرن الميلادي التاسع عشر. وانضم إلى فرقة مسرحية، وتزوج من الممثلة كريتا لايشنر Grete Leuschner (التي طلقها فيما بعد). وبدأ في تطوير الأفكار التي من شأنها تحديد فلسفته: حاجة العمال إلى التخلي طوعا عن النظام الرأسمالي، وتشكيل مجتمعات مستقلة. لقد كانت هذه الرؤية التي حاول مرارا وتكرارا العيش بها. وعند إطلاق سراحه من فترة سجنه الأولى - التي حُكم عليه فيها بسبب كتاباته في مجلة «دير سوزيالست Der Sozialist» - انضم إلى الجهود المجتمعية التي تسمى «المجتمع الجديد.» وهنا التقى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر Martin Buber، الذي أصبح صديقا له مدى الحياة. تلا ذلك فترة من الهدوء النسبي، عمل خلالها على ترجمة أعمال شكسبير ومايستر ايكهارت Meister Eckhart.
رغم كونه ملحدا، إلا أن غوستاف لانداور كان معجبا بشكل كبير بشخصية السيد المسيح، وذكر في كتابه «دعوة إلى الاشتراكية» أن «يسوع كان شخصية لا تنضب حقا...فماذا كان سيكون مصير الأنظمة القائمة التي تُدار بها حياتنا، بدون هذا الهدوء والسكينة ومعاناة الواحد العظيم على صليب البشرية!» لقد بدأ يرى من خلال بوبر أنه في اليهودية أيضا هناك خطوط عريضة لقوة من شأنها أن تجلب البشرية معا في عصر مسيحاني قادم. وإنّ الأساطير الحسيدية التي تعلمها، والتي أوضحها الفيلسوف مايكل لووي Michael Löwy في دراسته التي أجريت عام 1992م بعنوان «الفداء واليوتوبيا: اليهودية التحررية في أوروبا الوسطى،» شكلت بالنسبة إلى غوستاف لانداور «المستقبل في إطار الحاضر، والروح في نطاق التاريخ، والكل في إطار الفرد...الإله المحرر والموحَّد في داخل الإنسان المسجون والمتهالك؛ والسماوي في مجال الأرضي «.
في عام 1908م، في نهاية فترة من الهدوء، ساعد في تأسيس الرابطة الاشتراكية، وهي اتحاد للمجتمعات التعاونية. ونشر في عام 1911م كتابه «نحو الاشتراكية،» وهو أوضحُ وأكملُ بيان لفكره، الذي مفاده أن: «الاشتراكية لا علاقة لها بالمطالبة والانتظار؛ الاشتراكية تعني العمل.»
«كان يسوع شخصية لا تنضب حقا - غني جدا، سخي ووفير للغاية.» غوستاف لانداور
وقد أفضت الحرب العالمية الأولى إلى إنهاء أنشطة الرابطة، لكن حتى أثناء الحرب، شجع غوستاف لانداور الألمان على أن يعيشوا حياة تعاونية مثمرة: بزراعة الطعام على حافة الشوارع وفي المروج - وهذه المشاريع ستكون مدارس مجتمعية. وبعد الهدنة، هزّ ألمانيا انفجار الاهتمام بالتغيير الاجتماعي- والاهتمام بفوضوية غوستاف لانداور، واللعبة الأكثر دموية للثورة الشيوعية. وقد كتب في مراجعة أحد الكتب عام 1910م، أن الماركسيين الشيوعيين «اعتادوا على التعايش مع المفاهيم، لا مع الناس. وكان هناك فصيلان منفصلان بينهم بصورة ثابتة، ويقفان أحدهما ضد الآخر كأعداء؛ إنهم لا يقتلون البشر، بل يقتلون مفهوم الاستغلال...»
لم يكن مثل هذا العنف أسلوب من أساليب غوستاف لانداور أبدا. فقد أصر ذات مرة على أنه «لا يمكن أن يكون هناك سوى مستقبل أكثر إنسانية، إذا كان هناك حضور لمساعي أكثر إنسانية.» إلا أنه قد تم القضاء عليه في حملة الحكومة التي شنتها على كل ما يناهض الانشقاق، وفقا لما كانت ترتأيه. وبعد اغتياله، وجدتْ إحدى بناته جثته ملقاة في إحدى المقابر الجماعية.
لكن موت غوستاف لانداور الجسدي لم يقتل إرثه الفكري؛ فقد تنامى تأثيره. وكانت رؤية غوستاف لانداور لشبكة متحدة من المجتمعات الزراعية هي المخطط الأولي لكيبوتسات إسرائيل؛footnote كما شكلت أفكاره بشكل عميق، فكر مؤسس حركة برودرهوف للحياة المسيحية المشتركة وهو ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold، مما دفع الأخير في عام 1920م إلى تأسيس مجتمع مستوحى إلى حد كبير من أفكار غوستاف لانداور المثالية.
سأل غوستاف لانداور في كتابه «دعوة إلى العمل» عام 1911م: «ماذا الذي صنعناه لجيلنا الأصغر؟...رجال صغار جبناء بدون حيوية الشباب، والقوة، والشجاعة، وليس لديهم أيّ فرحة لمحاولة عمل أيّ شيء...غير أننا نحتاج إلى كل ذلك. فنحن بحاجة إلى الجرأة للقيام بمحاولات عديدة...نحتاج إلى إخفاقات بعد إخفاقات، وشخصية قوية التي لا يخيفها شيء، وتبقى ثابتة بصورة دائمة، وتبدأ من جديد مرارا وتكرارا حتى تنجح، وتحقيق ما تريد، إلى أن يصبح من الصعب التغلب علينا. وإنّ كل من لا يتحمل أن يعرِّض نفسه لخطر الهزيمة، والشعور بالوحدة، والانتكاسات، لن يحقق النصر أبدا...إذ نريد إبداعا نابعا من القلب، ومن ثم نريد أن نعاني حتى من خيبة الأمل، إذا لزم الأمر، ونحتمل الهزيمة حتى نحقق النصر ونرى أرض الميعاد.»
هوامش
- كيبوتس Kibbutz هو مجمع يهودي سكني وتعاوني، متقاسم في العمل ومصاريف المعيشة الرئيسية، وهناك الكثير من الكيبوتسات في إسرائيل.
جيسون لاندسل Jason Landsel فنان لسلسلة مقالات «شخصيات رائدة» في مجلة المحراث Plough، بما في ذلك لوحة هذه المقالة.